راكم الإنسان طيلة وجوده خبرات حضارية تأثلت مع مرور الأزمان والدهور، وتأصلت وترسخت بفعل عوامل التاريخ والجغرافيا، فأصبحت بمثابة سدود كبرى تصب فيها أودية التجارب البشرية بمحاسنها ومساوئها، بنجاحاتها وإخفاقاتها، لتتفرع عنها قنوات ري تجتهد في تحسين ناتج المحصول الحضاري، أو تخترع أساليب جديدة تستجيب لتحدياتها القائمة.
فلا يكون بناء حضاري إلا على أسس قائمة، والأسس هي مكونات هويةٍ تواضع أهلها عليها وأجمعوا أمرهم حولها، فكانت بذلك بناء رمزيا يشكل العقل والوجدان، ويساهم كل فرد أو جماعة في تشكيله ليزداد مع مرور الزمن رسوخا وصمودا، فتكون الهوية بذلك عملا مستمرا لا يعرف توقفا، وتتبدل تجلياته وتتغير معطياته بحسب تغير الأحوال والأزمان دون المساس بالجوهر الذي ضحى من أجل بناء حجره الأساس وحفظه بالكثير الكثير من الأنفاس.
إن الهوية هي ذلك الوعاء الحضاري الذي لم يكن أبدا وليد لحظة متعينة في الزمن، بل هي تشخيص حلم جماعي استطاع أهل الإبداع الإعماري أن يصوغوه في شكل تتوحد عليه الآمال وتجتمع المشاعر لتنطلق في بنائه لبنة لبنة، وبذلك كانت الهوية دائما عنوان الثبات والديمومة والرسوخ في الزمان والمكان باعتبارها تراكما لا يعرف جمودا، بل وإن أخطر ما يتهدد هوية حضارية ما هو فقدانها للتجدد ودخولها في الموت المحنط الذي لا يبقي إلا على جسد ميت بدون روح سرعان ما تأكله آلة الزمن التي لاترحم، بخلاف ما أضحى يهيمن على بعض التوصيفات النقدية للأنماط الحضارية حيث أصبح ما يتعلق بخطاب الهوية عنوان الجمود على الماضي.
فلا يكون بناء حضاري إلا على أسس قائمة، والأسس هي مكونات هويةٍ تواضع أهلها عليها وأجمعوا أمرهم حولها، فكانت بذلك بناء رمزيا يشكل العقل والوجدان، ويساهم كل فرد أو جماعة في تشكيله ليزداد مع مرور الزمن رسوخا وصمودا.
فذلك ليس إلا تمثل للأموات الذين فقدوا القدرة على الحركة والمبادرة الحضارية، فأسندوا ظهورهم على جذوع شجرة الهوية، مستظلين بأغصانها، غير آبهين برعايتها وتعهدها بماء التجديد الذي يمدها بالحياة، ويضمن لها الاستمرار، فلاهوية مع الجمود، ولا تجدد بدون تراكم، وإن ما يتم القصف به من أنواع الخطابات التي تدعي الهوية ليس إلا نوعا من الكسل التاريخي، والبطالة الحضارية التي تخنق قنوات السدود الكبرى، مثلها مثل الوحل الذي تسرب إلى قاع السدود التي إذا لم تتدارك بالصيانة والإصلاح الدائم، شلت حركة السدود نفسها، وبقيت بناءات فارغة عاجزة عن أداء وظيفتها الإحيائية والإنمائية، ومن ثم تبدو خطورة ما يمكن تسميته بالهويات الجاهزة، وهي تسمية تحمل من التناقض ما يجعلها صادمة للوعي المجتمعي، فكيف نجمع بين الأثيل والأصيل الذي تراكم عبر مسيرة زمنية طويلة، وبين الجاهز وما يحيل عليه من سرعة في الإنجاز زمانا ومكانا، وانفصال عن بصمة تميزه؟
فالهويات الجاهزة لا تؤمن إلا بظاهر الأشياء وما يتبدى للجميع على سطحها، وتكفر بمعناها وجوهرها وروحها، إذ تتسلط على القيم الحضارية العليا فتعمل على تقويضها باختزالها في سلوك معين، ابتداء من مظهر أو هيئة جسدية مخصوصة أو مأكل أوملبس يجعلك اليوم أمام جزر معزولة خارج الحاضر بل الماضي نفسه، وبذلك فهي ليست مذهبا في التقليد أو نزعة ماضوية، بل هي صيحات عدمية تأخذ من تلفيقات مظهرية أسباب وجودها ودعايتها، بحيث لا تزيد المتلبس بها إلا فصاما وابتعادا عن واقعه، واستسهالا للمنجز الحضاري، فلا تراه يتقن إلا فنون الهدم والردم باسم “هويته” الجاهزة.
المصدر: http://www.massarate.ma/