يعتبر الفيلسوف الإمام بديع الزمان سعيد النورسي من أعظم من اشتهر ذكره في الأفاق من العلماء المسلمين المعاصرين (ولد سنة 1876 و توفي سنة 1960)، ورغم أنه نشأ في بيئة كردية في الولايات الشرقية من الدولة العثمانية بعيدًا عن المدنية الحديثة، إلا أنه ملأ الدنيا وشغل الناس، وطار صيته في العالم الإسلامي وفي كثير من الدوائر الاستشراقية، فهو فيلسوف بالمعنى الحقيقي للكلمة، رغم أنه لم يتلقى تعليمًا نظاميًّا، بل إن جلّ معارفه كانت محصلة تحصيله الشخصي بكيفية عصامية وغريبة، وهذا هو السبب الذي استحق به لقب بديع الزمان.
ولقد تعرض بديع الزمان لمضايقات كثيرة، وظلت المضايقات والاعتقالات الاتهامات متواترة ومتواترة بعد ذلك، حتى بدت كأنها ملازمة لبديع الزمان سعيد النورسي أينما حل وارتحل…
ولقد تعرض بديع الزمان لمضايقات كثيرة، وظلت المضايقات والاعتقالات الاتهامات متواترة ومتواترة بعد ذلك، حتى بدت كأنها ملازمة لبديع الزمان سعيد النورسي أينما حل وارتحل، بل إن المضايقات أبت إلا أن تلازمه حتى في قبره، وذلك عندما نبش قبره من قبل السلطات العسكرية التركية، وتم نقل جثمانه بطائرة عسكرية إلى مكان مجهول إلى غاية كتابة هذه السطور.
ونحاول هنا استعراض بعض المرافعات التي ألقاها بديع الزمان سواء أمام المحاكم التركية أو في مناسبات أخرى، والواقع أنه لولا المعاناة التي لازمت بديع الزمان النورسي والاضطهاد الذي رافقه طيلة حياته لما تمخض عن مثل هذه المرافعات ذات القيمة الفلسفية والحقوقية الرفيعة، وهذا هو السبب الذي من أجله كتب لرسائل النور -التي قام بديع الزمان بكتابتها في فترات متقطعة- هذا الذيوع والانتشار والقبول والانبهار، وهو يشير إلى ذلك بقوله: “إن أكثر أحداث حياتي، قد جرت خارجة عن طوق اقتداري وشعوري وتدبيـري، إذ أعطيت لها سيرٌ معينٌ ووُجّهت وجهةً غريبةً لتنتج هذه الأنواع من الرسائل التي تخدم القرآن الحكيم، بل كأن حياتي العلمية جميعها بـمثابة مقدمات تمهيدية لبيان إعجاز القرآن بـالكلمات…”.
…بل إنني على قناعة تامة من أن المضايقات التي يضايقونني بها في أغلب الأوقات والعنت الذي أرزح تحته ظلمًا، إنما هو لدفعي -بيد عناية خفية رحيمة-إلى حصر النظر في أسرار القرآن دون سواها، وعدم تشتيـت النظر وصرفه هنا وهناك.
وهو يعتبر الغربة والعزلة التي فرضت عليه قهرًا نوعًا من الكرم الإلهي الذي مكنه من التفرغ لكتابة رسائل النور، ويقول في ذلك: “…حتى إنه في غضون هذه السنوات السبع من حياة النفي و الاغتراب وعزلي عن الناس -دون سبب أو مبـرر وبـما يخالف رغبتي- أمضي أيام حياتي في قرية نائية خلافاً لـمشربي وعازفًا عن كثير من الروابط الاجتماعية التي ألفتُها سابقًا، كل ذلك ولدي قناعة تامة لا يداخلها شك من أنه تهيئة وتحضير لي للقيام بخدمة القرآن وحده، خدمة صافية لا شائبة فيها…”.
ويذهب بديع الزمان إلى القول بإن هذه المضايقات التي تعرض لها جعلته يصرف النظر عن مطالعة الكتب ويتفرغ تفرغًا تامًا للقرآن، ويقول في ذلك: “…بل إنني على قناعة تامة من أن المضايقات التي يضايقونني بها في أغلب الأوقات والعنت الذي أرزح تحته ظلمًا، إنما هو لدفعي -بيد عناية خفية رحيمة-إلى حصر النظر في أسرار القرآن دون سواها، وعدم تشتيـت النظر وصرفه هنا وهناك، وعلى الرغم من أنني كنت مغرماً بالمطالعة، فقد وُهبتْ لروحي مجانبةً كتاب آخر سوى القرآن الكريم”.
المرافعة الأولى: مرافعة بديع الزمان أثناء إحالته على الخبرة النفسية
عندما قدم بديع الزمان لمدينة إسطنبول تحدى جميع العلماء من جميع التخصصات لمناظرته وحجز غرفة بأحد الفنادق وعلق عليها لافتة كتب عليه هنا يوجد جواب كل سؤال، وشارك في مناظرات كثيرة أفحم فيها جماعة العلماء، فاتهم بالجنون، وقال البعض إن هذا الرجل مجنون، لأنه يعلم كل شيء!، وسجلوا اسم بديع الزمان في سجل المجانين فألقوا به في مستشفى المجاذيب. وبعثوا من القصر طبيبًا ليفحص قواه العقلية في المستشفى، ولكن بديع الزمان تولى الدفاع عن نفسه قائلاً: “إنني لست مصابًا بالمرض بل الأمة والبلاد كلها، وجئت لأداوي أمراضهم، فالمنطقة الشرقية هي هي مذ خلقها الله سبحانه، وأهلوها غارقون في مستنقع الجهل، وجئت إلى هنا أملاً في إنقاذهم، ولكن عندما سعيت في هذا الأمر اتهمت بالجنون، إنه حقًا من عاشر المجانين يكون مجنونًا -فجئت إستانبول وأصبحت مجنونًا”.
إن أكثر أحداث حياتي، قد جرت خارجة عن طوق اقتداري وشعوري وتدبيـري، إذ أعطيت لها سيرٌ معينٌ ووُجّهت وجهةً غريبةً لتنتج هذه الأنواع من الرسائل التي تخدم القرآن الحكيم، بل كأن حياتي العلمية جميعها بـمثابة مقدمات تمهيدية لبيان إعجاز القرآن بـالكلمات
ولما تم عرض بديع الزمان على الطبيب النفسي لإجراء الخبرة القضائية على قواه العقلية ألقى على مسامع الطبيب مرافعة طويلة في غاية الدقة والرصانة نورد بعضًا من جوانبها، يقول في ذلك: “أيها الطبيب المحترم! استمع أنت، فسأتكلم أنا، أعطيك دليلاً آخر على جنوني! وهو الجواب من دون سؤال! لاشك أنكم ترغبون في الاستماع إلى كلام مجنون غريب. إنني أطلب إجراء الكشف عليّ على صورة محاكمة، وليكن وجدانك هو الحكم، ومن العبث والفضول إلقاء درس في الطب إلى طبيب، ولكن واجب المريض أن يعينه في تشخيص العلة، فأرى من الضروري الاستماع إليّ، كيلا يكذّبكم المستقبل”.
ثم يوضح بديع الزمان للخبير النفسي أنه لا يمكنه فحصه بالمعايير السائدة لدى ساكنة إسطنبول لأنه ترعرع في كردستان ونشأ في بيئة مختلفة قائلاً: “إني ترعرعت في جبال كردستان، فعليكم أن تزنوا أحوالي التي لا تروق لكم بميزان كردستـان لا بميزان إستانبول الحضاري الأنيق، فلو وزنتم بميزانها فقد وضعتم إذًا سدًا مانعًا أمامنا نحو منبع سعادتنا إستانبول، ويلزمكم سوق معظم الأكراد إلى مستشفى، ذلك لأن الأخلاق المفضـلة -في الأناضول- هي الجسارة وعزة النفس والثبات في الدين، وانطباق اللسـان على ما في القلب، بينما الظرافة والرقة وما شابهها من أمور المدنية تعدّ بالنسبة لهم مداهنة وتزلفًا”.
ويشير بديع الزمان إلى أنه غير معني باتباع العادات والاهتمامات السائدة بين الناس لأن له اهتماماته الخاصة قائلاً: “إن أحوالي وأخلاقي مخالفة للناس، كما هو الحال في ملابسي، فاتخذوا الأمر الواقع والحق محل النظر وموضع الاعتبار، ولا تتخذوا ما روّجه الزمان أو العادات من أخلاق سيئة بتقليد الناس بعضهم بعضًا مقياسًا لوزن الأمور.
عندما قدم بديع الزمان لمدينة إسطنبول تحدى جميع العلماء من جميع التخصصات لمناظرته وحجز غرفة بأحد الفنادق وعلق عليها لافتة كتب عليه “هنا يوجد جواب كل سؤال”، وشارك في مناظرات كثيرة أفحم فيها جماعة العلماء.
إنني مسلم، ملتزم، ومكلّف بهذا الالتزام والوفاء به من حيث الإسلام، فعليّ أن أفكر فيما ينفع الأمة والدين والدولة ولا أقول ذلك القول الفاسد المميت؛ مالي وهذا… فليفكر فيه غيري”.
ويثير بديع الزمان انتباه الخبير النفسي إلى أن من عادة الناس في كل العصور نعت من يخالفهم بالجنون ولو كان أشد ذكاء منهم قائلاً: “لقد أتى ومضى أشخاص نوادر، كل سبق زمانه، ولكن الناس حملوا أطوارهم على الجنون بادئ بدء، ثم على السحر والخوارق. إن التضاد الموجود بين هاتين النقطتـين إيماء واشارة إلى التضاد الموجود بين مدّعيات الذين حكموا عليّ بالجنون وأدلتهم إذ قالوا بأفعالهم إنه مجنون، لأنه يجيب على كل مسألة، ويحلّ كل معضلة! إن الذي يورد مثل هذا الدليل مجنون بلا شك”.
ويوضح بديع الزمان للخبير النفسي كيف أن طبيعة مزاجه الحاد واهتماماته الفكرية بشؤون الأمة هي الأسباب التي تجعله دائم الغضب، يقول في ذلك: “إنه من الضروري أن يحتد ويغضب كل من له مزاج عصبي مثلي، لأن الذي يحمل فكرًا رفيعًا -أي الحرية الشرعية- منذ خمس عشرة سنة، وأوشك أن يراه فعلاً، إذا به يرى نفسه على خطر وهلاك من حرمان رؤيته -بانقلاب عظيم- كيف لا يحتد ولا يغضب؟
ثم إن وزير الأمن أشد منى حدّة وغضبًا فهو أكثر مني جنونًا إذن، علمًا أنه لا يسلم إلاّ واحد من ألف من الناس من هذا الجنون الموقت، فكل الناس مجنون ولكن على قدر الهوى اختلف الجنون، فلئن كانت المداهنة والتملق والتزلف وفداء المصلحة العامة في سبيل المصـلحة الخاصة، تعدّ من مقتضى العقل… فاشهدوا إني أقدم براءتي من هذا العقل، مفتخرًا بالجنون الذي هو أشبه ما يكون بمرتبة من مراتب البراءة”.
ويختم بديع الزمان مرافعته كالتالي: “والآن أظن أن لديكم شكًا في صحة عقلي بعد زوال الشبهة عن شعوري، ويمكن أن يزول ذلك الريب بأدنى محاكمة عقلية. إذ إن رجلاً من الأكراد الجاهلين الطليقين الأحرار، إن لم يكن صاحب وفاء لأمة راقية كالألماس، ولم يكن صاحب فكر رفيع، كيف يستطيع أن يستر حيلته وفكره الفاسد طوال هذا الزمان مع تـميّزه عن الآخرين؟ إنني أعدّ الحيلة في ترك الحيل، فإذن قد شعر بقلبه وفاءً خالصًا صافيًّا يفوق الجميع حتى وجد نفسه في مثل هذه الأحوال.
وقد صدق الشاعر:
وكم من عائب قولاً صحيحًا****وآفتُه من الفهم السقيم
بمعنى أن فهم أطبائنا هو فهم سقيم…، فهم مجانين بحكم تقاريرهم الطبية، ووزير الأمن هو الآخر مجنون لشدة حدّته وغضبه.
أيها الطبيب
إن كنتَ طبيًّا حاذقًا فداوي نفسك قبل أن تداويني.
ويا أيها الناظرون إلى كلامي هذا!، إن كان فيه ما يجرح شعوركم، أو لا تهضمه معدتكم الضعيفة، فاعذروني لأنني قلته في وقت الجنون حينما كنت بين جدران مستشفى المجاذيب…، ولا شك أن تأثير المحيط أمر مسلّم به؛ لأن ديوانه را قلم، نسيت بمعنى أن القلم رفع عن المجنون، فالأمي الجـاهل أي الحر، والكردي الذي لا يتقن التركية يمكن أن يبين مرامه بهذا القدر والسلام”.
وبانتهاء هذه المرافعة القيمة يضطر الخبير النفسي إلى إعداد تقريره متضمنًا الإشارة التالية: “لا يوجد من هو أعقل من بديع الزمان إنه نادرة العالم”.