منذ أن خلق الله تعالى الإنسان ومنحه جميع الفضائل التي يتميز بها من الفهم والإدراك والشعور، وهو يطلق بصره ويجول بخاطره وعقله للكشف عن حقائق الكون مما يدور حوله ولا يعرف له سبب، فهو يريد معرفة ماهية وطبيعة كل ما خفى عليه.
إن هذا الدافع الذي يحرك الإنسان للكشف عن الحقائق المجهولة له، هو غريزته الإنسانية المجبول عليها، وهو ما نطلق عليه نحن الطبيعة البشرية أو الطبع البشري، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الطبيعة أو الغريزة بالفطرة؛ أي أن الإنسان مفطور ومجبول على تتبع حقيقةكل ما خفى عليه والكشف عن ماهيته، ولذلك تجد أن الإنسان منذ أن يتكلم وهو في مرحلة طفولته دائمًا ما يسأل من هم حوله عن الأشياء التي لا يعرفها،إنه يفعل ذلك بفطرته، وأيضًا ترى الإنسان دائمًا ما يحب الاستماع إلى قصص الذين عاشوا قبله ومضوا من زمن بعيد، يريد معرفة كيف كانت حياتهم وأحوال أزمانهم؟.
إن الإنسان دائمًا ما يسعى وراء فكرته وينتصر لها ويتعصب من أجلها، ولكن ماذا لو اعتقد الإنسان فكرة فاسدة ناشئة عن رداءة عقله وسوء خواطره؟ أو اعتنق فكرة غيره واعتقد سلامتها وكمالها؟.إن هذا الإنسان قد توهم بفكرة غيره وبنى عليها وأصبح يدافع عنها دون أن يشعر أنه واهم،وحري بنا الآن أن نتطرق إلى معرفة الوهم ما هو، وهل هو مرض، وما ضرره؟
عندما نريد أن نتكلم عن الوهم ونذكر بيانه ما هو؟ نقول “إن الوهم هو أحد أضرب الأباطيل، والأباطيل قد وردت في القرآن الكريم بلفظ”الأساطير “في أكثر من موضع هذه الأساطير أو الأباطيل إنها في الحقيقة الأوهام التي ينخدع الإنسان فيها ويصدقها وذلك لقصور معرفته ولضعف فكرته، لو تبين لك هذا عرفت أن الوهم مرض يصيب العقل ويخرجه عن كماله، واتزانه وهو أشد خطورة من أمراض الأبدان ولسائل أن يسأل كيف ذلك؟ والإجابة على هذا السؤال تكمن في الكشف عن أضرار الوهم على الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه، وهو ما سوف نذكره الآن بالتفصيل، فالوهم للعقل كالقيود والأغلال، وهي الحبال والسلاسل التي تكبل بها الأيدي والأقدام للحد من حركة الإنسان ولتقيد حريته فكما أن الأغلال تقيد الحركة.
إن الإنسان دائمًا ما يسعى وراء فكرته وينتصر لها ويتعصب من أجلها، ولكن ماذا لو اعتقد الإنسان فكرة فاسدة ناشئة عن رداءة عقله وسوء خواطره؟
فإن الأوهام تقيد الفكرة، والفكرة هي الشيء الذي يتميز به الإنسان كجنس بشري له عقل يفهم به ويدرك. ومن هنا كانت شدة خطورة الأوهام فهي تقيد العقل فيكون هذا القيد للعقل كالأسر للجسد بل يفوق قيد الأجساد؛ لأن قيد الأسر قد لا يترتب عليه فساد، أما بالنسبة لقيد العقل بالوهم فالأمر يختلف فقد يقتل الإنسان أو يفسد ويخرب وهو متوهم أنه يخدم الدين مثلاً أو يخدم الإنسانية أو يخدم فكرة ما يتوهم صوابها وهذا ظاهر وبين لمن يتدبر، وأيضا قد يهلك الإنسان نفسه بسبب الوهم الذي يصور له الباطل والخيال أنه حقيقة وواقع، فتراه يترك التداوي الذي هو طريق العلاج والشفاء ونهج الأنبياء والحكماء ويتجه إلى الخرافات التي هي طريق الهلكة والشقاء.
إن الذي يتقيد عقله بالوهم قد احتبس خلف جدران قد صنعها بنفسه وأصبحت له سجنًا ينعزل فيه عن بني جنسه من البشر. وإنما نشأت هذه الجُدر بسبب غفلته وجهله وقلة معرفته، وهذه الأسباب نفسها هي الطريق والسبيل المؤدي إلى الوهم، إن الوهم الذي يقيد العقول هو مغاير للحقائق تمامًا فلا وجودله في عالم الواقع ولا صورة له إلا في عقل وفي وجدان من يتصوره، ولو قارنت بين الوهم الذي ليس له أساس في عالم الواقع، وبين الظن الذي هو نسبة من نسب تصور الحقائق.
وبالمقارنة يتبين لك أن الوهم أضعف وأقل منزلة من الظن إذ أنه لا وجودله أساسًا بعكس الظن، وإذا كان الظن الذي هو أعلى وأقرب للتصور لا يقوى على مجابهة الحق كما ورد في سورة يونس عليه السلام:(إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُون)(يونس:36).
وإذا كان الأمر كذلك فما هو القول في الوهم إذًا؟ إنه من أضعف ما يكون حيث لا يستند في حقيقة صورته إلى أي وجه من أوجه القياس العقلي السليم، بل إن نشأته غالبًا ما تتكون عن السماع والاستماع دون التحقق من صحة تلك الأقاويل والأقاصيص والتي نقلتها الأسماع لتقيد بها الأفهام.
وكلما يكبر الوهم ويتعاظم فإن قيد العقل به يشتد ويقوى، لدرجة أنك تستطيع أن تتصور أن هناك في الحقيقة من يستطيع أن يسوق عددًا كبيرًا من البشر يتوجه بهم حيثما شاء إلى أي وجهة يريدها!، ينقادون له في المسير لا يخالفون وجهته التي يقصدها كأنهم قطيعًا من الغنم أو الإبل وإنما فعل ذلك بهم بتقييد عقولهم، بالأوهام التي استحكمت على هذه العقول وأخرجتها عن حد الصلاح.
إن الوهم مرض يصيب العقل ويخرجه عن كماله، واتزانه وهو أشد خطورة من أمراض الأبدان. فإن الأوهام تقيد الفكرة، والفكرة هي الشيء الذي يتميز به الإنسان كجنس بشري له عقل يفهم به ويدرك.
وإذا كان الوهم بهذه الصورة السيئة، فإن على الإنسان أن يسعى للقضاء على أسباب الوهم ومحاربتها؛ وهذا الزام يلتزم به الإنسان لثقل مكانته وحجم منزلته بين أجناس المخلوقات كلها، فهو صاحب الفهم والإدراك. وقد وجه القرآن الكريم إشارة لكل إنسان، هذه الإشارة هي شعلة من نور وقطعة من ضياء توضح معالم الطريق والهداية لكل صاب عقل، لئلا يقع عقله فريسة للأوهام ويتم أسره بقيدها كما ذكرنا ذلك، هذه الإشارة بالنور والضياء تتمثل في كلمة واحدة ألا وهي أول كلمة نزلت من القرآن إنها فعل أمر وهي قوله” اقرأ” هي كلمة واحدة.
ولكنها مفتاح العلم والفهم والوصول إلى الحقائق فإن الحقائق لها دلائل، والدليل له طريق لا يتسع للسفيه ضعيف الرأي أن يسلكه، ولا يسلكه إلا صاحب الجد الفطن المقدام، إن مقاومة الوهم لا تتأتى إلا بنشر معالم المعرفة وبناء العقول وتدريبها على تتبع الحقائق ومعرفة كيفية الكشف عنها وذلك بشيء من التدبر واليقظة الفكرية.
لا يزال الإنسان يسعد ويهنأ ما لم يتقيد عقله بالوهم ولو تسلل إليه هذا الوهم لسوف تراه في صورة غير التي كان عليها، فهيا أيها الإنسان يا صاحب العقل والفهم حرر نفسك من وهم قيد عقلك، وإن كان عقلك غير مقيد بالوهم فحاول جاهدًا أن تساعد غيرك من بنى جنسك على اختلاف لونه ومعتقده أن يتخلص من قيود الوهم، واعلم بأن ذلك فيه الخير الكثير لك ولغيرك فقد يتوهم الطبيب الجراح أنه لا يقوى على استخدام مشرطه لأن يده ارتعشت مرة، أو سقط مشرطه من يديه مرة والأمثلة غير ذلك كثيرة لا تحصى ولا تعد، فكن دليلاً لنجاة غيرك من الهلكة، وكن حريصًا على تحرير عقلك من الوهم فإنك قد عرفت الآن أن قيد العقول بالأوهام هو أشد وأقوى من قيد الأغلال.