الحب هو الميل؛ أي ميل القلوب، ومعناه عند أبو بكر الكلاباذي: “أن يميل قلبه إلى الله وإلى ما لله من غير تكلف”. وقال فيه أيضا سلطان السالكين ابن قيم الجوزية: “أن المحبة لا تحد بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء! فحدها وجودها.. ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة”. وما استعصى تعريف هذا الحب إلا لأنه أمر وجداني ذوقي، فهي ميول وحيث يميل القلب يجد سهولة و إنسيابًا في السير، بل وراحة ومتعة فيه وقرارة للعين تطمئن إليها وبها القلوب.
إن هذا الحب هو سر حقيقة وجود الإنسان، ذاك العبد الفقير الضائع المحتاج إلى حضن ربه ومحبته ورعايته. فمحبة الله لهذا الإنسان هي سبب خلقه أول الأمر، فوجود الإنسان كان بالمحبة منذ الأزل، وأيضا بهذه المحبة يستقبل الإنسان النور الإلهي، فهي استعداد قلبي لاستقباله، “إن لله تعالى آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين وأحبها أرقها وألينها”(التنوير شرح الجامع الصغير).
والحب أيضا هو سر الله الدال عليه، ونوره الوهاج الذي به يضاء الكون وينار الملكوت، فتجري الكواكب في أفلاكها طيعة تسبح دون توقف، لتجسد طقسه الأزلي، حيث تعهدت لنفسها أن تتعبد بذاك الدوران الرباني العجيب، دوران حول مركز الوجود من اليسار إلى اليمين، ذلك الذي جمعت فيه أسرار الحج، فحج بيت الله والطواف به هو تناغم وجودي للإنسان مع باقي الموجودات، بحيث يمثل هذا الطواف اتحادًا روحيًّا مع الجميع واندياح جماعي في نسك المحبة المزهرة المونقة، وارتقاء حقائقي في عوالم الأرواح المتوقدة، فالدوران أو الطواف هو تعبير على التناسق والتكامل والترابط المحقق لحقيقة الحب، وعن الجمال الملتحق بجوامع كمالاته.
ولما كان الحب مركزي في أي صلاة وعلى وجه الخصوص في أعظم صلاة “الحج”، كان على السالك في درب الله المبصر لآيات الله والدال المرشد على صراط الله، أن يتشبع بالحب وأن يرتوي من نبعه، بل وأن يذوب في جمره حتى يتسامى في قلبه بهاء، ويصول في نفسه رُقِّيا ويتجلى في وجهه كمالاً وضياء، فلا يسقى العبد الوصال إلا بعد أن يطفئ جمر عطشه بالشرب من نبع المحبة الكوثرية، ويستعد لصلاة المحبة بوضوء العشق جاعل الوجه نورًا ساطعًا كاللجين، وجامع الأفهام كالكتاب بين الدفتين.
ومن هنا كان الحب هو أرقى منازل العبادة وأصدقها ترجمة لكلمة لا إله إلا الله، وما ذاك إلا لأنه يرفع العبد إلى شهود العبودية، فيدخله باب الأنس بالله، فيجد العبد حلاوة السير وعذوبة الذكر ومتعة السجود وبهاء القنوت. فتتسامى روحه في الخضوع الجميل للخالق وتنداح بنانه متدفقة لامتثال أمره، بالانقياد والانصياع المستبصران لنوره، والطاعة اللاهفة المشتاقة لرؤية سنى وجهه المتقد أنوارًا..، فما أجمل نور الله إذ يتدفق على القلوب فتتمسك بأسباب الوصال، ومواجيد الجمال: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(سورة النور35)، وما أبهى نور الله إذ يتدفق على هذه القلوب المرتوية من ينابيع أنهار المحبة الكوثرية، فخشع الأبصار ولهة بحب الله تجاه المصدر النوري والمنبع الصمدي، فتمتلئ عوالم الروح بمشاهد البهاء والجمال، لتخر ساجدة في محراب المحبة، فكان نور محبة الفرد الصمد الواحد الأحد مضيئًا لهم طريقهم لعبادته، وبعد أن يتوطن الحب قلوب المحبين لله يتدفق من جديد ليشمل الجميع، فيصير العبد المحب لله يعيش حياته على أنغام أوتار الحب وعلى ألحانه ورناته الشجية، فيقتبس الجميع من أنواره ويقتطف الكل ثماره، فلا تراه إلا سمح الوجه مشرق الطلع لا تسمع منه غير الدرر ولا تتلقى منه إلا العبر، فهو كالأترجة طعمها حلو وريحها طيب، فالمحب هو شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها لحق بعنان السماء، انطلق من التراب وارتقى إلى السماء.