للتحليق في سماء التحضر والرفاه جناحان: جناح الأشياء والماديات، وجناح الأفكار والاجتماعيات، فإذا اتسم الجناحان بالقوة وعلامات الصحة والعافية؛ تبوّأت المجتمعات مكانها ومكانتها الحضارية والرسالية، أما إذا اتسما بالوهن والضعف والمرض؛ تأخرت وتنكبت طريقها واضمحل دورها الرسالي والحضاري. ومن علامات الوهن والمرض “التطفيف”. ولقد كرس نبي الله “شعيب” عليه السلام جُلَّ دعوته لقومه “للوفاء بالكيل والميزان”، ولولا فداحة هذا الأمر، ولولا أنه من العدل ومدار معاملات الخلق، لما جرى لقومه ما جرى.
إن إقامة العدل ودعوة الناس للوفاء بالكيل والميزان. وعدالة الكيل والميزان كعدالة ميزان الكون والخلق، ومراعاة ذلك من أصول النظام الكوني الكلّي.
فأحد الأهداف الرئيسة لدعوة الأنبياء والرسل، إقامة العدل ودعوة الناس للوفاء بالكيل والميزان. وعدالة الكيل والميزان كعدالة ميزان الكون والخلق، ومراعاة ذلك من أصول النظام الكوني الكلّي.
المفهوم والمظاهر
التطفيف هو الاستيفاء الكامل، وأحيانًا الزيادة القسرية للبضاعة عند الشراء، وإبخاسها وإنقاصها -ولو قليلاً- إجبارًا عند البيع، وكل إنقاص عمَّا هو متفق عليه تطفيف، وهو مطلق نقص وبخس السلع والخدمات، والحقوق والواجبات، والزيادة القسرية على المستهلكين وأخذ مالهم بغير حق، سواء أكان حيازة في جيوبهم أم مالاً عامًّا، وهو “كيل بمكيالين، وقياس بمقياسين، وإزدواجية معايير في المعاملات. إنك ترى “القصَّاب” يضرب كفة ميزانه بقطعة لحم لترجيح الوزن، ويسلِّط “الصائغ” مروحة على ميزان الذهب الحساس، ويطفف “المكاري” أجره ولو بسيف الحياء.. وإذا عرضت سيارتك للبيع يأتيك سعرها بأبخس الأثمان، وإذا أردت شراء “نظيرتها” ارتفع ثمنها.. ويُقلل “المطفف” من المواصفات المطلوبة لإنتاجه، ويبخس من بضاعة يريد شراءها، ويتحايل على أخرى “كاسدة” يتمنى تصريفها.
”يطفف” المعلِّم في دروسه فيتأخر ويغيب عن بعضها دون عذر، ويُشغل بأشياء خارجة عن درسه ولا يعطي كل ما في جعبته من علم ومعرفة، ليحظى بهما مَن يأخذ لديه درسًا خاصًّا..
وكما ترى الحِرَفي أو المهني أو الموظف، يطفف ويُقصر ويُخسر في عمله وإنتاجه وخدمته المتفق عليها كمًّا وكيفًا.. ومع ذلك يُكثر التبرُّم والشكوى من وضعه المالي والإداري، ومن ثم يبالغون في مستوى أجورهم والمطالبة بترقياتهم.. وهناك مدراء وأرباب أعمال يتعسفون في المطالبة بأقصى الواجبات من مرؤوسيهم، ولا يبالون بأداء حقوقهم المشروعة، بل ويُنقصون ويماطلون ويهضمون حق الأجير والعامل المسكين.. يقول الله تعالى في الحديث القدسي: “ثلاثةٌ أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدَر، ورجل باع حرًّا فأكلَ ثمنَه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجرَه” (رواه البخاري).
و”يطفف” المعلِّم في دروسه فيتأخر ويغيب عن بعضها دون عذر، ويُشغل بأشياء خارجة عن درسه ولا يعطي كل ما في جعبته من علم ومعرفة، ليحظى بهما مَن يأخذ لديه درسًا خاصًّا.. ومن مطففي العصر الراهن مَن يستعمل نفوذه وقدرته المالية فيستحوذ -بأقلّ الأثمان- على أغلب حصة السوق ثم يبيع بأغلى الأسعار، وقد يحتكر تلك السلع والخدمات، وقد يجرّ أموال وحقوق الناس نحوه بحيلة ودهاء فيستثمر بعضهم أمواله معه.. وحسب هذا تكون المؤسسات الخدمية، والمنظمات التعليمية، والمؤسسات الصناعية والتجارية في معرض الوقوع في التطفيف.
من مطففي العصر الراهن مَن يستعمل نفوذه وقدرته المالية فيستحوذ -بأقلّ الأثمان- على أغلب حصة السوق ثم يبيع بأغلى الأسعار، وقد يحتكر تلك السلع والخدمات، وقد يجرّ أموال وحقوق الناس نحوه بحيلة ودهاء فيستثمر بعضهم أمواله معه.. وحسب هذا تكون المؤسسات الخدمية، والمنظمات التعليمية.
ويتداخل التطفيف مع الغش بأنواعه المادية والمعنوية؛ فترى بيع الفاسد من الأطعمة خداعًا وخلسة، وإضافة مواد ضارة لعلائق الحيوانات والدواجن، ورش المحاصيل والخضراوات والفاكهة بمبيدات حشرية خطيرة، وحقنها بهرمونات لتغدو كبيرة الحجم زاهية اللون. ويخلط بعض محاصيل الطحين بمادة ضارة (سبيداج) لتغدو ناصعة البياض، وللتعمية عن ذلك يغالي في سعرها ليوهم بجودتها.. هذا فضلاً عن غش سلع وخدمات العلامات التجارية الفائقة، والملكيات الفكرية الرائدة.
وقياسًا على “الغلول” (الاستحواذ على أشياء قبل توزيع الغنائم)؛ يُعتبر الأخذ من أغراض المتوفى قبل توزيع تركته على ورثته “تطفيفًا، وكذلك تطفيف القضاء والأحكام وأداء الشهادة أو كتمانها.. لذا فكل تجاوز وتعدٍّ على حقوق الآخرين وحدود الله سبحانه، يُعدُّ من سمات التطفيف، قال ابن مسعود رضي الله عنه: الصلاة مكيالٌ، فمن وفى وفى الله له، ومن طفّف فقد سمعتم ما قال الله في المطففين، ويقول القرطبي: “إن التطفيف كما يتحقق في المكيل والموزون، يصدق أيضًا في الوضوء والصلاة ونقل الحديث”. فمن تطفيف الصلاة عدم استيفاء وإقامة شروطها وأركانها وواجباتها وسننها. فنقص العبادة وبخس التجارة بين بعض العباد وربّهم تطفيف؛ فيريدون استيفاء الكثير من النعم، بينما يعطون -لدينهم- القليل، ولا يشكرون الله إلا قليلاً.
يحرص المطففون من الأزواج والزوجات على استيفاء كامل حقوقهم ويستهينون بواجباتهم فيعطونها منقوصة خاسرة، وأحيانًا ظالمة. وتطفف الزَّوجة حين تنكر جميل زوجها عندما تختلف معه حول أمر أو موقف لا يرضيها ولم يحقق مرادها.
ومن اللافت للنظر أن التصدي لشأن المطففين جاء في سورة مكية، وعادة توجه السور المكية اهتمامها لأمور العقيدة الكُلية، فإذا كان التطفيف بحق البشر مدعاة ويل وثبور ووعيد وهلاك، فكيف بالتطفيف بحق خالق الكون والسماوات والأرض، فإذا طففت حق إنسان فأنت هالك، فكيف إذا كان التطفيف بحق الخالق؟
التطفيف الاجتماعي
يسري التطفيف على الأشياء والماديات، يسري على الأفكار والاجتماعيات.. فلكل شيء وفاء وتطفيف. ويحرص المطففون من الأزواج والزوجات على استيفاء كامل حقوقهم ويستهينون بواجباتهم فيعطونها منقوصة خاسرة، وأحيانًا ظالمة. وتطفف الزَّوجة حين تنكر جميل زوجها عندما تختلف معه حول أمر أو موقف لا يرضيها ولم يحقق مرادها. وقد يشحّ الوالدان على أفراد عائلتهما -ذكورًا وإناثًا- بالعدل والحب والحنان، أو يتعاملان معهم بالشدّة والحرمان، وتتصف تربيتهما بالقصور والنقصان. ويطالب المطففون من الآباء أبناءهم بالبر الكامل ماديًّا ومعنويًّا، وهم العاقون لأولادهم. ويزعج الأبناء آباءهم بطلباتهم الباهظة، ثم لا يراعون برَّهم ولا ينتبهون لحقهم عليهم.
وويل للمطففين من الجيران الذين يرفعون عقيرتهم بالشكوى، ولا ينظرون إلى ما يقومون به -هم وأولادهم- من إيذاء الجار ويبخس الوصية به. وبالتالي إن ترك المكافأة، من التطفيف؛ فإذا قدم لك إنسان هدية، فقدم له الشكر وما يماثلها أو أفضل منها (فمن لم يشكر الناس لم يشكر الله). ومن التطفيف الاجتماعي، تقليل جهود الآخرين وتضخيم الذات، ولين الجانب للأعداء وإظهار القسوة على الأولياء، والنفخ في النفوس الضعيفة لصنع جاهات كاذبة، وعدم تقدير جاهات في معية الله.
يسري التطفيف على الأشياء والماديات، يسري على الأفكار والاجتماعيات.. فلكل شيء وفاء وتطفيف…
وهناك التطفيف في مخالفة الأقوال الأفعال، والغيبة والنميمة وشهادة الزور، فرُبَّ كلمة تطفيف تزهق روحًا وتفرق جمعًا وتثير فتنة.. ومنه تطفيف المستشار (المؤتمن)؛ فمَن استشارَه غيرُه في بيعٍ أو شراءٍ أو نكاحٍ، أو توليةِ عمَلٍ أو غير ذلك، وجب عليه تبيان ما يعرفه وما يعتقدُه، ويَحرُم عليه كتمان مواطن العيب والخلل، أو إظهار المحاسن فقط أو الثناء بما ليس فيه. وهناك التطفيف في المناظرات بالحجج والمقالات، فكما يحرص المتناظر على ما لديه من حجج، يجب عليه أيضًا تبيان ما لخصمه من الحُجة، والنظر -بعين الاعتبار والموضوعية- في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو.. وهنا يُعرف الإنصاف من التعصب والاعتساف، والتواضع من الكبر، والتعقل من السفاهه.
وعندما يحُكم المطففون من كتَّاب وصحفيين على أمر أو صاحب يحبُّونه فيزيدون في مدحه، ويغضون الطرف عن مثالبه ونقائصه، بينما يقومون ما لا يحبُّون فينقصون من حسناتهم ويزيدون في سيئاتهم..
ويل للمطففين من الجيران الذين يرفعون عقيرتهم بالشكوى، ولا ينظرون إلى ما يقومون به -هم وأولادهم- من إيذاء الجار ويبخس الوصية به.
كما يذكرون مؤسساتهم التي ينتمون إليها بكل إيجابية، ويقدحون في تلك التي لا ينتمون إليها. وهناك التطفيف مع المرؤوسين وفق العلاقات الشخصية، وتقريب وتمكين أهل الثقة، وإبعاد أهل العلم والكفاءة، وغض الطرف عن التقارير الوظيفية الموضوعية. وتطفيف بعض الصحف ووسائل الإعلام؛ فيكذبون ويخالفون الحق، ويشيعون الباطل، وينشرون الفواحش، وينتهكون أعراض الناس، ويتبنون قيم وعادات الآخر، ويُسفهون ما لدينا وهي الأصلح لنا.
عاقبة التطفيف
الابتعاد عن رحمة الله، واستحضار سخط الجبار وولوج النار، وهو سبب لنزول العذاب، وفقدان الثقة وحدوث الخسران، وهو دليل على شح النفس، والتعلق بالكسب الخبيث، وهو خيانة تتسبب في احتقار أهلها.. ويسبب التطفيف فرار المشترين والمستثمرين؛ فالشركات التي تتعامل بالتطفيف، لا تفقد سوقها فحسب، بل تحطّم موقعها الشعبي ومصالحها الوطنية، وتعمل على فقدان قيمة ومكانة ذلك الشعب، وتقلل من منزلته وفضيلته.. إن قوام الحياة الاجتماعية هو المعاملات والمبادلات، فإذا دفع أو أدى كل فرد أقل مما عليه وأخذ حقه كاملاً، سينتهي اعتماد الأفراد بعضهم على بعض، وستحل نماذج القدوة السيئة، وتزول الثقة بين الناس، وينشأ الحقد والنزاع الاجتماعي وسيزول الأمن المجتمعي. ويؤدي التطفيف لاختلال النظام الاقتصادي والمجتمعي والفساد في الأرض. والأمة التي يفشو فيها هذا الداء تتزلزل أركانها، وتصبح آيلة للانهيار والخراب.
هناك التطفيف في مخالفة الأقوال الأفعال، والغيبة والنميمة وشهادة الزور، فرُبَّ كلمة تطفيف تزهق روحًا وتفرق جمعًا وتثير فتنة..
كما يعاقب الله على التطفيف في الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يُعلنوا بها إلاّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلاّ أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلاّ مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلاّ سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلاّ جعل الله بأسهم بينهم” (رواه ابن ماجه).
(*) كاتب وأكاديمي / مصر.