معلوم أن القائد في المجتمعات الإنسانية دوره قيادة المجموعة أو المجتمع أو أي شكل من أشكال التجمعات الإنسانية إلى ما فيه صلاح في حراكها، وبالتالي هو -في الحقيقة- يقود جهود أفراد المجموعة. إلا أن المجتمعات العربية -على وجه العموم- تعتقد بأن وظيفة القائد هي إنشاء الشيء من العدم برعاية “الخطاب الديموقراطي”، أو بمعنى أصح “الخطاب الديماغوجي” الذي يقول بأن وظيفة القائد هي “خدمة المجموعة”. وهو خطاب غالبًا ما يوضع مقابلاً لصورة الحاكم المستبد الذي يحكم رقاب الناس بالنار والحديد. هذا الكلام وإن كان حقًّا في أحد جوانبه التي يضيئها الخطاب، إلا أنه يخفي ولا يوضح كيف للقائد أن يخدم رعيته.
وليس هذا فحسب وجه القصور في نظرة المجتمعات العربية للقائد، بل إن فكرة القيادة فيها مرتبطة ارتباطًا وجوديًّا بالحكم، فكأنما وظيفة القائد في المخيال العربي تقتصر على الحكم ودوره هذا ثابت، وفي الوقت نفسه هو أصل للاستقرار. كأنما العرب بهذا يعتقدون ضامرًا بأن الحاكم هو أصل الاستقرار، فإن أحسن حَسُنَتْ أحوالهم الاجتماعية والحضارية عمومًا، وإلا فإنها ستسوء.

القيادة إرشاد الناس بالحكمة، أي بالعلم (بمفهومه الواسع)، وبالتالي هي حركة علمية أكثر من كونها ممارسة سياسية، هي نتاج تفاعل كل الناس بمستوياتهم المختلفة، وليس تفاعل القادة فيما بينهم فحسب.

فلا عجب إذن أن يتحول أمر التغيير من تدافع أفكار إلى صراع سياسي، فهذه الشخصنة هي أصل الصراع السياسي، ومن بعده القتال الدموي. ومما يزيد الطين بلة، أن ابن خلدون قد أصّل لهذه الفكرة بادعائه أن التدافع بصيغته الداروينية، هي أصل كل صلاح في الأرض.
فالمخيال العربي إذن، يرى بأن تغير أحوال الأمة التاريخية مرتبط بتغيير القائد، وبهذا يكون القائد قد أخذ دورًا أكبر من حجمه الطبيعي، فالقائد لم يعد مسيّرًا للجهود الاجتماعية في تغيير وجه التاريخ فحسب، بل صار هو التاريخ عينه. أو على الأقل أصبحت الحركة الاجتماعية شرطها الأساسي والأوحد هو حركة القائد، وبذلك أخذ القائد دورًا جوهريًّا أو أقله مركزيًّا، وهو أكثر مما يتحمله هذا الدور. وهذه المركزية هي في حقيقتها وثنية، فهي تأله دور القيادة! إذ إن الإله في الأديان هو المخلّص الوحيد من مآزق الواقع، ناهيك عن تخيل دور القيادة في أنه يُوجِد الأشياء من العدم. والسؤال الواجب طرحه الآن: ماذا لو لم يوجد القائد المخلص المنقذ؟

حديث التجديد

إن قيل بأن الله عَهِد على نفسه أن يبعث في الأمة مجددًا للدين على رأس كل مئة سنة، فكيف بما هو دون ذلك من أحوال المجتمع؟ قلنا إنه بغض النظر عن كون أنْ عَهِد الله بأن يبعث على رأس كل مئة سنة مجددًا للدين لا يلزم أن يبعث مجددًا فيما هو دون ذلك، فإن هذا الإلزام بالأصل قاصر من جهتين؛ أما الأولى أن مفهوم القائد بهذا الشكل يصادم مفهوم القيادة بالجملة، والثانية أن غاية خلق الله لنا هو أن نعبده لا أن نكتفي بأن يبعث لنا مجددًا يخلّصنا من مآزق الحاضر.. فالعبادة ينتج عنها تزكية للنفس وهذه هي غاية التدين، وبهذا لم يكن هنالك حاجة للمجدد بمفهومه الشعبوي؛ لأن العبادة هي الأصل، ولا يقتضي على هذا ألّا تحتمل معها بعض الفروع كبعث المجدد، فكيف هو بما دون ذلك؟
إن الفهم الصحيح لحديث المجددين للدين على رأس كل مئة سنة، لا يصح إلا على ضوء مفهوم النبوة؛ فالأنبياء والرسل لم يكونوا مكلَّفين بتغيير ما في أنفس الناس -لأن هذا من قدرة الله فقط- بل كانوا مكلفين بالتبليغ.
فوظيفة المجددين -بناء على ما سبق- إزالة الشوائب التي لحقت بالرسالة المحمدية بمرور التاريخ، كأنما مهمتهم تعبيد الطريق نظريًّا وفق ما هداهم الله إليه، فإذا كان الأمر كذلك مع أعظم مقاصد الشريعة (تغيير ما بالنفس)، فكيف بما هو دون ذلك؟
إذن، تبين بأن استدلالهم بحديث المجددين للدين خاطئ، فالتجديد هنا حركة علمية يبلغها الناس، والناس أحرار في اتباع ما بُلِّغُوه من عدمه، وعلى ضوء هذا المفهوم الجديد، نعيد للقيادة مفهومها الطبيعي الذي هو إرشاد الناس لما فيه صلاحهم على حسب مقتضيات التاريخ وأحكام ما وراء التاريخ. فالقيادة إذن، هي إرشاد الناس بالحكمة، أي بالعلم (بمفهومه الواسع)، وبالتالي هي حركة علمية أكثر من كونها ممارسة سياسية، هي نتاج تفاعل كل الناس بمستوياتهم المختلفة، وليس تفاعل القادة فيما بينهم فحسب.

التغيير بين الإرادة والانقياد

من هنا أمكننا أن نرى كيف أن دور القيادة -رغم أهميته- لا يملك دورًا مركزيًّا، فضلاً عن عدم امتلاكه للدور الجوهري، فإذا كانت الحركة العلمية محلها كل المجتمع؛ فإن مصيرها أن تظهر بها فئة نخبوية تسمى “نخبة العلماء”، ثم يعقبها فئة عملية تسمى فئة “القادة”، وهي التي تقود حركة العلم في التاريخ.
إذن تشكُّل القادة في المسيرة السوية للمجتمعات الإنسانية تكون هي الأخيرة، ولا يخفى على أحد بأن هذا التراتب ليس تراتبًا زمنيًّا، بل هو تراتب تطوّري؛ بمعنى أن تطور فئة العلماء يجب أن يسبقه تطور على مستوى عامة الناس، ومن ثم يليه حتمًا تطور على مستوى فئة القادة. فالقائد العظيم -إذن- هو في الحقيقة ابن مجتمعه، فعلى الأقل شرط إمساك الشخصية القيادية العظيمة بصلاحها لدفة القيادة، هو أن يصدق الناس في سعيهم للإصلاح ليكون القائد مرشدًا لهم في ذلك.. فحتى المجدد للدين، لا يظهر حتى يبحث عنه الناس بعد أن تسوء أحوالهم العقدية والحضارية، فإذا بحثوا عنه بسعيهم الصادق في البحث عن الحقيقة، بعثه الله بقدرته التي لا تحتويها “كيف”، عندها تبدأ حركة التاريخ للمجتمع. وكذلك الحال مع المجتمعات الإنسانية، ففي اللحظة الحرجة من تاريخها -حينما تطلب الهداية بصدق- يبعث الله من يرشدها.
وهذا الاطمئنان لا يكون -بطبيعة الحال- نتيجة عمل عقلي محض.. التاريخ الإسلامي يضرب مثلاً للاضطراب الذي أحدثته الجدالات الفلسفية والفقهية والكلامية في أوساط العوام رغم حجم ازدهار العلوم الذي كانت تتميز به الحضارة الإسلامية، ذلك لأنها كانت مبنية بناءً عقليًّا محضًا، وإلى اليوم لا يزال ذلك القلق حادثًا ولو بدرجة أقل، خاصة مع دخول العلمانية إلى الخط، إنما الاطمئنان يقع بالاطلاع على الأفق.. وهذا الأمر لا يتأتّى إلا لمن صدق، فيكون ذلك باطمئنان قلب طالب الهداية لما يأتي به المجدد، وكذلك الحال مع المجتمعات الإنسانية لما تقف على اللحظات الحرجة. وبالتالي لا يتأكد صدق إرادة الجماهير التغييرية حتى يولوا العلم أهميته اللازمة، ولن يكونوا كذلك حتى يشتركوا في الحركة العلمية أيْ في بناء العلم.
وبهذا، يتشكل جهاز مراقبة ومشاركة أهلي، والذي هو أقدر على التأثير من جهاز المراقبة المدني، فيكون مجمل الحديث -السابق سرده- وجه من أوجه المساواة المجتمعية المانعة لأي نزعة استبدادية قابلة للظهور بأي شكل من الأشكال، تكون أرقى من مساواة المدنية.
وعليه، فإن انقياد الصادق في إرادة التغيير أو الانقياد التزكوي (نسبة لتزكية النفس بالصدق)، هو في كينونته عين إرادته؛ لأن إرادة المريد للتغير تكون هي عين إرادة المطمأن له في تدبيره -متى ما صدق الطرفان طبعًا- استنادًا على أمر هو أعلى من الدستور دون أن يلغيه وهو فتح من الله عز وجل.

النظام السياسي المحيط

فإذا اعترض معترض على قولنا هذا محتجًّا بقدرة الدستور المتفق عليه بين الناس قادر على تسيير أمور الناس من دون الحاجة لأي مظهر ديني، قلنا إن الاحتكام إلى محض الدستور قاصر من جهة تفاوت أفهام الناس، وهنا يفتقد شرط المساواة، بينما فَتْح الله يتساوى فيه الجميع من جهة أنه قد يناله كل من أغشته لحظة الصدق، فيكون بذلك متاحًا للجميع بنفس النسبة الاحتمالية في أي لحظة كانت، ولا يستلزم الوقت الذي يستلزمه تحصيل العلم الصوري على أنه يذكره، فإما أن يصدقه أو يكذبه.

ثم إن العلم الصوري قد يناله من يريد بجهد جهيد، ولكن ليس كل من ناله اهتدى به، واستنادًا على ما يمكن ملاحظته في تاريخ البشرية، بأن كل تطور فلسفي أو عقلي عند الناس في رؤيتهم لوجودهم (سواء بالارتقاء أو التقهقر)، يرافقه تطور لرؤيتهم لماهية الحكم وكيفيته.. وهو ما يمكن ملاحظته بجلاء أكبر في القرون الأخيرة (قرون عصر الحضارة الغربية) حيث انتقل الناس من الحكم على المحمول في القضايا المنطقية والذي يترجم في مجال السياسة بــ”الحاكم”، إلى الحكم على الحامل والذي يترجم في مجال السياسة بـ”كرسي الحكم”، بمعنى أن الحضارة الغربية انتقلت من الملكية (حكم الفرد) إلى الديموقراطية (حكم المؤسسات)، أي انتقلت من المضمون العيني إلى الحامل الصوري.
ما يهمنا هو أن النسق الصوري الغربي يجسد مبدأ التدافع والتصادم الأعمى، أي المفرَّغ من أي قيمة. فإن قيل بأنها تحمل قيم الحرية، قلنا بأن هذه القيم المدعاة تخدم مبدأ التدافع الأعمى أو التصادم، وبالتالي هي في حقيقتها تنتهي إلى اللاقيمة.
وإنسان الغرب اليوم لما أغرق في السببية الصماء، فقد ذاته بفقدانه لقيمه المتجاوزة للسببية، فترك بذلك فراغًا ملأه النظام السياسي المحيط، فعدنا إلى الحكم المطلق، ولكن ليس في صورة حاكم شخص، وإنما في صورة مؤسساتية وهذا ما يثبته واقع الحال اليوم.

إن القيادة لا تتحقق إلا باجتماع الناس، واجتماع الناس لا يتحقق إلا بالثقة، والثقة لا تقوم إلا بالأخلاق، ليتأكد أولوية الأخلاق على القيادة حتى في إطار العملية الإصلاحية..

 

استرداد الإنسان

يتضح بما لا يدع مجالاً للشك في اليقين، بأن مطالب المساواة، الحرية، الحق.. لا تتجسد إلا بتعلق الإنسان بالقيم المتجاوزة. وبالجملة، لا تحل إشكالية “الإرادة والانقياد” إلا بتحكيم الفرد -بما أن الإشكالية أصلاً إشكالية فردية- للقيم المتجاوزة، والتي تضيف على العلم الصوري تأييدًا من التاريخ وما وراء التاريخ، الذي يفضي إلى فتح من الله على سبل الهداية، والذي يمكن ترجمته بلغة إسلامية بـ”ما الحكم إلا لله”.
وعليه، يتبين بأن المشكلة اليوم ليست مقتصرة على مجرد أعطاب في النظم السياسية، بل المشكلة في إبعاد القيم المتجاوزة عن حياة الإنسان، التي لا تُبعد الإنسان عن المشاركة في التدبير القيادي فحسب، بل إنها تكون مدعاة لاستلاب ذاته، مما يخلف وراءه فراغًا تحاول ملأه النظم السياسية المحيطة، وبالتالي فَقْدُ إمكانية القيام بالنهضة الحضارية، لأن رصيد الحضارة الأول هو الإنسان. وربما يكفي هنا أن نقول بأن أيّ حضارة فقدت الإنسان لجأت إلى الطغيان.
وقد سبق وقررنا بأن العلم النافع لا يحصل ببعض المجاهدة العقلية الفردية المجردة، بل تقوم على “الفتح الإلهي”، وقد تقرر عندنا بأنه لا يناله إلا صادق، فيكون بذلك التأخلق هو الشرط الأساسي للفتح العلمي، فإن تحصل الفتح العلمي بهذه الصيغة، تحصل معه العمل النافع لزومًا، لأن العمل لا ينفك عن العلم في الفتح الإلهي، وبهذا يتحقق استرداد الإنسان.
وإن قيل بأن حركة الإصلاح هنا تستلزم قيادة، أي بمعنى أشمل تستلزم عملاً منظمًا، قلنا: لَإنْ كان هذا لازمًا فعلاً، فإنه لا يحتمل مرتبة الجوهرية أو المركزية، وإنما العمل المنظم أو المؤسس هو مجرد وسيلة للمساعدة. فقد رأينا -فيما سلف- أن المجدد للدين لا يَظهر حتى يطلبه الناس بصدق، ويدعو فيهم بصدق، ويصدقوه في تلقيهم، ثم أمام هذه العلاقة التخاطبية، نجد شمولية الحركة العلمية للدعوى، وكذلك الأمر مع الحركة الإصلاحية، واستنادًا على كل هذا، يتبين بلا مركزية ولا جوهرية القيادة.

الحضارة والثقافة

لو أننا نظرنا إلى المشكلة الجوهرية التي وضعناها مؤخرًا على المستوى التاريخاني، لتفرعت لنا مشكلة ثانية أولى من مشكلة القيادة، بل إن مشكلة القيادة متضمنة فيها (أي فرع منها وليس العكس) ألا وهي مشكلة الثقافة والحضارة في نفس الوقت، استنادًا على كون أن العلم والعمل عندنا واحد، والثقافة موضع العلم، والحضارة موضع العمل على مستوى التاريخ، لأننا سبق وقلنا بأن رصيد الحضارة الأول هو الإنسان، وبالتأكيد نقصد “الإنسان المتأخلق”، لأنه وحده كامل الإنسانية، وبالتالي وحده الذي يحمل القابلية للتحضر.
فمن المعلوم أن الحضارة لا تقوم إلا باجتماع الناس، والناس لا تجتمع إلا على الثقة، ولا تقوم الثقة إلا بتأخلق الناس، لأن الأخلاق هي الضامن الوحيد لعدم خيانة هذه الثقة، ثم تأتي القوانين لتحمي هذا المكتسب الأخلاقي والحضاري، ومن هنا تتشكل سلطة القيادة بما فيها سلطة الحكم.
فإن قيل بأن القوانين يمكن أن تنشئ أخلاقًا، قلنا بأن القوانين بحد ذاتها تحتاج إلى حماية، فمن المعلوم أن لكل قانون إمكانية لكسره مهما تطور وتعقد، وهكذا لا ينتهي السجال بين القانون وكسر القانون، ولا يبقى إلا الأخلاق لضمان التزام الناس بها. ثم إن القانون في حقيقته هو إلزام يضمن عدم اختراق قيمة معينة. وعلى هذا يتأكد أسبقية الخُلُق على القانون إن لم نقل بجوهرية الخلق في القانون، هذا بغض النظر عن الثقافة التي لا ينكر طابعها الجمعي من جهة، والفردي من جهة أخرى إلا قاصر نظر.
وعليه، فإن القيادة لا تتحقق إلا باجتماع الناس، واجتماع الناس لا يتحقق إلا بالثقة، والثقة لا تقوم إلا بالأخلاق، ليتأكد أولوية الأخلاق على القيادة حتى في إطار العملية الإصلاحية.. فبسواد القيمة الأخلاقية فقط تتحقق لنا قوتنا السياسية المنشودة التي لا نجدها اليوم، بل نجد بدلاً منها صراعات دموية، ومشاهد سوداوية نراها في البلاد الإسلامية اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهي من مخلفات الصراع الأيديولوجي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) باحث في الفكر والفلسفة / الجزائر.