يتعرض بعضنا بين الحين والآخر لمواقف خطرة قد تهدد بدنه أو حياته، فتتسارع ضربات قلبه فوق المعدل المعتاد، وتزداد حدقة عينيه اتساعًا، ويشعر بضيق في التنفس نتيجة زيادة استهلاك الجسم للأكسجين، كما ترتفع حرارة الجسم ويزداد البدن تعرّقًا، مما يؤدي إلى نقص السوائل في الجسم، فيشعر الإنسان بجفافٍ في الفم والحلق، كما يصاحب ذلك كله تغيُّر في لون البشرة إلى اللون الأصفر ثم الأبيض الباهت، لنقص التروية الدمويّة للبشرة.

ما سبق ذكره كان أعراضًا لشعور واحد يسمى “الخوف”، وقد شاع بين الناس أنه على الإنسان أن يتجلد في مثل هذه المواقف، خاصة إذا كان في مواجهة حيوان مفترس أو أفاعي وحشرات سامة كالعقارب، أو غير سامة كالنحل، لما تملكه من قدرات على شم رائحة الخوف الذي يعتري الإنسان في هذه الحالة، ومن ثم تقرر مهاجمته من عدمها.

الخوف الموضوعي المحمود، هو الذي يحرك الإنسان نحو البحث عن الكمال والتكامل لتحقيق غايته النبيلة، كالخوف من الله تعالى الذي يدفعه إلى التسامي، وخوف البشر من الهلاك يدفعهم إلى تحقيق ثقافة السِّلم والتعايش.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا، هل للخوف رائحة؟ وإذا كان له رائحة فكيف تتكون؟ ومن يملك القدرة على الإحساس بها؟ وإذا كان الإنسان يصاب بكل هذه الأعراض جراء شعور الخوف، فلماذا خلق الله الخوف أصلاً؟

كل هذه الأسئلة سوف نجيب عنها بعد أن نتعرف على مدلول الخوف عند اللغويين وعلماء النفس وعلماء التزكية، ونتبين بعض أنواعه.

الخوف في اللغة

الخوف في اللغة، هو انفعالٌ في النفس يَحدُثُ لتوقُّع ما يرد من المكروه أو يفوت من المحبوب، وله مرادفات كثيرة من أشهرها التوجس، الخشية، الذعر، الرهبة، الروع، الرعب، الفرَق، الفزع، الهلع، الوجَل، الاتقاء، الاحتراس، والجبن.

وهذه المرادفات وإن كان بينها قاسم مشترك من جهة المعنى، بيد أنها تحمل بعض الفروق الدلالية التي يقتضيها هذا السياق أو ذاك، كما يدلك كثرتها وتنوعها على عناية العربية بهذا الشعور. وعند التأمل في أشهر معاني أضداد هذا اللفظ يمكنك أن تحكم الحكم نفسه، فمن أشهر أضداده الأمن، الأمان، الاطمئنان، الطمأنينة، الراحة، الرضى، السكينة، السلام، الهدوء، والشجاعة، كما يمكنك أن تلمح مدى حاجة الشعوب إلى إقرار هذه المعاني في العالم كله في وقتنا الحاضر.

الخوف عند علماء النفس

أما علماء النفس فقد عرفوا الخوف بأنه شعور يصيب عقل الإنسان المترقب لحدوث أمر سلبي له من خطر معين، وقد يكون هذا الشعور حقيقيًّا أو مجرد خيال ووهم لا وجود له.

ويرجع سبب الخوف إلى عدة أسباب، صنفها علماء النفس إلى قسمين:

1- اضطرابات هرمونية داخلية يسببها وجود خطر محدق بالفعل بالشخص الخائف.

2- نواتج محض نفسية وسلوكية يُعاني منها الأفراد الذين يترقبون حدوث شيء ما لهم بالمجمل.

وبناء على هذا التصنيف قاموا بتقسيم الخوف ذاته إلى قسمين:

أ- خوف موضوعي منطقي: وذلك يكون عند وجود سبب أو خطر حقيقي يرعب الإنسان ويدعوه للشعور بالخوف، كخوف السقوط من مكان شاهق، أو التعرض للأذى أو الموت من قبل شخص أو حيوان مفترس.

بـ- خوف غير مبرر أو غير منطقي: ويسمى أيضًا الرهاب أو الفوبيا. وهذا النوع في أغلب حالاته مرضي مزمن، لأنه خوف متواصل من مواقف أو نشاطات معينة عند حدوثها أو مجرد التفكير فيها أو أجسام معينة أو أشخاص عند رؤيتها أو التفكير فيها. ويكون المريض غالبًا مدركًا تمامًا بأن الخوف الذي يصيبه غير منطقي ،ولكنه لا يستطيع التخلص منه بدون الخضوع للعلاج النفسي لدى طبيب متخصص.

الخوف عند علماء التزكية

أما علماء التزكية فيذكرون نوعًا آخر من الخوف وهو “الخوف من اللّه تعالى”، ويعرفونه بأنه “تألم النفس خشية من عقاب الله من جراء عصيانه ومخالفته”، ويعتبرونه من خصائص الأولياء، وسمات المتقين، والباعث المحفّز على الاستقامة والصلاح، والوازع القوي عن الشرور والآثام.. لذلك أوْلَته الشريعة عناية فائقة، وأثنت على ذويه ثناء عاطرًا مشرفًا، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)(فاطر:28)، وقال: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(النازعات:40-41).

والآن نعود إلى إجابة الأسئلة التي طرحناها في بداية المقال:

هل للخوف رائحة؟ وإذا كان له رائحة فكيف تتكون؟

ربما يكون من غير المنطقي أن نتساءل هذا السؤال أصلاً، لأن الخوف شعور معنوي يشعر به الإنسان عند مواجهة الأخطار، والمشاعر ليست لها روائح في حد ذاتها، لكن قد يبدو معقولاً إذا قلنا إن شعور الخوف يصاحبه عدد من الاستجابات المشمومة والمرئية والمسموعة، التي يدركها الحيوان المهاجم بالممارسة، فيقرر على أثرها مهاجمة الإنسان أو الحيوان الآخر الخائف، فإذا كان الحيوان لا يستطيع أن يشم الخوف ذاته فيمكنه أن يشم المادة التي تفوح رائحتها من الشخص أو الحيوان الخائف.

الحكمة من خلق هذا الشعور لدى الإنسان أو غيره من الكائنات، فهو خدمة غريزة البقاء والقدرة على تجنب الأخطار حفاظًا على الحياة، فمن خلاله يستطيع الإنسان أن يهرب أو يختبئ أو يواجه هذا الخطر حماية لنفسه

أما كيف تتكون هذه الرائحة؟ فقد تحدثنا عن أعراض تصاحب الشخص الخائف تحدث عن طريق الجهاز العصبي الذاتي، تتضمن عددًا من التغيرات الفسيولوجية بما في ذلك زيادة نشاط الغدة التي تفرز العرق، وكذلك هرمون الأدرينالين الذي تفرزه الغدة الكظرية التي تقع أعلى الكلية، استجابة لأي نوع من أنواع الانفعال كالخوف والقلق، وله رائحة مميزة لأنه يصاحبها إفراز أحماض دهنية تظهر في إفرازات عرقية خاصة تسمى بـ”عَرَق الخوف”.. وهذا ما أكدت عليه الباحثة “جالا مدحت أبو زيد” الباحثة بمعهد البحوث الطبية بجامعة الإسكندرية، ويرجح أن هذه الروائح يمكن للحيوانات تعقبها بحاسة شم قوية، سواء أتم إفراز الرائحة كآلية للدفاع أو كاستجابة للتوتر، لذا فالحيوانات لا تشتم الخوف فعليًّا، وإنما تلاحظ تغيرًا عامًّا في السلوك.

أما من يملك القدرة على الإحساس بها فمن الواضح أن هذه الاستجابات المشمومة تحتاج إلى حاسة شم قوية، لذلك تأتي الكلاب من الحيوانات، والنحل من الحشرات، في مقدمة من يميز هذه الروائح، لما يملكه كل منهما من حاسة شم قوية خصه الخالق العظيم بها.. فالكلب يفوق الإنسان في حاسة الشم حوالي أربعين مرة، والنحل يستطيع التفرقة بين مئات الروائح المختلفة، وأيضًا معرفة ما إذا كانت الزهرة تحمل لقاحًا أو رحيقًا من خلال شم رائحتها على بعد أمتار، ثم تأتي بعدها بقية الحيوانات المفترسة، والزواحف السامة في الترتيب.

أما الحكمة من خلق هذا الشعور لدى الإنسان أو غيره من الكائنات، فهو خدمة غريزة البقاء والقدرة على تجنب الأخطار حفاظًا على الحياة، فمن خلاله يستطيع الإنسان أن يهرب أو يختبئ أو يواجه هذا الخطر حماية لنفسه، فسبحان من جعل لكل شيء حكمته.

والخوف الموضوعي المنطقي المحمود، هو الذي يحرك الإنسان نحو التجويد والبحث عن الكمال والتكامل؛ لتحقيق غايته النبيلة، كالخوف من الله تعالى الذي يدفع الإنسان إلى التسامي في الطاعات والبعد عن المنهيات، وخوف البشر من الهلاك يدفعهم إلى تحقيق ثقافة السِّلم والتعايش والتضافر لدفع الشرور والمهلكات التي يمكن أن تدمر الحياة على هذا الكوكب بأكمله.

(*) كاتب وباحث مصري.