يعد الشعور بالحزن أمرًا عاديًّا بالنسبة إلى الإنسان، ويتضح ذلك من خلال تصرفاته وأفعاله، تعبيرًا عن حزنه. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل الحيوانات تعرف الحزن مثل الإنسان؟ وهل لديها هذه الملكة في التعبير عند فقد عزيز لديها؟ وقد راود هذا التساؤل أذهان الكثير من علماء الأحياء ودراسة السلوك، الذين توصلوا من خلال تتبعهم لسلوك بعض الحيوانات في المحن التي تواجهها؛ إلى أن الحيوانات تمتلك الشعور بالحزن نفسه الذي يعتري الإنسان عندما يفقد أحباءه، بل هناك من يموت حزنًا على أبنائه وأصحابه.

عمل العلماء على وضع تعريف محدد للحزن والكيفية التي تقاس بها هذه المشاعر، وكيف يمكن فصل مشاعر الحزن وتميزها عن سائر المشاعر الاجتماعية الأخرى… وبعد جهود ودراسات مستفيضة، وضع العلماء عددًا من الشروط إذا تحققت كان الحيوان في حالة حزن، أهمها اختيار حيوانين أو أكثر قضيا معًا وقتًا يتعدى الأمور الحياتية، كالبحث عن الغذاء والتزاوج. ثانيًا متابعة سلوك الحيوان عندما ينفق أو يموت رفيقه؛ فالحيوان الباقي على قيد الحياة يتغير سلوكه، ربما بامتناعه وقتًا ما عن الأكل أو النوم، أو بتبنّي وضع جسماني مختلف عن المألوف له، أو تعبير الوجه عن الكآبة والاضطراب أو العجز عن النوم بشكل عام.

حزن الدلفين

الدلفين حيوان بحري ذكي، خفيف الحركة، ذو صوت مميز، يمكن فهم إشاراته بسهولة، فهو حيوان به طيبة ورقة ويتنفس الهواء. وعلاقة هذا الحيوان بالإنسان قديمة قدم وجود الإنسان على سطح الأرض، وتحكي القصص الرومانية القديمة، على لسان الشاعر “بلين”، قصة طفل ربطته صداقة بأحد الدلافين، كان يحمله على ظهره كل يوم إلى الجهة الأخرى من النهر حيث توجد مدرسته. وقد حدث أن أصيب الطفل بمرض أدى إلى وفاته، فحزن الدلفين كثيرًا على وفاة الطفل، ومات هو الآخر من شدة الحزن.

قام عالم الأحياء البحري الإسباني “خوان غونزالفو” عام 2007، على شواطئ مفراكيكوس في مدينة ميلان الإيطالية بدراسةٍ راقب فيها أنثى دلفين وهي تحمل صغيرها النافق… رصد محاولاتها في الابتعاد عن أعين المراقبين بالسباحة بعكس التيار، وكأنها تحاول بذلك أن تحرك صغيرها ولكن بلا فائدة. وترصد الدراسة مشهدًا آخر بسبب ارتفاع درجة الحرارة، حيث بدأت الجثة في التحلل بحلول المساء، وإذا بالأم تأخذ قطعًا من أنسجة طفلها وهي مستمرة في السباحة. وفي اليوم التالي -وفي تصرف أشبه بما يقوم به الإنسان عند فقدان الأحباب- تجمّع حول أنثى الدلفين ثلاثة من أصدقائها ولكن من دون الاقتراب منها، لتتصرف كما يحلو لها، حيث بدت فاقدة الشهية تمامًا. وإزاء هذا الموقف المؤثر، قرر العالم عدم المساس بجثة الصغير وتشريحه، إذ قال: “ما جعلني أبتعد عن ذلك هو الاحترام”.

وإذا تتبعنا الحزن في عالم الحيوان، نجد أن حيوانات أخرى تعرف مشاعر الحزن وتعبر عنه ولكن بطريقتها الخاصة. من خلال متابعة سلوك هذه الحيوانات، نجد أن أمهات البابون والشمبانزي الإفريقي، لها طريقة خاصة في التعبير عن الحزن عند فقدان صغارها، حيث تحمل جثث صغارها أيامًا وأسابيع تعبيرًا عن حزنها العميق. بينما نجد الحصان يمتنع عن الطعام حزنًا على فقد صاحبه. أما عصافير الدوري والطيور التي لم تدجن، تصوم حال وقوعها في الأسر، وربما كان ذلك تعبيرًا عن الأسى والحزن عما لحق بها من أذى.

عزاء جماعي

ولا تقتصر حالات الحزن في عالم الحيوان على هذه الحالات الفردية، بل هناك دراسات علمية اهتمت برصد حالات من الحزن الجماعي لدى بعض فصائل الحيوانات، وبيّنت أن هذا الأمر ليس قاصرًا على الإنسان وحده. ومن حالات الحزن الجماعي لدى بعض فصائل الحيوانات، هذه الدراسة التي قام بها العالم “كلاس هامليون” في كينيا، حيث رصد تصرفات قطيع من الفيلة عند نفوق قائده؛ فرأى أن قائد قطيع آخر قام بدفع جثة الفيل الميت بأسنانه العاجية محاولاً إنهاضه، إلا أنه لم يفلح في ذلك، فحاول مرة أخرى، إلا أنها باءت بالفشل أيضًا. وبعد ذلك جاء قطيع الفيل الميت، وقام بتحريك الجثة يمنة ويسرة بواسطة أجسامه وأقدامه مرارًا، ولكن لم تتغير النتيجة. وقد خلص صاحب الدراسة (كلاس هاملتون) إلى أن الفيلة لا تحزن على أفراد قطيعها فحسب، بل تتألم وتهتم بالموتى من خارج قطيعها أيضًا.

وفي دراسة أخرى، رصدت ملامح الحزن الجماعي لدى قطيع من الزرافات؛ فكما هو معروف أن الزرافة، من الحيوانات الاجتماعية إلى حد كبير، حيث تقوم الأم بحراسة وليدها ومراقبته لأربعة أسابيع، وعندما تذهب إلى البحث عن الغذاء، فإنها تكلف إحدى الزرافات بحراسة وليدها. ومن الأمور التي رصدها العالم “مولر” عام 2010 -وهو عالم بيولوجيا في كينيا- هو أن أنثى الزرافة في محمية سوبسمبو الكينية، وضعت مولودًا ذا أرجل مشوهة لا يستطيع المشي بها بالطريقة المعتادة، فكانت هذه الأم لا تبتعد عن صغيرها أكثر من 20 مترًا، مع أن قطيع الزرافات -عادة- ينتشر لمسافات بعيدة للحصول على الغذاء، ولكن أم الصغير المعاق خالفت هذه القاعدة، وفضّلت البقاء بالقرب من وليدها مضحية بغذائها، ومعرّضة صحتها للتدهور.

ومن الملاحظات الغريبة التي رصدها الباحث، أنه شاهد 17 أنثى -ومعها أم المعاق- في حالة قلق وهي مجتمعة حول الوليد، واكتشف القطيع أن الوليد قد نفق، وأن هذا التجمع هو لتعزية الأم في مصابها. وبعد ذلك زاد عدد المعزين حتى وصل إلى 23 أنثى وأربعة صغار، وبدأ المعزون بملامسة جثة الصغير بأنوفهم، وحتى نهاية اليوم لمست 15 أنثى جسم الوليد النافق وكأنها تودعه الوداع الأخير. وبعد مرور يومين على نفوق الصغير، توافدت أعداد أخرى من الزرافات إلى مكان الجثة. وفي اليوم الثالث للعزاء ابتعدت الأم مسافة 50 مترًا عن الجثة، إلى أن التهمت الضباع الجثة.

وفي عام 2001، لاحظ العالم “ربنز” من محطة أبحاث التدريبات التعليمية، أن الدلافين ذات الأسنان الكبيرة والأنوف الدقيقة التي تعيش في جزر الكناري، يأخذ الحزن لديها شكلاً جماعيًّا أيضًا، حيث إن الأم لا تقوم وحدها بدفع جثة وليدها النافق، بل تشاركها دلافين أخرى، وعندما يفتر عزم الأم وتخور قواها ويصاحبها الإعياء، تقوم هذه الدلافين بحمل الجثة فوق ظهورها.

ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان في هذا الصدد هو: هل للحيوان إدراك لمفهوم الموت؟ الجواب: لا نعرف بالتأكيد، ولا توجد أدلة دامغة على أنها تفعل ذلك. إلا أن إدراك المحنة بسبب فقدان عزيز لدى الحيوان، قد تكون متعبة وقاسية عليه جسديًّا خاصة في البراري، حيث يقوم بجهود مضنية لتأمين الطعام إضافة إلى تجنب الافتراس. وكما يقول “جون آريشر” في كتابه “طبيعة الكآبة لدى الحيوان”: أما المشاركة، ففي العزاء، والعمل على جمع الطعام، والقيام بالحياة الطبيعية. لذلك عندما نشاهد حيوانين متعلقين ببعضهما وفجأة أُجبرا على الانفصال، فإنهما سيقومان بالبحث عن بعضهما على أمل اللقاء يومًا وبناء حياة جديدة.

(*) كاتب وباحث مصري.