لا أحد يشك في أن تفاعل الحضارات يعتبر خاصية أساسية من خواص الحضارة الإنسانية، ويعبر عن الطبيعة التلقائية للحركة والعلاقات الاجتماعية بين المجتمعات.
وللتفاعل الحضاري أسباب وعوامل أهمها الغزوات والفتوحات والعلاقات التجارية، وتبادل الخبرات المادية والمعنوية، ثم إن الأشياء والانتاجات المادية والوسائل التقنية غالبا ما تكون أسرع انتقالا من الأفكار والعقائد والملل، ويلاحظ دارسوا الحضارات أن قوة تأثر حضارة بحضارة ما، يتعلق بموقف أحدهما من الأخرى، فإذا كان الموقف يعبر عن نوع من الندية، كان التأثير المتبادل قائمًا على التوازن السليم، في حين إذا كان الموقف موقف إعجاب وانبهار من طرف إزاء طرف آخر كان التأثر سريعًا وعميقًا من قبل الطرف الأول قد يصل إلى حد الذوبان والتماهي والانصهار في الطرف الثاني .
ولعل العلاقة بين الحضارتين الغربية والإسلامية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، خير دليل مجسد لموقف الإعجاب والانبهار، ولقد تدرجت الشعوب الإسلامية -على طول هذه الفترة– في الانغماس في الحضارة الغربية والتأثر بقيمها وعاداتها. كما سعت طبقة المترفين والمثقفين من المعجبين بمدنية الغرب جيل بعد جيل إلى تحويل مجتمعها ذو المرجعية الإسلامية إلى مجتمع غربي أو بالأحرى تابع للغرب خانع خاضع له… في جميع المجالات والصعد الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية وحتى الثقافية.
فما هي إذن الأسباب التي كانت وراء هذا الاستتباع الحضاري للغرب واللهث وراءه حتى الإعياء؟ وإلى متى سيظل العالم الإسلامي مبهور مشدود إلى الحضارة الغربية؟ وإلى متى سيظل مستهلكا لمنتجاته وبضائعه؟
يمكن تقسيم الأسباب التي كانت وراء هذا الاستتباع الحضاري للغرب إلى أسباب خارجية وأخرى داخلية.
بالنسبة للأسباب الخارجية ، فقد كان الاستعمار العسكري والسياسي للبلاد الإسلامية دور بالغ في تحريك عجلة الاستغراب والدفع بها إلى الأمام فجعل بلدان العالم الإسلامي كما هو معلوم كانت تحت وطأة الاستعمار الأوربي الذي عمل جهده في فصل الجيل الذي عاش في كنفه عن أرضه ومنبته الإسلامي السمح، حيث حاصر التعليم الإسلامي وحارب اللغة العربية وأنشأ بدله التعليم العلماني الذي يتماشى مع برامجه، والقضاء الذي يحكم بقوانينه، والإدارة التي تسير بأنظمته، والإعلام الذي ينشر أفكاره، وثقافته التوسعية الإمبريالية، والأوضاع التي ترسخ قيمه وتقاليده –المتحررة- في نفوس المسلمين، ولم يكتف المستعمر بهذا الوجه إلى أن خلق لنا وجها جديدا،إلا أنه هذه المرة أكثر توسعًا واجتياحًا،وذلك من خلال الغزو الفكري والثقافي مستغلاً تفوقه العلمي ومسخرًا سيطرته السياسية للإسراع بالتحولات المدنية والثقافية التي يريدها، بحيث تخرج الإدارة والجيوش وتبقى التبعية والخضوع.
أما بالنسبة للأسباب الداخلية: فيمكن حصرها في الضعف الفكري الذي أصاب العقل المسلم إبان عصر الجمود والانحطاط؛ الذي كان العالم الإسلامي يقبع تحته مقلدًا متبعًا لخطى السلف معارضًا لأي اجتهاد أو إبداع، الأمر الذي جعل عقل المسلم خاملاً غائبًا عن مجريات الأحداث وما يدور في الساحة العلمية من تحديات مكتفيًّا بالمشاهدة والتعامل المجحف مع الواقع بشيء من اللامبالاة، وبقدر من عدم الاهتمام.
إلى جانب الأنانية الفردية التي عادة ما تقود الشخص إلى التمسك بما يملك من فكر، أو رأي، أو خبرة، أو حتى متاع الدنيا، ويحرص على الاكتفاء بأدنى ما يستطيع من المشاركة في إنتاجية مجتمعه.
هذا الضعف والارتكاس الذي أصاب الفكر الإسلامي وسرى في عروقه جعل المسلم يحس بعقدة النقص أمام الغرب الذي وصل إلى ما وصل إليه من تقدم وازدهار علمي وتطور تكنولوجي مذهل. فانعدمت ثقته بنفسه وبقدراته على مسايرة هذا الركب الحضاري والتكنولوجي،وهذه الثورات العلمية والصناعية التي تعاقبت وتسارعت خطاها،وصار التغيير المترتب عليها يتم وفق متوالية هندسية، لأن كل اكتشاف علمي يحمل في ثناياه اكتشافات جديدة تتولد منه.
فأوقف عجلة التقدم والانطلاق وفتح أبوابه وأسواقه إلى المنتوجات الدخيلة مستهلكا لمنتجاته غير مصنع، مستورد غير مصدر، إذ ما زلنا نعتمد – وللأسف الشديد – في غذائنا وكسائنا ودوائنا وسلاحنا على ما تنتجه لنا أمم أخرى تتحكم بذلك في مستقبلنا ومصيرنا-بل نفتخر ونتباهى بكل منتوج غربي ولو كان مضرًا ومتعارضًا مع عاداتنا وتقاليدنا الدينية، فالناس في المدن يطربون للموسيقى الغربية، ويفتخرون باللباس الغربي ويتباهون بالسلوك الغربي المتحرر، باختصار إنهم يلمسون في باطنهم ميلاً إلى اقتناء أو ممارسة كل ما يجود به الغرب عليهم، ميلاً إلى تقليده والاقتداء به، إلا في العلم والمعرفة للأسف، وذلك لإحساس هؤلاء الدائم بأن الغرب أحسن منهم،أو بالأحرى أقوى منهم الأمر الذي جعلهم يلعبون دور الضعيف المنهزم المولع بتقليد الغالب القوي.
المسلمون لم يعوا بأن الحضارة الإسلامية التي أضحى معتنقوها يرمون بأقبح الصفات والنعوت ما كان لها أن تصاب بالتليد الفكري والعجز العلمي، وهي التي كانت لها في التقدم العلمي والمعرفي مشاركة لا تضاهيها مشاركة أية أمة من الأمم، هذه الأمة التي أنشأها الله عن قلة، ورفع شأوها إلى الذروة، حتى تبتت أقدامها على قنن الشامخات، ودكت عوالي الراسيات، وانشقت لهيبتها سرائر الجبابرة وذابت للرعب منها قلوب الأكاسرة والقياصرة هال ظهورها الهائل كل نفس وتحير في سبب هذا الظهور كل عقل، واهتدى للسبب أهل الحق، فقالوا: أولئك قوم كانوا مع الله فكان الله معهم، ونصروا دين الله فنصرهم الله، واسترشدوا بهديه فأرشدهم،فلما أصابها ما أصاب الأمم السابقة من فساد في الأخلاق وهبوط مميت في القيم، وتسارع إلى اللهو والمجون والترف والفجور أذهب الله عنهم ما كان لهم من عز وسلطان في المعرفة وسيادة لهم على الأمم فصاروا من جملة الخدم لأسيادهم بعد ما كانوا سادة لهم في سابق عزهم ومجدهم الضائع.
ولعل سبيل النجاة من هذه الورطة الحضارية ومن هاته الأوهام والهواجس التي رانت على العقل المسلم ردحًا من الزمان، والدواء الشافي له من هذا الداء العضال الذي مسه في جميع جوانبه الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، وحتى الاجتماعية…، والتي جعلت منه قزمًا مفتونًا أمام الدمى الالكترونية واللعب الفضائية الوافدة عليه من الغرب دون تمييز أو تمحيص منه.
وكأهم خطوة للمجابهة الفعلية لهذا الهزال، هو أن نبني الإنسان البناء المتكامل ليكون في حجم التحدي، وتربيته على أخلاقيات عقدية تمنحه المناعة الحضارية المطلوبة ضد أي تيار وافد، وذلك تبعا لسنة الله في التغيير والنهوض، فالنهضة لها شروطها التي لا تتخلف فمن أخذ بها نجح في تحقيق نهضته ومن تخلى عن تلك الشروط وأهملها فشل في ذلك…، ومن أهم شروط تحقيق النهضة إعلاء شان العقل من جديد في ثقافة المسلمين بل في حياتهم كلها وذلك بغية اللحاق بالتقدم العلمي والتكنولوجي الذي يشهده عصرنا الراهن في ظل العولمة والثورات العلمية في جميع الميادين خاصة مجال المواصلات والاتصال، وهذا لن يتم إلا إذا ارتبطنا بعقيدتنا، وتراثنا ولغتنا، وفي اتصالنا بالحضارة الغربية نعمل على تخير الجوانب العلمية، والخبرات الفنية التي من شأنها أن تبني الأمة بناءً صحيحًا متكاملا متميزا في مقوماته، مستقلا في إرادته قويا في اقتصاده ترتفع في ربوعه راية الإيمان ومنارة العلم.
فأمتنا اليوم مدعوة لبناء نفسها بناء حديثا، في شتى المجالات (الاجتماعية والاقتصادية والثقافية…) والطريق إلى ذلك هو تعميق الثقة بالنفس انطلاقا من الثقة والإيمان بالله) وإبراز الكيان الفكري لأمتنا، المتوافق بأصالته التربوية يمكن أجيالنا المقبلة أن ينهلوا من معين الحضارة ما يحتاجونه لبناء مجتمعهم واقتصادهم، دون أن تحمل هذه الاستفادة أخطار الذوبان والضياع في متاهات تبعدنا عن أرضنا الطيبة وتراثنا الفكري المشرق.
فما علينا إذن إلا أن نعقد النية ونتحرك بهمة، فرب همة أحيت أمة، وهذه الهمة هي التي تنقل الأمة من حال السكون إلى الحركة، ومن الانكفاء على الماضي إلى التوجه للمستقبل، وهي التي تنقل الجيل كله من الحيرة والإحباط إلى الأمل واتساع الرجاء.