سادت البشريةَ حضاراتٌ وأمم مختلفة ومتنوعة تركت بصماتها على العالم، منها حضارة الإسلام التي تحمل في ذاتها مقومات انبعاثها من حالات الوهن والانحطاط والتبعية كلما سقطت فيها، مستمَدة من تدبر محكم للقرآن الكريم ولسنة رسول الله ، ومن تَبصُّرٍ لمبشرات المد الحضاري والتاريخي للأمة واستعصائها على الإبادة. ومنذ زمن طويل والأمة تعيش أزمات على كل المستويات، وتعاني سقوطًا حضاريًّا مهولاًعلى الرغم من بعض مظاهر الرقي والتقدم المادي، في معزل عن منظومة القيم والأخلاق.
ويندرج كتاب ” ونحن نبني حضارتنا ” للأستاذ فتح الله كولن في سياق مشروع نهضوي إسلامي متكامل، يهدف إلى انبعاث الأمة وإخراجها من مستنقعات الانحطاط والوهن والتبعية. وقد بدأت بُذُوره تنمو ببطء منذ القرن التاسع عشر رغم ظروف الاستعمار ومخلفاته في كل الدول الإسلامية، والسياحات المستمرة في مراتع الملل والنحل، وعدد كبير من المعوقات التي تحول دون النهوض المستقيم للأمة . وجهود الأستاذ محمد فتح الله كولن تصب في مجال هذا المشروع، وتقتفي خطوات الذين سبقوه، كبديع الزمان سعيد النورسي، ومحمد إقبال، ومالك بن نبي، وغيرهم من المصلحين الذين يمتد سند إصلاحهم وتجديدهم ليصل إلى قدوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حين تصبح حياة الإنسان مصبوغة بالإيمان مهتدية بيقينيات الوحي، تتلقى روحه حقيقة فريدة هي المحبة، والمحبة هي نُسْغُ الحياة الكريمة التي تسري من خلالها مجموعة من القيم كالتسامح والعدل والإخلاص.
وتأسيس الحركة التي كولن على رأسها لمئات المدارس في أنحاء العالم، وإنشاء الصحف والمجلات والتلفزيونات والمراكز الثقافية الخاصة بها، والشركات والأعمال التجارية والمؤسسات الخيرية، وامتداد نشاطها إلى إقامة مراكز ثقافية خاصة بها في عدد كبير من دول العالم، والمؤتمرات السنوية، المتعاونة مع كبريات الجامعات العالمية من أجل دراسة الحركة وتأثيرها وجذورها الثقافية والاجتماعية.. كل هذا يصب في إطار المشروع الحضاري المتكامل الذي تُعدّ كتابات كولن جزءًا منه، وتؤسس لكيفية مواجهة تحديات الأمة، وتفرش السبل لانبعاثها وإحيائها كي تأخذ مكانها الصحيح في التوازن الدولي.
فالأمة اليوم “أمام أحد خيارين: إما الكفاح المصيري في الهمة والذي يؤدي بنا إلى الانبعاث، وإما الخلود إلى الراحة والاسترخاء الذي يعني الاستسلام للموت الأبدي”. ويقين كولن القوي بانتساب الأمة إلى دينها كفيل – في اعتقاده – بالانتفاع بما تختزنه من مقومات النهوض والرقي، لأنه ما برح ” مصدر عز وقوة لأتباعه الذين يؤمنون به ويحبونه بصدق، وقد أسعدهم بقدر صدق انتسابهم، ولم يوقعهم قط في خذلان دائم أو متماد. فمنذ عهد الصحابة رضي الله عنهم وحتى اليوم، كمْ عشنا بفضله في فترات مختلفة عصورًا ذهبية وأقمنا حضارات زاهية”. لكن هذا كان مشروطًا بالهمة والمجاهدة، وليس “بالقعود والحلم بالكرامات الخارقة، وغض البصر عن العادات والسنن الإلهية.”
كولن ورؤيته للانبعاث
ويصوغ الأستاذ كولن رؤيته للانبعاث من منطلق مقومين أساسيين : الإيمان والهدف . وهما ينطويان على مجموعة من الأسس والمرتكزات نجدها مبثوثة في مجموعة من المقالات التي تضمَّنها كتاب “ونحن نبني حضارتنا ” ، كما قد نجدها في كتبه الأخرى، لأنها تتكامل فيما بينها لتقديم رؤيته المتجانسة حول قضايا البناء، من أجل أن يعيش الإنسان الحقيقة في توازن مع فطرته ومع الكون من حوله.
الإيمان
إن الإيمان هو المقوم الأول الذي يغرسه كل الأنبياء والمصلحين من أجل البناء الحضاري، لأنه متى استقر في النفس ووقع تجديده كل حين، أحدث قوة دافعة لتحقيق غاية وجود الإنسان في هذا الكون، فهو لا يحدث خفة وتحليقًا في الآفاق فحسب، وإنما ينعكس سلوكًا وممارسة في كل مناحي الحياة، أي يعيد إحياء الإنسان من جديد، ويحرك مداركه وأفعاله نحو الخير والحق والعدل والجمال . وقد ظل رسول الله يركز عليه في مكة طيلة الثلاث عشرة الأولى من عمر الدعوة، ويشحن النفوس بأكبر قدر من الطاقات الإيمانية.
ولما بدأ البناء العملي في المدينة، كانت الأرواح والنفوس المؤمنة حق الإيمان، مهيأة للقيام به فتعالى البناء في سنوات معدودة . وقد ظلت هذه الدعوة قائمة من أجل الانبعاث والإحياء كلما ابتعد المسلمون عن هذا المقوِّم، يكفل الله تعالى لها من يجددها في النفوس لتحياها الأمة حقيقة في ممارساتها وسلوكياتها. وهذا ما يؤكد عليه الأستاذ كولن حين يجعل الإيمان مقوم كل انبعاث وإحياء، يتفرع عنه مجموعة من الأسس والمرتكزات واللبنات لتفعيل ذلك الإيمان وتنزيله إلى الحياة. من هذه الأسس:
أ – الإنسان : لأنه المحور الذي يدور حوله الكون، وهو سيد الأرض، وعمرانها مرتبط أساسًا بمدى أهليته واستعداده. وصلاحها أو فسادها مرتبطان بصلاحه أو فساده. فالشخصية الإنسانية السوية لا تتكون إلا من خلال الإيمان الصحيح، فالإيمان يغطي ” سماء أحاسيس الإنسان وشعوره وإدراكه، ثم تستحيل العلوم والمعارف كلها إلى العشق والاشتياق والحرص بحملة وهمة داخلية وشعور وحس داخلي، ليحاصر ذاك الإنسانَ من كل جهة، فيحوله إلى إنسان جديد قائم على محور الوجدان. فتنعكس هذه الحالُ على كل سلوكيات هذا الإنسان العاشق المشتاق. فتحمل عبادتُه وطاعته سماتٍ ترتسم بخطوط هذه العلاقة والرابطة وذلك العشقِ والاشتياق، وتصير مناسباتُه البشرية انعكاساتٍ لهذه اللدنيَّة.
وتتمحور حملاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية كلها حول هذه القوة الجاذبة “إلى المركز”. فتتشكل فعالياته الفنية وأنشطته الثقافية بهذه المقومات الداخلية وتتوسع بها، وتبرز بألوان القلب وأدائه الجميل”. وحين تصبح حياة الإنسان مصبوغة بالإيمان مهتدية بيقينيات الوحي، تتلقى روحه حقيقة فريدة هي المحبة. والمحبة هي نُسْغُ الحياة الكريمة التي تسري من خلالها مجموعة من القيم كالتسامح والعدل والإخلاص.
وتزكية النفوس عند الأستاذ كولن وشحنها بالطاقات الإيمانية، تستوجب تجديدها كل مرة حتى لا تنساق وراء ما يعكر نقاءها وطهرها، لأنه لا يمكن أن “يجتمع في القلب إيمان وارتباط بالله مع الحقد والكره والغيظ، وبالأخص إذا كان القلب يحافظ على جلائه ورونقه بتجديد إيمانه وانتسابه للحق تعالى وميثاقه ” ، فإذا استقر ذلك، فاض القلب وتدفق حبًّا واهتمامًا وتسامحًا “إزاء المخلوقات إجلالاً للخالق، والمصنوعات إجلالاً للصانع”. وبقدر تأصيل حقيقة الإيمان في العمق، تتنامى بذورها وتترعرع في الحياة وتكون مصدر الانبعاث والتطور.
الأمة اليوم أمام أحد خيارين، إما الكفاح المصيري في الهمة والذي يؤدي بنا إلى الانبعاث، وإما الخلود إلى الراحة والاسرخاء الذي يعني الاستسلام للموت الأبدي.
ويقترن كل هذا بالحرص على العلم والتحري، والشغف بالبحث واكتساب المهارة في كل مجال، والتحفيز والتشجيع والمكافأة على ذلك، لأن المسلم ملزم بالبحث ” عن كل فائدة ومصلحة حتى وإن كانت في أقصى بقاع الأرض ويطلبها أنَّى يجدها. وكما اقتبس في الماضي من علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والهندسة والطب والزراعة والصناعة والتقنيات الأخرى أينما وجدها ثم قوَّمها وطوَّرها وأودعها أمانة للأجيال الآتية، فاليوم أيضًا يأخذ كل ما يمكن أخذه أينما وجده، وينميه ويطوره -إن استطاع- ويُودِعه أمانة للوارثين الجدد”. ورغم هذه الدعوة إلى الاستفادة والانفتاح، فإن كولن يحذر من الاتكاء على المصادر الأجنبية في الأمور المتعلقة بالنظم العَقَدية والفكرية، والموضوعاتِ المرتبطة بالكتاب والسنة وبكل ما يتعلق بالرسول صلى الله عليه و سلم وسيرته، وطرائقِ التحليل والبحث في السيرة وتاريخ الإسلام، والفن والأدب ونحوها.
ذلك لأن الذين أقاموا بنيانهم الفكري على معاداة الإسلام، والناظرين إلى الإسلام وكأنه خارج الوحي السماوي، لا يُرجى منهم التصرف بحسن النية وطلب الخير للمسلمين وتمنِّي التقدم لهم. أما العلم والتكنولوجيا – وهما خارج إطار ما ذكرناه – فقد عهدناهما في أخذ وعطاء بين الأمم في الماضي، وستستمر المبادلة فيهما مستقبلاً، وتنتقل أمانة ووديعة في أيدي حائزيها . فالعلوم والتكنولوجيا ليست حكرًا لدين أو أمة”. وهذا يؤدي بالباحث إلى الأساس الآخر الذي يراه كولن يتفرع عن الإيمان، وهو ما أسماه في ” ونحن نبني حضارتنا” بـ” الكينونة الذاتية”.
بـ – الكينونة الذاتية : ويشرحها بقوله : “إن المعنى الذي نقصده من ” الكينونة الذاتية” ، هو إبراز هويتنا الداخلية المنسوجة من ميراث حضارتنا الذاتية وثقافتِنا الذاتية، وجعلُها ” المحور ” الذي ندور حوله”. فالإرث الحضاري بكل مكوناته الثقافية والاجتماعية الذي تمتلكه أي أمة، يعتبر أساسًا من أسس بنائها، ولا غنى عنه إذا أرادت أن تمضي نحو المستقبل، وخاصة المكون الثقافي باعتباره “مجموعة نظم وقواعدَ تحكم التصرفات الاجتماعية والأخلاقية التي أنتجتها وأصَّلتها أمة في أثناء تاريخها الطويل، وجعلتها بمرور الزمان بعدًا من أبعاد وجودها أو حوَّلتها إلى مكتسبات في اللاشعور”.
وهذه الثقافة تُعَدُّ مكتسبات لا يجب النظر إليها “كشيء قديم تمامًا، بل بإضافة شيء من العمق إليها حسب متطلبات الأحوال والظروف”. ويشير كولن بأن ما قامت به بعض الشعوب التي أرادت النهوض بعد كبوة وسقوط مثل اليابان وألمانيا، هو الحفاظ على ثقافتها ومكوناتها الذاتية، وتنميتها من أجل تمكين الانبعاث من النمو في أجواء صحيحة وطبيعية. كما يلفت النظر إلى خطأ وقعنا فيه كما يقول:”وهو أننا بدلاًمن جعل القديم أساسًا متينًا ليقام عليه الجديد وتطوير القديم بمعطيات الجديد، فصلناهما في أكثر الأحوال إلى شريحتين ربطناهما بحقبتين منفصلتين، فأحيانًا استعدينا بعضهما على بعض، وأحيانا أخرى عارضنا بينهما فأدينا إلى حصول معضلات في الأسس”.
ويعتبر أن المصادر الأساسية لميراثنا الثقافي التي يجب أخذها بقوة وتأصيل قيمتها ودورها في البناء المعرفي لمختلف الأفكار والمواقف والأحكام خاصة في مجال المواضيع المتعلقة بالإنسان والكون والله؛ هي الكتاب والسنة، والتي تفرعت عنهما مختلف العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك . فميراثنا الثقافي المستند إلى مصادره الأساسية يدخل في إطار الكينونة الذاتية الساعِيَة إلى القيام بوظيفة الإشعاع الحضاري، والتمكين للعودة إلى مستوى الخيرية التيوُصِفَتْ بها الأمة، وإحلال هذه المصادر في حياتنا يتم في إطار معرفي، يرقى إلى جعل العقل مناطَ التكليف وعنصر التفكير والتأمل، وهذا هو الأساس الآخر المتفرع عن الإيمان.
جـ – العقل المفضي إلى المعقول : يعتبر كولن العقل مركز حراسةٍللروح باعتباره موجِّهًا للإنسان إلى التفكر والإدراكِ والفهمِ ومانعًا له عن القبائح وحاثًّا له على المحاسن، وعقيدة التوحيد في القرآن الكريم موافقة للعقل، لذا نجد الله تعالى يحيل كل المسائل التي يتناولها في القرآن الكريم – عدا أوامره التعبدية المتعالية – إلى العقل والمنطق والتفكر والتأمل. كما يرشد القرآن الكريم في كثير من آياته إلى المعقول الذي يربط الخلق بخالقه، ويدعو إلى التعقل والتفكر والتعمق في الإيمان والإثراء في المعرفة. فالعقل المتفكر المتأمل في النفس والكون، يؤدي إلى تفتُّح الحواس وفاعليتها لتؤدي وظيفتها الحقَّة، أما تعطيلها فهو يفضي بانتقال الإنسان من آدميته إلى صورة أخرى يفقد فيها خصوصيته ومعقوليته، وبالتالي لن يستطيع المسلم تحقيق غايته في البلاغ والنهوض بالأمة، في مجتمع موسوم بالجمود العقلي والفكري كما ورد ذلك في قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَيَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَيُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَيَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون (الأعراف:179 ).
ويفصل في مفهوم المعقول بمقارنته باللامعقول فيقول: “هو قراءة الوجود والأشياء والتفكيرُ بها وتقويمها . ومن بَعدِ التقويم ربطُها بوشائج الإيمان والمعرفة والخالق. واللامعقولُ: هو إسناد كل شيء من الأشياء وكلِّ حادثة من الحوادث إلى الأسباب المختلفة أو الطبيعة أو أمور أخرى. المعقول: هو استغناء الخالق وجودًا وتوحيدًا عن الشريك والنظير والمُعين؛ وغيرُ المعقول: هو فكر الشرك والإلحاد بصوره وأشكاله كافة. المعقول: هو ضرورة الأنبياء والرسل المرسَلين من الله إلى البشر لشرح الأشياء والحوادث وتفسيرِ الوجود وربطِه بالحقيقة المفردة؛ وغير المعقول: هو رد النبوة والرسالات الإلهية.”.
الإيمان لا يحدث خفة وتحليقًا في الآفاق فحسب، وإنما ينعكس سلوكًا وممارسة في كل مناحي الحياة؛ يعيد إحياء الإنسان من جديد ويحرك مداركه وأفعاله نحو الخير والحق والعدل والجمال.
ويستند الأستاذ كولن في هذا الأساس على بديع الزمان النورسي، الذي حثَّ بإصرار على ” قراءة كتاب الكون واستشراف آفاقه والتطلع إلى معرض الوجود. وحثُّه هذا تعبير عن المفهوم المتوارث من ممثلي المعقول: الأنبياء والأصفياء والأولياء وعلماء الإسلام. ومع استحضار اختلاف الخط حسب الزمان، كان محتوى الرسالة والطريق المتبعة واحدًا لا يتغير: التحري المستمر في الأرض والسماء، وخَضُّ الأشياء واستبطان مغازي الأشياء والأحداث، وتسليمُ كل الأشياء إلى مالكها الحقيقي. وبعد ذلك، الإحساسُ باطمئنان هذه المعقولية في الوجدان، وتحوُّلُ العلوم المؤدية إلى المعرفة : كل علم إلى نبع يُروي الذوق الروحاني . ومن ثم، تقاسُمُ مَنْ في الأرض ومَنْ في السماء تلك الحالَ الروحية .
2- الهدف
إن الانبعاث الحضاري ينبغي أن يكون له جناحان كي يطير نحو آفاق الله: الطاقة الإيمانية وشحن النفوس بها وتثبيتها بمرتكزاتها الأساسية، ثم وضوح الرؤية والهدف، بحيث يكون للإنسان هدف محدد يريد الوصول إليه حتى لا تستنزف مجهوداته الأهداف الفرعية أو الهامشية أو تبعده عن مساره الصحيح. ويوقن فتح الله كولن بأن “المجتمعات التي لا توجد لها أهداف سامية ومثُلٌ عليا، أو وُجِدت ولم تمتلك معهما جاهزية ذهنية تناسبهما، تجدها تتحرك باستمرار لكنها لا تقطع شوطًا، لأن قطع الأشواط يتطلب – منذ البداية – تعيينَ هدف سام يوقره الوجدان ويُرغِّب فيه الانسياق الذاتي في نشوة كنشوة العبادة، ثم تفعيل منظومة سليمة حسب معطيات الظروف والبيئة العامة، ثم توجيه مختلف دورات الطاقات إلى نقطة واحدة معينة، ويعني تسخير التراكم العلمي والتجريبي والطاقة الكامنة لأمر ذلك الهدف السامي والغاية المنشودة”.
وليس هناك هدف أسمى من “إعداد أجيال مثالية مستهدِفة إنشاء أمة عظيمة”، ويستلهم هذا الهدف السامي العام من عصر النبوة فيقول: “ففي عصورِ تخبط الإنسانية في الظلمات، كان أهم مصادر القوة لتلك الثلة من المجاهدين الأوائل المنبثقة من صدر الصحراء، هو إيمانهم وغايتهم المأمولة في تفريغ إلهامات إيمانهم الفوارة في قلوبهم أبدًا إلى صدور الآخرين. فبحملة واحدة بدلوا مصير الدنيا من النحس إلى السعد، وبنفخة واحدة صاروا صوت الأمل ونَفَسه في ثلاث قارات”. والمقصود بنوال الهدف هو رضا الله . ويتفرع عن هذا الهدف السامي مجموعة من الأسس المهمة التي يرتكز عليها، منها :
أ – العمل: منذ العنوان الرئيس والأستاذ كولن يوحي بضرورة تكثيف الجهد والعمل، فكلمة “نبني ” تكشف عن رغبة في جعل العمل أساسيًّا لبلوغ أهدافنا، و”المؤمن المسلم من يجعل الإيمان بهذا الدين إحياء لحياته” بالعمل لأنه يحتسب كل عمل من ضرورات السبيل لكسب رضا الحق تعالى. والعمل والبناء يجب أن يقام على الإنسان والأخلاق والتعليم والثقافة بكد وجهد، أما استكشاف طرق سهلة ورخيصة للحصول على نعم الحضارة وتقاسمها لا يجدي سوى تراوح الأمة في مكانها لا تبرحه”.
بـ – البيئة : إن البيئة بالنسبة للإنسان تتحدد في عنصرين رئيسيين هما : العنصر المادي؛ أي كل ما استطاع الإنسان أن يصنعه كالمسكن والملبس ووسائل النقل والأدوات والأجهزة التي يستخدمها في حياته اليومية، والعنصر المعنوي الذي يشمل عقائد الإنسان وعاداته وتقاليده وأفكاره وثقافته وكل ما تنطوي عليه نفس الإنسان من قيم وآداب وعلوم تلقائية كانت أم مكتسبة، ويقصد بها الأستاذ كولن هذا العنصر المعنوي، من هنا تعد البيئة من أهم أسس البناء الحضاري التي تنتج ثمار الأهداف.
وقد أهَّل الإسلام الإنسان لإنشاء البيئة الصالحة من فكر وثقافة ونظم ومؤسسات تعليمية ومدنية لخدمة المصالح البشرية، فإذا لم تكن البيئة صالحة تثير العشق العلمي وتلهب العزائم على السعي والإنجاز وتشجع على ذلك، وإذا لم تكن منسوجة بتراث الأمة الثري فإنها لن تنتج سوى العجز والفشل والتبعية، ذلك أن “النجاحات الخارقة للعادة – المتحققة أمس واليوم- والتكوينات العالمية الكبرى، مرتبطة -إضافةًإلى عبقرية الأفراد ونبوغهم – بالبناء الاجتماعي المولدِ للعبقرية، والوسطِ المناسب لتنشئة المكتشِفين، والبيئةِالعامة الحاضنة للقابليات” ، ولن يثمر أي جهد أو عمل أو عبقرية إذا لم تُيسَّر لها البيئة الملائمة المنسجمة مع مقومات الأمة الذاتية والمتوافقة مع رؤيتها ومبادئها الحضارية”.
يعتبر كولن العقل مركز حراسةٍللروح باعتباره موجِّهًا للإنسان إلى التفكر والإدراكِ والفهمِ ومانعًا له عن القبائح وحاثًّا له على المحاسن، وعقيدة التوحيد في القرآن الكريم موافقة للعقل.
” فإن كنا الآن نفكر في إعادة بناء الذات من جديد، ونبحثُ عن أسلوبنا الذاتي الحضاري، فينبغي أن نتخلص من احتلال المفاهيم والأفكار الغريبة في داخلنا، والمبرمجةِ على تخريب جذور الروح والمعنى فينا، وأن نتَّبع -بالضرورة- سبيلاً يُمكّننا من العمل على طبع فكرنا الذاتي ونظامنا الاعتقادي الذاتي، وفلسفتنا الذاتية في الحياة على نسيجنا الحضاري الخاص”.
جـ – الوحدة: إن الإنسان يعيش في وسط اجتماعي يتأثر به ويؤثر فيه، ولا يمكن أن ينسج علاقات مع أفراده إلا إذا كان هناك نوع من التوافق النسبي على التعايش ضمن مجموعة من القيم والمبادئ المشتركة، كما أن أي بناء لن يرتفع ويقوى إلا بتكاثف الأفراد وتضامنهم . وقد نبه الأستاذ كولن إلى هذا الأساس، وذكر أنه “إذا تكاتفت أمة بفئاتها المختلفة وأصبحت كـ” البنيان المرصوص ” كما وصَفَها مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، وسَخَّرت قوّتَها وطاقتها في سبيل تكوين البناء الداخلي وتناغمه، فإن الحَزْن سيصير سهلاً، وسيكون من الطبيعي أن تأخذ تلك الأمة طريقها لتكون عنصرًا فاعلاًفي التوازن الدولي” ، وهو أمر منوط بشروط لا غنى عنها لتحقيقه، منها -أولاً تحصين المجتمع بثقافة ذاتية مبنية على “قيم أخلاقية تتغذى وتتنفس بها، مستندة بقوة الدين المتينة، ومتخطية بالاستناد إليها كلَّ أشكال التغريب”.
وثانيًا ضبط الهدف الذي يدفع الناس نحو الحماس والتحرك بضوابط تحقق الانسجام والتوافق في الأمة، لأن ” الهمم والحملات الفردية إنْلم تنضبط بالحركة المشتركة ولم تنظم تنظيمًا حسنًا، ستؤدي إلى تصادم بين الأفراد لا محالة؛ فيختل النظام وتنهض كل حملة في عكس اتجاه حركة أخرى، وتُنقِص كل عملية من قيمة الناتج حتى يقرب من الصفر”. ويحذر من خطورة التحرك الفردي مهما كان خالص النية وصالحًا فيقول : “ولا يغترنّ أحد بحيوية الحركات ونشاطها كلاًّعلى حدة مهما بلغت، إن لم ترتبط أجزاء التكامل والتوازن بمنظومة أقوى وأمتن؛ فربما لا تسند بعضها بعضًا في خط المقصود العام، فتولد أحيانًا نتائج أشد سوءًا من السكون والجمود”. ويُرجع دوافع الميل إلى التحرك الفردي في الإنسان إلى الأنانية المتأصلة فيه وثقته المفرطة بنفسه، وقصور فهمه لحدود قدرته، وقصور إدراكه لمدى تأثير روح التوحد والتجمع والفعاليات المشتركة والوفاق والاتفاق في جلب العناية الإلهية”.
إن في الكتاب مجموعةً من المعالم المضيئة التي تشع بإشارات ودلالات مكتنزة بفيوضات تسري في أعماقنا، وتشحنها بطاقات تجدد خلايا تفكيرنا ومعارفنا، وتحفزها على البحث عن سبل ووسائل تبلغنا غايات التمكين لهذه الأمة.
وهي جزء من منظومة فكرية تأملية لرائد الخدمة الإيمانية للأستاذ كولن، تقتفي خطى المصلحين الصالحين لتجديد الإيمان في نفوسنا ولإحياء هذه الأمة وانبعاثها؛ بتهيئة وتربية النماذج الإنسانية المجهزة بالقوى الروحية والمعنوية والمادية التي تستطيع اختيار الخير والحق والجميل والصحيح، فيشرفها الله تعالى بوراثة الأرض وبالخلود في الفردوس . واهتمام كولن بالأسئلة المحورية عن مقاصد الوجود الإنساني واستجابته للتحديات الصعبة، تنطلق من رؤية شمولية موغلة في عمق العبودية لله ومطلب رضاه، نَسجَها بشغاف القلب ورحيق الروح، تنطلق من الواقع دون أن تتقيد به إلى آفاق الانبعاث الحضاري وتكوين المجتمعات الصالحة التي لن تتحقق إلا بإعادة صياغة الإنسان صياغة ربانية .
(*) جامعة عبد المالك السعدي، تطوان / المغرب .
المرجع
(1)
ونحن نبني حضارتنا، لمحمد فتح الله كولن، دار النيل للطباعة . 2011 والنشر، القاهرة.