لطالما طُرح في المنتديات الفكرية والمؤتمرات الحضارية والحلقات التربوية، السؤال الكبير العريض كيف لأمة الإسلام أن تخرج من تخلفها وكبوتها التي طالت وعمرت كثيرا؟ حتى تحقق الشهود الحضاري وتلحق الرحمة بالعالمين، عبر بناء المسلم المعاصر، وإحياء وعيه بأدواره الحضارية، ورسالته الإنسانية.
يعلن بديع الزمان بعد تجربة طويلة ومسيرة عريضة عن انعطافة منهاجية عنوانها الأبرز “أستاذية القرآن”
وأثناء تقليب النظر وتنويع القراءة في مشاريع النهوض الحضاري التي عرفتها الأمة الإسلامية شرقًا وغربًا، والتنقيب في التجارب الناجحة في تجديد الدين وترشيده وتفعيل أحكامه وتحقيق مقاصده: تربية للإنسان بالقرآن وبناء للعمران بالإحسان، نجدد المشروع الإصلاحي الحضاري للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي ، الذي لخصه في:”إنقاذ الإيمان بالقرآن” وفصله في”كليات رسائل النور”، وجسدته سيرة العلمية ومسيرته الدعوية التي مثلت أُنموذجًا للعالم العامل والداعية الحكيم والمجدد الألمعي والمفكر الموسوعي.
ومنذ ذلك الحين وأنا مهتم بفكر الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي و استراتيجيته
أستاذية القرآن
يعلن بديع الزمان بعد تجربة طويلة ومسيرة عريضة عن انعطافة منهاجية عنوانها الأبرز “أستاذية القرآن” ،يقول رحمه الله تعالى: كان سعيد القديم – لزيادة اشتغاله بالعلوم العقلية والفلسفية يتحرى مسلكًا إلى حقيقة الحقائق، وكان لا يقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية كأكثر أهل الطرق، بل جهد كل الجهد أولاً لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التى أورثتها إياه مداومة النظر في كتب الفلاسفة، ثم أراد بعد أن تخلص من هذه الأسقام أن يقتدي ببعض عظماء أهل الحقيقة المتوجهين إلى الحقيقة بالعقل والقلب، فحار في ترجيح بعضهم على بعض، فخطر على قلب ذلك السعيد وحِّد القبلة؛ أي: إن الأستاذ الحقيقي إنما هو القرآن ليس إلا، وإن توحيد القبلة إنما يكون بأستاذية القرآن فقط، وخلال سلوكه ذلك المسلك ومعاناته في دفعه الشكوك، قطع المقامات وطالع ما فيها، لا كما يفعله أهل الاستغراق مع غض الأبصار، بل كما فعله الإمام الغزالي مع فتح أبصار القلب والروح والعقل، ورأى ما فيها بتلك الأبصار كلها.
بعد سنوات عديدة من البحث والمقارنة أستطيع أن أقول إن رسائل النور هي المؤلف الوحيد الشامل والمكتفي بنفسه، والذي يرى الكون كما هو في الواقع، ويقدم حقائق الإيمان كما هي…
هذا التحول واكبه تأليف “رسائل النور” عبر حياة متنقلة من سجن إلى سجن ومن منفى إلى منفى، ما بين رجل العلم والسياسة الذي هو سعيد القديم إلى رجل القرآن والتربية الذي هو سعيد الجديد.
بديع الزمان وبناء الانسان
التحول من سعيد القديم إلى سعيد الجديد جعل من”رسائل النور” محورًا لإعادة بناء الإنسان وصياغته بكل أبعاده، وهنا نورد كلاما نفيسا للدكتور كولن تورنر:” بعد سنوات عديدة من البحث والمقارنة أستطيع أن أقول إن رسائل النور هي المؤلف الوحيد الشامل والمكتفي بنفسه، والذي يرى الكون كما هو في الواقع، ويقدم حقائق الإيمان كما هي، ويفسر القرآن كما أراد نبينا صلى الله عليه وسلم، و يشخص الأمراض الحقيقية الماحقة التي ابتلي بها الإنسان، ويقدم له الدواء الناجع والشفاء.
وهذا يدل على فاعلية رسائل النور في إنقاذ الإيمان بالقرآن لأن صاحبها –النورسي- كان يمتلك حِسًا معرفيًّا وتربية معرفية على ملكات الفهم والتفكير والتحليل والتعليل والنقد والتعزيز وتوظيف الوسائل المناسبة.
لماذا الإنسان في رسائل النور؟
في مقال للأستاذ إحسان قاسم الصالحي تحت عنوان” دور رسائل النور في صياغة الإنسان ” قال: عقب المحاضرة التي ألقيتها حول ترجمة رسائل النور في قاعة كلية الآداب في الدار البيضاء بالمملكة المغربية سنة 1998. سألني أحد الطلبة:
يشخص سعيد النورسي الأمراض الحقيقية الماحقة التي ابتلي بها الإنسان، ويقدم له الدواء الناجع والشفاء.
ما الذي دفعك للقيام بهذا المجهود الضخم بترجمة كليات رسائل النور في تسعة مجلدات من اللغة التركية إلى العربية، فإن جميع المصادر الإسلامية هي باللغة العربية ومنها تُترجم إلى اللغات الأخرى، فما الذي دفعك بالسير المخالف هذا؟.
وكان جوابي جملة قصيرة: أخلاق طلاب النور وسلوكهم الإسلامي. وكل من قرأ رسائل النور هو طالب النور، ولا أزكّي على الله أحداً …نعم، عند لقائي طلاب النور في سنوات السبعينات لمست الإسلام حيًّا نابضًا ومعيشًا في حلّهم وترحالهم، بل كشفت فيهم صفاء الإيمان ونقاء الوفاء وصدق الإخلاص ودوام العطاء، واستشعرت بالاطمئنان والسكينة تغمران قلوبهم.
وعند قراءة كتاب: الشهود الأواخر شهادات ومشاهدات عن بديع الزمان سعيد النورسي” تتيقن من صدق ما قيل وتقطع الشك باليقين أن النورسي نجح في بناء الإنسان وإعادة صياغته صياغة قرآنية.
و يعتبر مصطلح الإنسان كما ورد في كليات رسائل النور-2807مرة- من أهم المفاتيح المفهومية ومن أكبر المسالك الضرورية، للدخول إلى العالم الفكري والمشروع الإصلاحي لأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، ومنظومته التربوية المعرفية.
ذلك أنه بنى تأملاته للكون والحياة والمصير على التأمل في الذات الإنسانية، إذا انطلق في فهمه للكون من ذاته كنوع، متدرجًا عبر مسالكها إلى آفاق السموات والأرض، متفكرًا في كل شيء من خلال ما يجده في نفسه من عجز وفقر، وما يجده في هذه العوالم من امتداد لا يتناهى، ثم بعد ذلك يدخل إلى قضية الإنسان التي هي سر الوجود، ولغز الكون ومعضلة الفلسفات، يدخلها طبعا من باب القرآن المجيد، ولكن مشاهدًا مستبصرًا لا قارئًا وحسب. ذلك يعني أن الدخول إلى القرآن الكريم من باب المشاهدة والإستبصار يعني مطالعة الكون الكبير والنظر إلى أسراره وآياته.
ينظر النورسي إلى الإنسان ليس باعتباره كائنًا عاديًّا وحسب، ولا هو حتى مخلوق أرضي وحسب، بل هو أبعد من ذلك وأعظم إنه مخلوق كوني، بمعنى أن الماهية الوجودية للإنسان هي ماهية كونية كبرى.
من ثم ينظر النورسي إلى الإنسان ليس باعتباره كائنًا عاديًّا وحسب، ولا هو حتى مخلوق أرضي وحسب، بل هو أبعد من ذلك وأعظم إنه مخلوق كوني، بمعنى أن الماهية الوجودية للإنسان هي ماهية كونية كبرى.
فالإنسان عند النورسي هو ثمرة شجرة الخلق، والفهرست الكوني الجامع، العاكس الأكمل للأسماء الحسنى، الساعي لتحقيق رغبة البقاء الكامنة في فطرته، المشاهد عبودية الكائنات باستخلافه في الأرض، عبادة كلية للواحد الأحد.
ولا يمكن للإنسان أن يكون كذلك إلي إذا استجاب لنداء القرآن المجيد وذلك بإعادة الاعتبار لإنسانيته وإحياء فاعليتها، ليصبح قادرًا على استثمار طاقاته الروحية والذهنية والمادية، لينطلق من جديد في آفاق العبودية لله تعالى وإعمار الأرض وإصلاحها وتحقيق مبدأ الإستخلاف فيها.
إن السؤال الكبير الذي يُطرح اليوم وبإلحاح هو:
كيف استطاع الأستاذ بديع الزمان النورسي –في ظل التحديات الداخلية والمؤامرات الخارجية-أن يبني الإنسان بالإيمان من خلال رسالة القرآن؟-و ما هي أهم عوامل فاعلية الرسائل في صياغة الإنسان صياغة جديدة؟.
الإنسان عند النورسي هو ثمرة شجرة الخلق، والفهرست الكوني الجامع، العاكس الأكمل للأسماء الحسنى، الساعي لتحقيق رغبة البقاء الكامنة في فطرته، المشاهد عبودية الكائنات باستخلافه في الأرض.
هذا السؤال المنهاجي تجيب عليه كليات رسائل النور بشكل علمي، يقول الأستاذ فتح الله كولن: “ومن أهم المواضيع التي اهتم بها بديع الزمان هو شرحه كيف أن الايمان يعد منشورا يحلل الأبعاد الحقيقة لماهية الوجود والإنسان، فهو يرى أن الكون أصبح بفضل الايمان كتابًا يمكن قراءته ومعرضا يمكن مشاهدته، أما الإنسان فهو لب هذا العالم وجوهره”.
ومن أجل تنفيذ مشروعه هذا رفع مقترحًا إلى السلطان عبد الحميد الثاني لإنشاء جامعة إسلامية في شرقي الأناضول، أطلق عليها إسم “مدرسة الزهراء” –على غرار الأزهر الشريف– تنهض بمهمة نشر حقائق الإيمان وإعادة صياغة الانسان وتدمج فيها الدراسة الدينية مع العلوم الكونية، في ضوء مقولته المشهورة: “ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الكونية الحديثة وبامتزاجهما تتجلى الحقيقة، وبافتراقهما تتولد الحيل والشبهات في هذا، والتعصب الذميم في ذاك”، لكن ذلك لم يتحقق فانطلق يكابد رسالات القرآن تلقيًّا وبلاغًا.