تتمركز الرؤية الجمالية، من خلال ما ينتجه الإنسان ضمن فضاء ثقافي واجتماعي متنوع ومتغير، حيث يلعب المخيال الدّور البارز في إظهار مظاهر تمثُّل الجمال في الحياة اليومية والأعمال الفنية الكبرى والصغرى على السواء. نعتقد أن لكل مجتمع فلسفة جمالية تتباين من مجتمع لآخر، وتتشكل تلك الفلسفة من مجموع الروافد الدّينية والقيمية التي يتشبع بها أفراد الجماعة. فليس الجمال سوى ما تضفيه الجماعة على الموضوع حتى ولو كان الحكم فرديًّا، ونقصد أن الجمال -من حيث كونه معطى أوليًّا- هو تجربة فردية، لكنها من حيث الممارسة تجربة اجتماعية؛ ذلك أن اللاشعور الجمعي، يؤطر العملية الإبداعية ويوجهها توجيهًا غير مباشر. ويمكن القول إن حتى الفنان المتمرد على قيم مجتمعه، لا يمكنه أن يتحرر من سلطة اللاشعور، فعمله الفني هو في الأخير ممارسة لحق تأويل حالة الرفض والقهر التي يشعر بها. ومنه فالعمل الفني -يعكس في كل الحالات- الواقع الاجتماعي القائم أو المُفترض.
إن الحديث عن الجمال هو حديث عن التّعبير والقيمة معًا؛ فهو تعبير عن الماهية بالماهية، فالتعبير جوهر إنساني به يُعرَف الإنسان كمشروع ميتافيزيقي ووجودي. إن الإنسان خلق ليعبر عن ذاته لتجسيد أنطولوجية التّحدي بعد سؤال الملائكة، فالله خلق الإنسان ليبين للمخلوقات قدرته على خلق نقيضهم؛ فالطاعة نقيضها العصيان، والإيمان نقيضه الكفر، والإذعان نقيضه التمرد، والحياة نقيضها الموت.. وتلك النقائض لا يمكن أن يعبر عنها الإنسان إلا من خلال ملكة التعبير. فالملائكة لم تستطع أن تصف الأشياء وتسميها، بيد أن آدم عليه السلام استطاع أن يسمي الأشياء وأن يصفها، ولم يكن ذلك إلا من خلال التعبير. والتعبير ذاته يتخذ نمطية معينة نسميها عادة بالأسلوب، فالتعبير هو قدرة المبدع على التفرد بأسلوب ما، ويصبح الأسلوب هو الذي يعطي للفنان بصمته الخاصة، ومن ثمة يصبح الأسلوب -كمفهوم- أهم العناصر في دراسة الفن والجمال: “مفهوم الأسلوب مفهوم لا يمكن الاستغناء عنه في دراسة الفن، لكنه مع ذلك مفهوم محير أيضًا، وذلك لأن الكلمة لها معان عدة، ففي العادة تشير كلمة أسلوب إلى الفن الخاص بفترة تاريخية معينة”(1). ولذلك نقول في أغلب الأحيان “أسلوبي في التّعامل”، أو نصف العمل المُميز لفنان بقولنا “هذا أسلوبه في التعبير”.
الجمال هو تعبير عن ما هو كائن
إن الجمال تعبير، سواء كان بالجسد أو الكلام أو الكتابة أو غيرها من وسائل التعبير.. بيد أنه تعبير يحمل خصوصيات وسمات مفارقة للتعبير العادي؛ ونقصد أن الجمال يتجه صوب المعنى الذي يتجلى في صور متعددة ومتنوعة. إن الصورة الجمالية هي التي تفتكّ من الآخر القيمة والموقف، بغض النظر عن طبيعة القيمة والموقف. ولذلك فالجمال ينتقل من حيث كونه حالة تعبير إلى كونه أيضًا قيمة، فالقيمة هي ما نضفيه نحن على الموضوع من حسن أو قبح، جلال أو جمال، عندئذ يُعرف التعبير بالقيمة التي أطلقت عليه، كما تصدر القيمة على حسب التعبير ذاته.
نؤكد أن التعبير لا يمكن أن يكون منطقيًّا، لكنه يمكن أن يكون استاطيقيًّا؛ فوظيفته الأولى التواصل والتخاطب، ووظيفته الثانية التأثير على الغير تأثيرًا وجدانيًّا، ونقصد: “التعبير لا يكون منطقيًّا ألبته، ولكنه يكون مؤثرًا دائمًا، بمعنى أنه غنائي وخيالي. ومن ثم لا يكون التعبير استعاريًّا لأنه دائمًا أصيل، فهو لا يكون بسيطًا على الإطلاق بمعنى فقدان الصنعة، أو مجملاً بمعنى كونه ينوء بعناصر خارجية، ولكنه يكون دائمًا مجملاً بذاته أو في ذاته”(2).
نؤمن بأن الجمال حركة تعبيرية ترتبط بسؤال المعنى والمقصد، وأن كل تعبير يتغذى من نظرية المقاصد الاجتماعية. فالعمل الفني ينخرط في تشكيل تصورات الجماعة، عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها، عن الفوضى والنظام، عن التقدم والتخلف.. وبصفة عامة هو تعبير عن ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.
نحاول من خلال المولج، إثبات استقلالية كل جماعة بشرية برؤية جمالية للعالم.. فليس هناك عنصر بشري يمتلك التعبير الجمالي والفني فقط، بل كل الشعوب، لها قسمة عادلة من الممارسة الجمالية والفنية في الوجود. إن الفلسفة الغربية تحاول جاهدة -من خلال مقولة المركزية- أن تضع الجمال كعلم أوربي، بل تحاول أن تضفي صفة الجمالية على ما هو أوربي فقط. نتفق مع جل الدارسين على أن علم الجمال تأسس في الغرب في العصر الحديث على يد “باومجارتن” سنة 1800، وهذا يعني أن الجمال -قبل ذلك- كان يُدرس كجزء من الفلسفة؛ ففلاسفة الإغريق لم يتحدثوا عن الجمال كعلم أو فن نبيل، بل تحدثوا عنه كإدراك وشعور، ثم كقيم جمالية. والمسلمون أنفسهم لم يصنفوه كعلم، بل تحدثوا عنه من ثنائية الحسن والقبيح. فغياب الجمال كعلم، لا يُنقص من تمثل الجميل والجليل، أو يعدم النزعة الجمالية عند المرء.
الجمالية نزعة إنسانية
إن الجمالية نزعة إنسانية متجذرة في كل شعوب العالم، لكن يختلف حضورها من شعب لآخر، ولذلك لا يستطيع الإنسان توحيد المعايير التي تُحدد معنى الجمال. فليس هناك قاعدة أو مسطرة نفرّق بها بين جميل وجميل، بل التفرقة معيارها التجربة والفطنة والدراية.
إن مكانة الجمال ليس فقط في التعبير الفني السائد اليوم، بل مكانة الجمال تنكشف في مضامين الحياة، وخاصة الدين والسياسة. إن الثقافة الإسلامية ثقافة جمالية، ومكانة الجمال يمكن التعرف عليه في كثير من المواطن الإبداعية، وسأقتصر في هذا الموضوع على موطن واحد، وأقصد نظرية المقاصد.
اخترت القرآن الكريم لأحاور بعض آياته جماليًّا، لكونها تناولت المسألة الجمالية كمنظومة شاملة تتمأسس على نظرية المقاصد. فإذا كان الجمال ضمن المقاصد الخمسة للشريعة، فهو ركن من أركان الإسلام، لا نقصد الأركان التعبدية.
الجمال: سؤال البدء
الحديث عن الجمال في الفكر الإسلامي، لا ينجر عنه القول بالضرورة بوجود علم جمال إسلامي، بل نحن في هذا الموقف نتفق مع المفكر سعيد توفيق(3) عندما يعلن تهافت مفهوم علم الجمال الإسلامي، بل نريد التّحدث عن حضور للنزعة الجمالية في الفكر الإسلامي. فالمسلمون لم يصنفوا الجمال كعلم مستقل بذاته، بل صنفوه كقسم من أقسام الصناعات النظرية والعملية(4).
يمكن التعامل مع المسألة الجمالية في الفكر الإسلامي من منطلقات متنوعة ومختلفة، باعتبار أن الجمال في ذاته عصي على التعريف، وكل تعريف للجمال هو قتل لمفهوم الجمال. إن الجمال لا يمكن اعتباره علمًا ولا فنًّا، بل هو حالة تتوسط الأمرين معًا.
إن محاولة وضع الجمال كعلم، تصطدم بطبيعة المسألة الجمالية المعقدة، فالجمال ينفر من القيد والقانون وإن احتكم للقيمة، فكل محاولة لترويضه وتكبيله، ستنتهي إلى اللاجمالية أصلاً(5).
نقر منذ البداية، أننا لا نريد الحديث عن علم جمال إسلامي، بل نريد الحديث عن نظرية جمالية تستلهم مقاصدها الجمالية من الإسلام كمنظومة فكرية شاملة.إن عدم عناية فلاسفة الإسلام بالجمال، تكمن في عدم تصنيفه كعلم مستقل بذاته مثلما صنفوا الصناعات الأخرى. أما ممارسته فهي أصيلة في أدبهم وفنهم وصناعاتهم وعمرانهم، وكل ما تركوه من آثار، دالة على حب الجمال. والمنطلقات التي وضعناها لفهم الظاهرة الجمالية في الثقافة الإسلامية تنطلق من أربع قواعد إبستمية:
أ- اعتبار الجمال ملكة طبيعية، تتكشف من خلال لحظات نادرة من الوعي المتعالي، ونقصد أن الجمال وليد الإلهام كما هو الحال عند الشعراء، والإشراق كما هو عند الصوفية، والحدس كما هو معروف عند الصُّناع وغيرهم من أرباب الحرف والمهن. وذهب أبو حيان التوحيدي في كتابه الإمتاع والمؤانسة إلى اعتبار الجمال ملكة إنسانية.
بـ- الجمال شعور خالص، وإحساس شاعري بالموضوع، يؤدي إلى التعاطف معه تعاطفًا ذاتيًّا، وقد يكون الشعور والإحساس يعبر عن حالة تنافر. ولقد حاول “جورج سانتيانا” أن يقرّب تلك الصورة من خلال توضيحه العلاقة الوطيدة بين الجمال والشعور.
جـ- ربط الجمال بالقيمة في ذاتها، فالجمال متعال عن المنفعة والغرضية، بل هو حكم عقلي يستند على الشيء في ذاته.
د- ربط الجمال بسؤال المقصد، لكون الشارع (الله) حكيم وبديع، ولا يصدر عنه إلا الجميل والجليل. فكل ما هو موجود في الوجود جميل أو جليل، حتى القبيح يُعبر عن صورة جمالية مغايرة للمألوف.
ومن خلال تلك المقدمات يمكن أن نلج إلى الموضوع، بحيث ننطلق من نظرية المقاصد كباراديغم، أو معلم يوصلنا إلى فهم الظاهرة الجمالية، والوقوف على بنيتها وقيمها. ولذلك نضع السؤال التالي: أين نضع الجمال في السلم المقاصدي؟
الجمال ونظرية المقاصد
ندرك جميعًا أن نظرية المقاصد تركت أثرًا كبيرًا على الفكر الإسلامي منذ ظهورها. ولا نريد أن نُحول الموضوع إلى بحث في أصول الشريعة، ولا تتبع نظرية المقاصد بدءًا من الشاطبي إلى الطاهر بن عاشور، بل نحاول أن نعطي البُعد الفلسفي لنظرية المقاصد.
إن نظرية المقاصد هي محاولة فلسفة النص الديني، والغاية منه البحث عن الحكمة من وجود الشيء ضمن فلسفة الخلق، فالله لم يخلق الموجودات إلا لغاية وحكمة، وقس الأمر على الأمر والنهي، فلا وجود للموجود إلا ضمن قوانين العناية الربانية بالموجدات.
إن البحث عن المقاصد في متون الشريعة يُعرب عن إعمال العقل في النقل، ورد الأحكام إلى أصولها، فالحكم -مهما كانت طبيعته- يحتفظ في ذاته بقصدية ما، وتلك القصدية هي التي تساعدنا على وضع القيم في سلم، وبالتالي وضع حركة وفعل الموجود في سلم القيم.
يعلم الجميع أن نظرية المقاصد تقوم على خمسة قواعد رئيسة: حفظ “النفس، العقل، العرض، الدين، المال”، وإذا ربطنا تلك القواعد بالجمال والجمالية، فإننا نصل إلى ربط الجمال بكل القواعد؛ لأن الجمال هو تمثل الخالق في المخلوق تمثّلَ ذوق لا محاكاة. فالجمال في النفس، حين تكون الحياة من أقدس واجبات الإنسان، فالإضرار بالنفس نفي للجميل.
إن الجمال بالرغم من الشعرية والشاعرية والتجربة الفردية، يرتبط بالعقل. والمحافظةُ على القيم الجمالية تفرض المحافظة على العقل. فالمجتمع الذي لا يحفظ العقل من آفاته، سيقتل كل القيم الجمالية لديه؛ يكفي مثالاً على ذلك، أن المخدرات تُعتبر من أهم العوامل المُذهبة للعقل، وبالتالي المذهبة للشعور بالجمال والحادة من إنتاج الجميل.
إن الجمال تحركه جملة من العوامل وعلى رأسها العامل الديني، فالدين -من حيث كونه اعتقادًا وإيمانًا- يغذي الذّات بدفعة حيوية، تجعل الذّات تفتق مواهبها سواء من أجل إضفاء قيم إيمانية على الشيء أو من خلال تقديم المعتقد كما ينبغي أن يكون. فبناء المساجد يتم دومًا ضمن الهاجس الجمالي والفني، لذا يتنافس المؤمنون في فن العمارة والزخرفة.
سلّمنا سابقًا أن الجمال لا يرتبط بالغرضية أو النفعية، لكن لا تمنعنا تلك القاعدة من الاعتراف أن المال من أهم العوامل المُحركة للحركة الفنية، وكل حركة فنية، ينبلج عنها الجمالي؛ فروائع الشعر العربي كانت بنت الدينار والجائزة، كما أن أعظم اللوحات الفنية في الغرب كانت وليدة العطاء المادي.
والعرض بيت القصيد في المسألة الجمالية، فـ”فرويد” يعتقد أن الإبداع والتعبير، مركزه اللبيدو؛ أي أن الإنسان في عملية إبداع هو يعبر بالضرورة عن غرائزه والمكبوتات، وأقوى تلك الغرائز هي الغريزة الجنسية، لذا فالعرض يرتبط بالتعبير الجمالي، سواء عند تقديم الجسد كشيء مقدس وثمين، أو تقديمه كشيء مدنس الغاية منه المتعة وتحصيل اللذة.
إن نظرية المقاصد تتحد مع المعطى الجمالي من منظور أنها تتجه صوب معرفة الغاية والحكمة من وجود الشيء، وهو يحاول أن يُعبر عن ما نتمثله عن الموجود إبان تجربتنا الفردية، فليس هناك أبدع مما كان.
الجمال وخماسية القرآن
يؤمن كل مسلم بأن الله عز وجل هو الجميل والجليل في الوقت ذاته، جماله يتجلى في كل سور القرآن، وخاصة تلك التي تصف بدقة متناهية الجنة وما فيها من نعيم، لا عين رأته ولا أذن سمعته، ولا خطر بفكر بشر. وقد جاء في كتب السلف: “إن الله جميل يحب الجمال” بعد قول الرجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة وكثير من ذلك، وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروهًا”(6).
يطلق التصوير الفني في القرآن الكريم العنان للخيال ليرسم الجنة كما أدركها لحظة قراءته النص، ويتجدد الخيال مع كل معنى محدوس في لحظة تأمل. إن كل قارئ للنص يصور الجنة على مقاسه وخبرته، عندئذ يختلف الناس في إدراك الجنة وفق قوة الإيمان المختزنة في ذاتهم. إن الإبداع الحر يكمن في تلك العملية، ونقصد عملية إبداع عالم ما وراء الطبيعة (الغيب).
لنتأمل التصوير الرباني للجنة في الآية التالية: (أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا((الكهف:31).
إن مقال الجمال والحسن، يتجلى في تحريك أشواق النفس البشرية لرحمة الله وحسنه والفوز برضاه. والحال يمكن مقارنتها بشعراء الغزل، فهم يبدعون القصيدة إما حبًّا وطمعًا في الوصال، أو خوفًا من الهجر. والمؤمن ذاته يكون بين الحالين، فحين يقرأ قوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ اليَاقُوتُ َالْمَرْجَانُ)(الرحمن:46-58)، ثم قوله تعالى: (وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ وَالإِكْرَامِ((الرحمن:62-78)، يأخذ الشوق المسلم إلى العالم الموصوف لا المشهود، طامعًا في لذّاته أولاً، ثم في إدراك ما ليس بكائن، وثالثًا محاولاً إدراك الذات التي أبدعته في التصوير، ثم أبدعته في الوجود واللاوجود معًا.
إن الجمال في جوهره هو محاولة تصور العالم وفق ما نراه في لحظة الوعي الخالص كما يرى “كانط”. أما مقام الجلال فينقل المشاعر الإنسانية من عوالم الحسن واللذة إلى عوالم الخوف والرهبة؛ فالجليل له مقام الجمالية بالجلالية لما يمليه علينا من قسوة التصوير ورهبة التعبير وشدة الحال، فإذا كان وصف الجنة بتلك الدقة والبراعة في التصوير والتعبير، فإن وصف النار لا يعدم جلالية وجمالية التصوير الفني، ولنتأمل قوله تعالى: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عشرة * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا)(المدثر:26-31)؛ إن المشهد الجلالي يرتسم من خلال التداخل الفني والعلمي في بنية وصف سقر، فمن جلالة التعريف إلى جلالة الوظيفة، فالعبارة (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَر) لا نجد لها نظيرًا في البيان العربي، إنها عبارة صورت المشهد تصويرًا بليغًا بحيث لا يمكن لأي خيال أن يرسم صورة عن سقر.
وتصوير المشهد البشري لا يقل فنية، فلننظر كيف صور الله تعالى البشر: (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً)(المدثر:50-52)؛ إن فهم الترابط بين المعطى الجمالي والمعطى الشرعي يكمن في معرفة نقاط الارتباط أصلاً، والتي سأحددها وفق التراتبية التالية، حيث يتحرك الجمال من المنظور القرآني ضمنها:
1- المنافع= اللذات – الأفراح – المباهج – الأذواق – القبح.
2- الأحوال= الإشباع – الرضا – السرور – الوجد – الوعي.
3- الدرجات= الحس – الحدس – العقل – العرفان – البيان.
4- الغايات= الحاجة – النزوع – المدرك – المشاهدة – الخبرة.
5- الوسائل= العمل – الاستبصار – التأمل – الزهد – المعايشة.
نعتبر من خلال فهمنا للقرآن، أن التجربة الجمالية لا يمكن أن تتولد إلا في تضافر جميع الشروط الموضوعية والذاتية؛ فالفرح والبهجة من أهم الدوافع في عالم السماع. فالموسيقى عمل جمالي الغاية والهدف بالرغم من ارتباطه بغاية نفعية عرضية هي التّعبير عن فرح وتحقيق بهجة النفس، نستشف ذلك من قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(سبأ:10-11)، وقوله أيضًا: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ)(الأنبياء:79-80)، وقد ذهب المفسرون إلى القول بأن الآيات التي نزلت في حق سيدنا داود عليه والسلام، كلها تؤكد تلك المسحة والهبة الجمالية التي ميّز الله بها عبده داود عليه السلام؛ فكان آية في الصوت الرخيم، ومعجزة في العزف بالمزامير، ثم آية في الصناعة والإتقان خاصة الدروع الحديدية. قال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد في معنى الآية: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ)(ص:18)؛ أي عند آخر النهار وأوله، وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحدًا، بحيث إنه إذا ترنم بقراءة كتابه الزبور، يقف الطير في الهواء يُرجع بترجيعه ويسبح بتسبيحه، وكذلك الجبال تجيبه وتسبح معه كلما سبح بكرة وعشيًّا.
ولا يقف الأمر عند الصوت الجميل والعذب، بل حتى السماع في مقام الحزن والفرح نكتسب منه بهجة جليلة وألمًا لذيذًا، فأدب الرثاء خير دليل على ذلك.
وفي عالم محاكاة الطبيعة يكون الحس هو سيد الموقف وخاصة نعمة البصر، ولا يمكن للحس أن يُعبر عن الجميل أو الجليل إلا إذا كان الحدس يفيض من عمق المعاناة والمعايشة.
يمكن من خلال تتبع النص القرآني إدراك أن الجمالية تنتقل من البسيط إلى المعقد؛ فجمالية “مثَال الذّبابة” في القرآن، يعبر عن أبسط أشكال التعبير مقارنة بمثال المصباح أو المشكاة. إن النص القرآني يعلمنا أن الجميل قد يوجد في اللاجميل أصلاً، فوصف جهنم يعتبر في القرآن آية في التصوير الفني بالرغم من أن جهنم تحمل معنى سلبيًّا وقبيحًا.
إن القرآن يؤسس لمفهوم الجمال الحر، فالجمال غير مقيد بقوانين فكرية ولا منطقية، بل كل شعور بجمالية شيء، ما هو إلا إدراك حدسي عيني للجميل. إن الجميل ليس جميلاً بذاته، بل الجميل جميل بتجلياته، أي إن التّجلي هو الذي يحدد الجمال.
ومن خلال ما سبق نقول بأن الجمالية في القرآن الكريم، تفك التعارض القائم بين أحكام الناس. فالجمال إدراك وشعور وغاية، وكلما كان الإنسان أكثر إدراكًا ووعيًا بالموضوع كغاية، كلما كان أكثر تمثلاً للجمال ووعيًا بالجميل، وفي هذا المجال نتفق مع الدكتور إسماعيل عز الدين، حين يقر أن مشكل التعارض بين الأفراد في الوعي الجمالي إنما تعود لطغيان وجهة النظر الشخصية على المعطى الإستطيقي: “وفي اللغة العادية يحدث الشعور أحيانًا بالنفور من وصف تعبير ما بأنه جميل، ما لم يكن تعبيرًا عن شيء محبب إلى النفس (Sympathetic). ومن ثم كانت المعارضات الدائمة بين وجهة النظر الإستطيقي أو الناقد، ووجهة النظر الشخص العادي الذي لا يستطيع أن ينجح في أن يُقنع نفسه بأن صورة الألم والرداءة والانحطاط (Basenss) يمكن أن تكون جميلة، أو أنها على الأقل لها الحق في أن تكون جميلة، شأنها في ذلك شأن الممتع والخير (Good)”(7).
نكتشف في سورة يوسف عدة مستويات للجمالية، ويمكن القول إن النظرية الجمالية يمكن أن تتمأسس على تلك السورة. فلقد حضرت جمالية الحكي والتتابع، والعقدة والخوف، وجمالية الجسد الذكري والأنثوي، وجمالية الشهوة والرغبة، ثم جلالة الرهبة والإيمان، كما عكست جمالية الألم والصبر، الفتنة والغربة، ثم جمالية اللقاء والانفراج. ولذلك قال الله تعالى في السورة ذاتها: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ(يوسف:18)، لأن ألم الفراق تحول إلى وعي بالجمال والجلال معًا.
الهوامش
(1) التفضيل الجمالي، لعبد الحميد شاكر، منشورات عالم المعرفة، الكويت، ط1، 2001، ص:55.
(2) الأسس الجمالية في النقد العربي، لإسماعيل عز الدين، دار الفكر العربي، بيروت، 1992، ص:16.
(3) تهافت مفهوم علم الجمال الإسلامي، لتوفيق سعيد، دار قباء للنشر، القاهرة، ط1، 1997، ص:15.
(4) انظر كتاب القنوجي الموسوم: الوشي المرقوم في أسماء العلوم والفنون.
(5) سؤال المعنى، لعبد القادر بوعرفة وآخرون، دار الغرب، وهران، ط1، 2005.
(6) الموافقات في أصول الشريعة، اللخمي إبراهيم بن موسى، تحقيق: عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، ج1، ص:131.
(7) الأسس الجمالية في النقد العربي، لإسماعيل عز الدين، دار الفكر العربي، بيروت، 1992، ص:19.