أدركوا العرب أهمية الماء في حياتهم منذ تاريخهم القديم، فهم أهل صحراء مترامية الأطراف يعز فيها الماء، تترك فترات الجفاف بصماتها على حياتهم وأرزاقهم ومواشيهم، وفى الجدب وقلة الماء يردئ المشرب وتتلوث مياه الآبار، ومع ذلك ليس هناك من بديل لتلك المياه يشربها الإنسان ودوابه.
لقد جعل الجفاف للماء مكانة في نفوس العرب بلغت حد التقديس والتبجيل جاء ذلك في مظاهر كثيرة من حياة أوائلهم، فاتخذوا لورد الماء أصولاً وقوانين ذو أعرافًا يحترمونها أيما احترام، فمن له ثأر عند إنسان آخر وأدركه يمسك قربة الماء أو مكبًا على الغدير يرتوي أمهله حتى أتم شربه، ويسقون الذبيحة الماء حتى ترتوي ومن ثم تذبح.
سقاية الماء طلبًا للثواب
لسقاية الماء في التراث العربي أهمية كبرى ومنزلة عظيمة قديمة جدًا ومعروفة، لا سيما وأن البيئة بجوها الحار وبيئتها المتربة قد جعلت التباري في إنشاء هذه الأسبلة من أجل الخدمات إلى الناس.
فقد كان شرف لبني هاشم قبل ظهور الإسلام أن تختص بالسقاية في زمن الحج، فقد ذكر ابن هشام أن أشراف قريش قبل الإسلام قد تباروا على أخذ السقاية بجوار الكعبة في حوزتهم لأن فيها رفعة لهم بين قومهم وإعلاء شأنهم.
وفي العصر الإسلامي وعى المسلمون أن من تعاليم الإسلام كدين يحض على الإنسانية والرحمة والعطف والقيام بالعمل الصالح لكسب الثواب الكبير،وأن يوفر المسلم لأخيه النجدة من العطش، لذا بنوا الأسبلة وجعلوها مقصد للظمآن من لفح الهجير عندما تصبح جرعة الماء هي إكسير الحياة.
وسقاية الماء من الرحمة والرحمة اسم من أسماء الله تعالىالرحمن والرحيم، وكما ترد الرحمةُ إذا تعلّقت به عز وجلّ باعتبارها قيمة وباعتبارها صفة للفعل على خَلْق الكون وتنظيمه وكائناته، تَرِدُ على الإنسان، باعتباره موضوعًا للرحمة الإلهية، وباعتبار أنّ تلك الهبة الإلهية هي قيمة من قِيَمه في وجوده وأفعاله.
فكان الحكام من خلفاء وسلاطين وملوك وأمراء وكذلك أثرياء المسلمين، ينشئون تلك الأسبلة تقربًا إلى الله تعالى وأملاً في الثواب وذلك بتوفير ماء الشرب للمارة في الطرقات حتى لا يتعرضوا للعطش أثناء ممارسة أنشطتهم وأعمالهم المختلفة، كما أنشئوا أيضا أحواضًا لتوفير المياه لشرب الدواب حيث كانت الدواب الوسيلة الأساسية للانتقال داخل المدن وخارجها.
الآبار والعيون والصهاريج قبل السبل في التراث العربي
من بئر زمزم وسقاية الحجيج وتكريم القرآن للماء بجعله أصل الأنواع استمد المسلمون مفهوم الخير،المتمثل فى إرواء نفس أو روح عطشى وكانت تعاليم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هى المحدد لهذا الإتجاه، فقد ورد عن السيدة عائشة رضى الله عنها قولها : “من سقى أخاه في موضع فيه الماء فكأنما أعتق رقبة وان سقاة في موضع لا يوجد به الماء فكأنما أحيا نسمة”. لذا أوقف عثمان بن عفان رضى الله عنه بئرًا للمسلمين ثم اقتدى به الخلفاء المسلمون فحفروا الآبار وأوقفوها على الطرق الرئيسة وطرق الحج المشهور، وما – عين زبيدة- إلا أحد الأمثلة لهذه الآبار في عهد هارون الرشيد. وفى مصر أوقف الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات المعروف بابن خترابة – القرن الرابع الهجرى- بئراً سمى بعد ذلك ببئر الوطاويط، لينقل منها الماء إلى السبع سقايات التى أنشأها، وأوقفها لجميع المسلمين.
ومع الزمن خربت السقايات، وأهملت البئر وسكنتها الوطاويط، وعرفت بهذا الاسم.
أما مسجد الحاكم نفسه فقد حفر فيه صهريج بصحن الجامع ليملأ فى كل سنة من ماء النيل، ويُسبل من الماء فى كل يوم، ويستقى منه الناس يوم الجمعة، وفى هذه العصور وقبل ظهور الأسبلة كان الماء يقدم إما من خلال آبار أو سقايات أو يخزن فى صهاريج كبيرة، وقد استمر بناء الصهاريج فى المساجد والخانقاوات، وكانت هي الأساس الذي قامت عليه الأسبلة فيما بعد، وكان بعض الصهاريج تقام على أعمدة حاملة لقباب ضحلة، ولها سلم حجرى ملتف كما يوجد فى خانقاه- الأشرف بارسباى – بالجباية، والبعض الآخر كان له سقف مسطح يرتكز على أكتاف جانبية ويتميز بالاستطالة وله سلم حجرى جانبي، أما أرضية الصهريج نفسه فكانت ملساء خالية من أى نتوء. ثم أصبح الصهريج فيما بعد هو أول جزء في أي سبيل أقيم بعد ذلك، وقد أوقف أهل الخير أموالاً كثيرة على إنشاء الصهاريج.
الأسبلة في التراث العربي
كلمة سبيل من اللفظ العربي- وسبل الماء- أى أجراه ويّسره للناس، ويُعد ذلك من أرفع درجات الخير، والسبيل مكان لاستسقاء الماء. وفي اللغة أسبل المطر بمعني هطل. وقد يذكر الاسم ويؤنث. قال ابن السكيت يجمع على التأنيث سبول وأسبلة وعلى التذكير سبل.
والمراد بالسبيل المواضع المعدة والمجهزة لسقي المارة في سبيل الله ولوجه الخير. وهو تطور حضارى حدث واستكمل من حيث الشكل والتكوين فى العصر المملوكي واستمر حتى بداية ثمانينيات القرن العشرين.
وبناء الأسبلة من الأعمال الخيرية الجاري ثوابها على أربابها بعد الموت ما دامت باقية منفعتها، وقد كان توفير المياه عن طريق هذه الأسبلة للمارة وعابري السبيل والفقراء والمحتاجين له جانبه الاجتماعي، حيث يبدو عطف الغنى وهو المنشئ للسبيل على العطشى من المارة وهو ما يؤكد روح المودة والإخاء بين أفراد المجتمع الواحد وهى القيم التي يدعو إليها الدين الإسلامي، لذا روعى في تصميم المدينة الإسلامية العربية عناصر عديدة تدور حول الرحمة، فالمباني أقيمت لتراعي ظروف البيئة وانعكاساتها على الإنسان، والطرقات التي صممت بحيث لا يمضى واحد منها في خط مستقيم حاد كالشوارع الحديثة تخفيفاً للإحساس بطول المسافة عند السائر، والسقوف التي تظلل الأسواق، أما أبرز عناصر الرحمة فهى الأسبلة.
لهذا علق أحد الرحالة الأوروبيين بعد أن رأى هذا العدد من السبلة فى القاهرة قائلاً: “إن ما نراه من الأسبلة الكثيرة في أي مدينة إسلامية دليل على سمو خلق أهل المدينة”.
أحواض سقي الدواب والماشية
لأن الإسلام دين الرحمة وضع مبدأ الرفق بالحيوان، ومن المعاني العظيمة القيمة التي كُشف عنها في الحضارة الإسلامية هي الوقف على الحيوان، بل تعدي الأمر الحيوان المستأنس إلى الوقف على الحيوانات الضالة، فبني المسلمون عمائر لرعاية الحيوان من حيث سقيه وإيوائه وإطعامه فبنوا نوعان من العمائر في هذا المجال وهما: أحواض سقى الدواب، والإسطبلات، فانتشرت أحواض سقى الدواب في الطرق الرئيسية في المدن الإسلامية، والأسواق ،كما أنشئت في طرق الحج وطرق القوافل منفردة أو ملحقة بالخانات.
تقديم الماء للناس والدواب في العصر الحديث
رغم تأمين شبكة مياه تصل جميع المنازل في كل الأنحاء فى العصر الحديث – نرى مساقى للمياه على الطرق الزراعية، أو قللا مصفوفة أمام المساجد، من إناء فخارى صغير إلى سبيل يعد تحفة معمارية، إلى مبردات مياه كهربائية، الجوهر واحد وهو التقرب إلى الله تعالى بعمل يفيد الناس، وفى معظم هذه الأحوال يكون تيسير الماء للناس من أجل راحة روح متوفى عزيز.