إن الإنسان بعظمته التي يعتقدها، إنما هو جزء بسيط في هذا الكون الواسع، وهذه الأرض وما فيها هي أيضًا جزء بسيط مقارنة بباقي الموجودات والعوالم الأخرى؛ التي نعلم بوجودها وإن كنا لا نعلم كنهها كعالم الجن وعالم الملائكة وعوالم أخرى لا نعلم عنها شيئا، كل هذه الموجودات على اختلافها تشترك جميعًا في أنها تسبح الله سبحانه وتعالى وتقدسه وهذا ما تنص عليه الآية الشريفة صراحة يقول عز من قائل: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(الإسراء:44)، يتضح من قوله هذا أن جميع المخلوقات والموجودات والأشياء تسبح الله، فلا استثناء في الآية.
إن الذي يتأمل هذه الآية يدرك أن كل المخلوقات تسبح بحمد ربها، الإنسان والشجر والنجوم و…، ولكن ما لفت انتباهي أن الله تعالى قال: ﴿وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(الإسراء:44)، ولم يقل ولكن لا تسمعون تسبيحهم، إذن نحن يمكن أن نسمع تسبيح هذه المخلوقات ولكن لا نستطيع ترجمتها ولا نستطيع أن نفقهها، فالفقه يكون بعد السماع، وهذا ما اكتشفه العلماء في أيامنا هذه؛ فقد لاحظ العلماء أن بعض النباتات تصدر ذبذبات صوتية في المجال الذي يسمعه الإنسان، أي ضمن ترددات من 20 إلى 20000 ذبذبة في الثانية، ولكن الإشارات الصوتية التي تطلقها هذه النباتات ضعيفة جدًا ولا يمكن سماعها إلا بعد تقويتها وتكبيرها آلاف المرات.
كل شيء في الوجود يتكلم ويصدر ترددات صوتية، فالنباتات والأشجار لها أصوات محددة وتتأثر بالأصوات أيضًا، وهذا ما اكتشفته الأبحاث الجديدة في علم النبات.
فكل شيء في الوجود يتكلم ويصدر ترددات صوتية، فالنباتات والأشجار لها أصوات محددة وتتأثر بالأصوات أيضًا، وهذا ما اكتشفته الأبحاث الجديدة في علم النبات.
ثم بدأ العلماء يلاحظون أن بعض النجوم تصدر أصواتًا مسموعة، فالنجم “النيوتروني” الذي سماه الله تعالى بالطارق يصدر صوتًا يشبه صوت المطرقة، والثقوب السوداء تصدر أصواتًا أيضًا، ومنذ فترة تمكن العلماء من تسجيل الصوت الذي أصدره الكون بعد ولادته، ولكن من أكثر الاكتشافات غرابة أن الخلية الحية تصدر ترددات صوتية، وهذا ينطبق على جميع الخلايا، وكانت أوضح الترددات ما تصدره خلايا القلب!.
فقد اكتشف الدكتور “Gimzewski” أستاذ الكيمياء في جامعة كاليفورنيا وباستخدام كمبيوتر ذري، أن كل خلية تصدر صوتًا محددًا يختلف عن الخلية الأخرى.
حتى الشريط الوراثي داخل خلايا أجسامنا، خلايا الدم والخلايا العصبية في الدماغ…، جميعها يصدر ذبذبات صوتية محددة، وكأنه يسبح الله ليل نهار.
الدلافين والصراصير والطيور والنحل وغيرها من الكائنات الحية جميعها تصدر أصواتًا، ثم اكتشف العلماء أن الفيروسات تصدر ترددات صوتيه، حتى إنهم يحاولون ابتكار طريقة جديدة للكشف المبكر عن الأمراض بتتبع أصوات الجراثيم والفيروسات في الجسم.
وقد يتطور العلم فيكتشف أن الذرة تصدر ترددات صوتية، فيكون بذلك كل شيء يسبح لله كما أخبر بذلك القرآن، ويكون هذا من الأدلة العلمية على صدق هذا الكتاب وسبقه العلمي، بل إن العلماء اليوم يعتقدون أن كل شيء في الوجود له صوته المحدد والخاص به، ويقولون: “إن قوة غريبة موجودة في كل مكان تسيطر وتؤثر على كل شيء نراه أو نشعر به”.
أليست هذه القوة هي قوة الله تعالى خالق الوجود؟ لماذا لا تكون هذه الأصوات هي أصوات تسبيح وخضوع لله تعالى وتعظيم وشكر لنعمه عزّ وجلّ؟
روي الإمام البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: “كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل”.
أنواع التسبيح:
ينقسم تسبيح المخلوقات لخالقها إلى تسبيح فطري تسخيري للخلق غير المكلف، وتسبيح اختياري إرادي للمكلفين من خلق الله، ويمكن إيجاز ذلك فيما يلي:
أولا التسبيح الفطري التسخيري للملائكة:
تسبيح الملائكة هو من أمور الغيب التي يعجز الإنسان عن إدراكها ولا سبيل له إلى معرفتها إلا عن طريق وحي السماء.
فإذا تحدث القرآن الكريم عن تسبيح الملائكة فلابد للمسلم من الإيمان بذلك وإن لم يستطع إدراكه بحسه المحدود وبقدراته المحدودة.
ثانيًّا التسبيح الإرادي الاختياري للمكلفين من عقلاء الأحياء من الإنس والجن:.
فتسبيح العقلاء المكلفين من الجن والإنس هو تسبيح إرادي اختياري يقوم به الصالحون منهم، ويحرمه الكفار والمشركون من العصاة المغضوب عليهم ومن الضالين. وهذا التسبيح يشمل ذكر الله على كـل حال بأسمائه الحسني وصفاته العليا وبكل نعت يليق بجلاله، ويثبت له من صفات الكمال المطلق ما أثبته الله تعالى لذاته العلية وينـزهه عن كل وصف لا يليق بمقام الألوهية من مثل ادعاء الشريك أو الشبيه أو المنازع أو الصاحبة أو الولد.
ثالثًا التسبيح الفطري التسخيري للأحياء غير المكلفين:
منذ فترة قصيرة أدرك المتخصصون في علم سلوك الحيوان أن للعديد من المخلوقات من مثل القردة العليا، وغيرها من الحيوانات الأرضية وأسود البحر والدلافين والحيتان، وغيرها من الحيوانات البحرية والطيور من مثل الحمام والببغاوات والهداهد والغربان والحشرات، ومثل ذلك ممالك النحل والنمل، كل هذه المخلوقات لها قدرات متفاوتة على التعبير بلغات خاصة بكل منها وعلى إدراك الذات والغير وعلى اكتساب المعارف المختلفة.
إن هذا الإدراك الفطري يعين كل مخلوق أيضًا علي التمييز بين العابدين الصالحين والعاصين المقصرين من الخلق المكلفين فيتعاطف مع صالحي المكلفين ويتنافر مع عصاتهم المقصرين، وإلا فمن علم هدهد سليمان أن عبادة قوم سبأ للشمس كفر بالله تعالى، وانحطاط عن مقام التكريم الذي منَّ الله تعالى به علي بني آدم وأن السجود لا يجوز إلا لله رب العالمين؟، وكذلك من عرف نملة صغيرة بشخصية نبي الله سليمان عليه السلام من علم سليمان لغة النمل غير الله الخالق سبحانه وتعالى؟
ولغات كل نوع من أنواع الحيوانات يعلمها الله تعالى لمن يشاء من عباده، كما فهمها لعبده ونبيه سليمان عليه السلام معجزة خاصة به وخارقة تخالف مألوف البشر.
رابعًا تسبيح أجساد الكائنات الحية هو صورة من صور التسبيح الفطري التسخيري للجمادات:
من أعجب الاكتشافات العلمية الحديثة أن الأحماض الأمينية -وهي اللبنات الأساسية لتكوين الجزء البروتيني الذي تنبني منه أجساد الكائنات الحية- لها القدرة علي ترتيب ذراتها ترتيبًا يمينيًّا أو يساريًا وأنها في جميع أجساد الكائنات الحية تترتب ترتيبًا يساريًا، ولكن الكائن الحي إذا مات فإن الأحماض الأمينية في بقايا جسده تعيد ترتيب ذراتها ترتيبا يمينيًّا بمعدلات ثابتة تمكن الدارسين من تقدير لحظة وفاة الكائن الحي بتقدير نسبة الترتيب اليميني إلى اليساري في جزيئات الأحماض الأمينية المكونة لأية فضلة عضوية متبقية عنه، وتسمي هذه الظاهرة باسم ظاهرة إعادة ترتيب ذرات الأحماض الأمينية ترتيبًا يمينيًّا.
خامسا: تسبيح الذرات والجزيئات والعناصر والمركبات في صخور الأرض وجبالها:
الجبال وصخورها والمعادن المكونة لتلك الصخور والجزيئات والذرات المكونة لتلك المعادن واللبنات الأولية المكونة لتلك الذرات كلها يسبح الله تعالى بلغته وأسلوبه وطريقته الخاصة به. وقد أمكن الاستماع إلى أصوات ذبذبات اللبنات الأولية للمادة في الذرة.
فالجبال ليست كتلا هامدة كما يظن البعض ولكنها تتحرك جانبيًّا بالتضاغط والتثني والطي، كما تتحرك رأسيًّا بالتصدع والرفع من أسفل إلى أعلي بواسطة مختلف قوي الأرض الداخلية وبفعل عوامل التعرية.
فمن رحمة الله بعباده أن أصوات الجمادات تبلغ من الضعف والخفوت ما يجعلها محجوبة عن آذان الخلق إلا بكرامة من الله تعالى وفضل منه أو باستخدام تقنيات متقدمة للغاية وشتان ما بين الوسيلتين.
حقًا إن من رحمة الله تعالى أن حجب عنا تلك الأصوات وإلا أصبحت الحياة جحيمًا لا يطاق، إذا تكاثرت الأصوات من حولنا وتداخلت دون توقف أو انقطاع، ولتعطلت قدرات الإنسان عن العمل أو التفكر أو التدبر أو العبادة أو النوم أو الراحة والاستجمام، بل لفقد الإنسان عقله إذا استمع إلى جميع ما في الوجود من حوله وهو يتكلم في وقت واحد.
يقول الأستاذ فتح الله كولن في كتابه عقبات في سبيل الحق: “إن الكون كتاب رائع من أوله إلى آخره، فإذا ما طالعنا أيّا من حروفه وجدنا الله تعالى…، المهم هو التمكن من رؤية قدرة الله تعالى ومشيئته وإرادته حتى في أوراق الأشجار وفي الشتلات والفسائل المتمايلة. ولاسيما في الإنسان فإن بيديه ورجليه ولسانه وشفتيه وعينيه وأذنيه معلم يمثل كتابًا بحجم مجلدات لابد من مطالعتها، ومحاولة الإنسان قراءة هذا الكتاب قراءة صحيحة تعني استخدام عينيه ومنطقه ومحاكمته العقلية في اتجاه الفطرة السليمة.