في عالم يعيش حالة مستمرة من التغير السريع المذهل، وحالة من التراكم المعرفي الواسع، وانفجار المعلومات وازدحامها وتوالدها؛ عالم القنوات الفضائية والإنترنت والطرق الإلكترونية السيارة التي تنقل البلايين من الأفكار والمعلومات في كل ثانية.. في هذا الخضمّ اللجّي الذي يضج بالحركة الفكرية استقراء وإنتاجًا ومناقشة وتمحيصًا للمفاهيم، وتخطيطًا للبرامج، وتشخيصًا للقضايا، نجد خطاب الدعوة على هامش حركة التاريخ، كلُّ مُعَوَّلِها على الأساليب البائدة في الوعظ والإرشاد والخطابة. وللأسف حتى هذه الأساليب لم تستثمر في الاتجاه الصحيح بطريقة مؤثرة وإيجابية. فما يزال الخطاب الدعوي يعاني عندنا هزالاً في الأداء والموضوع معًا؛ فسطحية التناول، وتهلهل العرض، والتحيز العاطفي المتعجل، والركون إلى الرواية والاجترار، والعجز عن إعمال طرق الإقناع والبرهان، والقفز على النتائج بقوة الوشائج الصوتية لا بقوة النظر في الأدلة، وبناء النتائج على المقدمات.. كل أولئك صار وصفًا وميسمًا لكثير من الأدبيات والخطابات الصادرة باسم الدعوة.
إن الأخذ بفقه “التوصيل” في الدعوة، فريضة شرعية وضرورة إنسانية ومقتضى واجب الوقت، وهو يعني ما يلي:
أ- أن تقدر الدعوة حاجتها الضرورية إلى التوجيه التواصلي السليم أكثر من التوجيه الخطابي، وأن تعي الحد الفاصل بين فقه التوصيل وبين الخطابة، فالأول يركز على “إدارة” خريطة المدركات والبناء النظري والسلوكي المتكامل للمتلقّي، بينما التوجيه الخطابي يركّز على إثارة الانفعال، ويستجيش ويناشد العاطفة.. الفقه “التوصيلي”، يتعامل مع المصطلحات والخلفيات والمفاهيم والنماذج والمناهج والأنماط المعاصرة، ويجتهد في التحديد العلمي والموضوعي للمشكلات والظواهر، ويفتق الحلول المناسبة لها. أما التوجيه الخطابي، فيتعامل مع الأخلاق والفضائل الذاتية والروايات والمناقب في نطاق يغلب عليه الاجترار والتقليد والبحث عن “الانفعالات” ومن أيّ شيء تكون.
إن فقه “التوصيل” يعني مواجهة تحدّي البناء الثقافي والمعرفي للوعي المجتمعي، باعتباره محركًا للإرادة والفعل في مناشط الحياة الإنسانية بمختلف أبعادها. ولا ريب أن ذلك يستوجب الكثير من الشجاعة في نهج ثلاث خطوات رئيسة: شجاعة النقد الذاتي، وشجاعة مواجهة الأفكار الخاطئة والمغلوطة الجاثمة على وعينا الثقافي وميراثنا التاريخي، وشجاعة البناء والإسهام الإيجابي في ترسيخ أصول فكر تجديدي يفتح المجال أمام قيم ونُظم ونماذج جديدة كفيلة بإخراج مجتمع المعرفة والكرامة والسّلم والتنمية.. وهو مسار إصلاحي عميق مرتبط بمسار إصلاح المجتمع برمته، وبالتحوّلات الحاضرة والمستقبلية التي ستشهدها المجتمعات المسلمة، كما تبدو وثيقة الصلة بتجديد مفهومنا “للداعية”، والدّور والرسالة التي سيقوم بها في المجتمع. وفي جميع الأحوال، إن حاجة الأمة والدعوة في المستقبل لصفوة من أرباب الفقه الواعي الحيّ، تتحلّى بالعلم والبصيرة والفطنة أكثر إلحاحًا من الكثرة الكاثرة من الخطباء.
بـ- إن ما يصلح من أساليب الخطاب في زمان ما أو مكان ما، لا يصلح بالضرورة لكل الأزمنة والأمكنة، إذ لكل عصر معاييره ومفاهيمه ومسلّماته الثقافية التي تشكل درجة قبول الناس للخطاب، وغالبًا ما تكون تلك المفاهيم والمعايير جزءًا من الذوق الثقافي العام. فعلى سبيل المثال يتميز الخطاب التواصلي المعاصر، بعنايته الفائقة بدلالة المجاز أو الدلالة الرمزية في استعمال اللغة، أو الأبعاد المتوارية للعبارة، ذلك لأن السياق الثقافي المعاصر يبدي نوعًا من الامتعاض والنفور من الوعظ البارد، والإرشاد المباشر، والفهم “الحرفي” للّغة. وهذا يعني أن الصيغ التقريرية المباشرة، والإفراط في ذكر المناقب والمثالب، والإسراف في الترغيب والترهيب، والمبالغة في الحكي والسرد، لم يعد مقبولاً بمعيار النظام الثقافي التواصلي الغالب، بل هو ينظر إلى قوة البيان وبلاغة الخطاب على أنها القدرة على صقل الفكرة المتماسكة المقاربة والمفسّرة للمشكلة، ودفع شوائب الغموض عن المفاهيم التي يتم معالجتها ومناقشتها. فصار الخطاب التحليلي المبني على مقدّمات صحيحة وبأسلوب رشيق ولغة ناعمة، أدعى للقبول والوثوق به من الخطاب البلاغي المرتجل الذي لا يسنده تدبّر سابق وفكر ناظم.
جـ- من بين الصّعوبات التي تواجه موضوع الخطاب الدعوي -خصوصًا في أبعاده الفكرية و”المضمونية”- قضية المفاهيم. فالتعامل مع الواقع باعتباره شرطًا لتطبيق الأحكام وتنزيل القيم، ليس مسألة جزئية؛ لأن الربط بين جزئيات الأحكام وكلّي الواقع، يحتاج إلى وسيط معرفي ومنهجي ضروري يتمثل في “بناء المفاهيم”، أو ما يسمّى “بالتأصيل الكلّي”. وهي عملية ما فتئ العلماء يضطلعون بها وهم يؤسّسون علوم الكلام والأصول والفقه واللغة وغيرها.. فقد عمدوا -ابتداء من القرن الثاني الهجري- إلى وضع المصطلحات وضبط المناهج وتقرير القواعد. وكان هذا الصنيع منهم، محاولة اجتهادية لاستقراء المفاهيم وضبطها وتحريرها بحسب السقف المعرفي الذي بلغه مجتمعهم وتجربتهم الحضارية.
ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى ضبط المفاهيم وتحريرها ومراجعتها بناء على ملاحظة طبيعة الواقع المعاصر المستجدّ، وخصائصه وقوانينه الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعالمية. ومن ثم، فإن بؤرة التجديد ومنبت أرومته، إنما تتمثل -بالدرجة الأولى- في بناء المفاهيم وصوغها صياغة مستقلة مبتكرة وملهمة، أو مراجعة المفاهيم السائرة في مجالنا التداولي، لتهذيبها وتنقيحها وعرضها من جديد على أصولها من جهة، وعلى المآلات والنتائج بحسب ميزان المصالح والمفاسد من جهة أخرى.
ويبدو من مقتضيات هذه العملية ولوازمها، التأسيس لمفاهيم جديدة ينطلق منها الفكر الدعوي المعاصر في تعامله مع مختلف القضايا الفكرية والظواهر المجتمعية والسلوكية. ولعل حاجة هذا الفكر إلى استشفاف وضبط المفاهيم الكلية التي تتّسق مع “رؤية العالَم” في كل مرحلة من مراحل الاجتماع الإنساني وتجاربه، لا تقل أهمية عن العلم بالأحكام الجزئية ومعرفة تفاصيل الحوادث المستجدة؛ إذ إن إغفال المسلّمات الثقافية، والرؤية الكلية التي توجه السلوك الإنساني عمومًا وتنتظم مختلف قضايا الواقع وظواهره وجزئياته، يؤدّي إلى وضع الأفكار والقيم والأحكام في غير موضعها، كما أن الغفلة عن تقييدها بالسياق، ومراعاة قرائن الأحوال وموازين الزمان والمكان، قد يفوت المصالح المتوخاة منها.
إن الفلاسفة يقرّرون في أدبياتهم، بأن كل مشكلة تحتاج إلى مفهوم، وبدون تأسيس المفهوم وصياغته لا يمكن بحال حلها ومعالجتها. فالفيلسوف الفرنسي “جيل دولوز”، حاول تجديد الفلسفة بربطها بما سماه “خلق المفاهيم”، داعيًا إلى إعادة النظر في تعريف الفلسفة، حيث خلص إلى أنها “فن تكوين وإبداع وصنع المفاهيم”. وبناء عليه نقول إن الفقيه الداعية المجتهد هو الذي يبدع مفاهيمه، ويراعي فيها روح الوقت، ويبلغ بها درجة الاستقلال صياغة وصقلاً وتطويرًا.
د- أن تقدّر الدعوة حاجتها الضرورية المؤكدة أيضًا إلى الانخراط في شبكة الاتصال المعاصر. إن توظيف وتسخير المؤسسات والوسائل والوسائط التي يتيحها ميدان الاتصال بفروعه المختلفة، والقدرة على صناعة المنتج الدعوي في ميدان الفنون والآداب والتلفزيون والإعلان والخبر والفضائيات والإنترنت، والقدرة على ربط العلاقات مع المؤسسات والجمعيات الإبداعية والسياسية والثقافية والاقتصادية؛ لهو من صميم فروض الدعوة وتكاليفها، وجليل مهماتها ومشاغلها، وهو الذي سيجعلها في موقع التكافؤ والمزاحمة والنِّدِّيَّة مع الإستراتيجيات التواصلية المتجدّدة.
هـ- أن تقدّر الدعوة حاجتها الملحّة والمؤكدة، إلى الإلمام بمفردات ثقافة العصر الضرورية العملية المشتركة، التي تتوفر الدواعي على معرفتها وتحكيمها وتداولها، ويحتاج إليها الأفراد والجماعات لتدبير شؤونهم في الحياة، ويقوم عليها نظام معاشهم وقيمهم واجتماعهم. فإنه آن الأوان أن تتخفف مؤسسة الدعوة من ضغط وتأثير الثقافة المثالية العامة التي ينشئها الشحن العقدي، والولاء التاريخي للمبادئ والذي يحمل بعض الناس بسوء تقدير على الانكماش، والانفصال عن الواقع، والخوف من الجديد، والمبالغة في الاحتياط، وتغييب قوانين التاريخ، والانكفاء على الذات، مع أن من أعظم سنن الله عز وجل في عوالم الكون والنفس والاجتماع قواعد الحركة والتجدّد والتغير والتطور.. وهذه كلها قوانين كونية واجتماعية مركوزة في طبيعة الخلق، وهي من أخص صفات الحوادث والمخلوقات والعوالم التي خلقها الباري عز وجل. ومن أجل ذلك شُرع الاجتهاد للنوازل المشكلة والقضايا الملتبسة والوقائع المستجدة.. فما أحوج مؤسسات الدّعوة -وهي أوعية وصيغ مرتبطة بأهداف موضوعية في زمان معين ومكان معين- إلى تنمية تفكيرها الاجتهادي، وتجديد أدواتها في تحليل الظواهر والمواقف والأحداث وتقويمها، بناء على ملاحظة الأنساق الكلّية والعوامل المؤثرة كالمصالح؛ ومنها الثروة والسلطة والقوى الدولية والتحالفات والانتماء العرقي والشخصية والدين واللغة والمذهب والتاريخ والجغرافيا وغيرها، واستثمار ذلك في إثراء مهاراتها وخبراتها، بما يمكّنها من حسن قراءة الواقع وتحليله وفهمه واستيعاب قوانينه الاجتماعية والتاريخية، وحسن تنزيل المبادئ والقيم والأحكام عليه، واكتساب اللغة الإنسانية التواصلية المشتركة التي تحظى بالاحترام والقبول.