نحو جيل قرآني جديد، مجتمع عباد الرحمن

إن الخاصية الأساسية لـ”مجتمع عباد الرحمن” أنه مجتمع “رباني”؛ بمعنى أنه يستمدّ مقومات وجوده وخصائصه من “العقيدة الإسلامية” وثوابت “الشريعة”، وأن البشر فيه يتلقون هذه العقيدة وهذه الشريعة تلقيًا كما في الكتاب والسنة، وينحصر عملهم في هذا التلقي والنمو في هذه الحدود. فهو مجتمع من نتاج العقيدة والشريعة محدّد المقومات والخصائص، ولا دخل للبشر في وضع تصوراته وقيمه ونظامه الاجتماعي، وأنه أُخرج إخراجًا وفق نموذج إنساني معيّن يحققه القرآن الكريم. وليس معنى هذا أنه يقيِّد من حركة أفراده في تلبية ضروراتهم وحاجاتهم، بل إنه يدعوهم إلى تحقيقها وتلبيتها ويدفعهم إليها دفعًا. فهو مجتمع “مدني” بمؤسساته ونشاطاته وإبداعه وخدماته وتنظيماته الإدارية وغير ذلك… ولكن بمرجعية “دينية” تضبط حركته السلوكية ضمن ثوابت الشريعة الإسلامية، فتبقى هذه الحركة الاجتماعية الناهضة فيه تدور حول هذه الثوابت الأساسية، وضمن إطار مرن يتسع للمتغيرات العصرية والاجتهاد الدؤوب المستمر بغية الوصول بالمجتمع إلى “المعاصرة” مع احتفاظه بثوابته وأصالته، وهذان العاملان (الأصالة والمعاصرة) أساسيان في نهضته وتقدمه وحضارته، ويساعد على ذلك أن الأعمال المدنية والدنيوية تعد في المجتمع الإسلامي عبادة لله -سبحانه وتعالى-، ووسيلة تقرب إلى الله -عز وجل-؛ لأن مهمة الإنسان في هذا المجتمع، تسخير نحن بحاجة اليوم إلى تقويم حياتنا الإسلامية بغية التصويب والتسديد للوصول إلى “الصواب” في مسار الأفراد، وفي اتجاه المجتمع والأمة. والخطوة التي علينا أن نبتدئ منها هي العودة إلى النبع الصافي والنور الفياض وأعني بهما “الكتاب والسنة”.

الكون وتعمير الحياة وتحقيق الاستخلاف المنوط به، وبذلك يكون سعيه في هذا الاتجاه عبادة لله سبحانه. إن هذا المجتمع دقيق في بنائه، متكامل بخصائصه وأركانه، وكل صفة فيه وكل جزئية من الجزئيات متناسقة ومترابطة بعضها ببعض، حتى تكون في مجموعها مجتمعًا إسلاميًّا متميزًا بسماته ومقوماته وطبيعته واتجاهه، يتم فيه ربط العقيدة بالعمل، والعبادة بالسلوك، والآخرة بالدنيا، في تفاعل اجتماعي متجه إلى الله -سبحانه وتعالى- بكل نشاطاته وأعماله وعواطفه وغاياته. ونقطة البدء في ذلك “توحيد العقيدة” لله وحده: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ)(الفرقان:68)، وهذه هي القاعدة الأساسية في بنائه وتكوينه، نلمس آثارها في بقية المكونات له، وفي نظامه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي.

إنه مجتمع متكامل لا تُفصل فيه العقيدة والعبادة عن السلوك الاجتماعي، كما لا يمكن فيه فصل الدين عن أنشطة الحياة المختلفة، وقد تبين ذلك -فيما تقدم- في وصف أفراده وتحديد مقوماته ومعالمه. فالتوجه في المجتمع الإسلامي، إلى الله وحده لا إلى الأرباب والأوثان بمختلف ألوانها وأشكالها وصورها: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ)؛ فهذه العقيدة النقية الخالية من شوائب الوثنية والشرك، والمتجهة إلى إله واحد لا شريك له، له الحكم وله الأمر من قبلُ ومن بعدُ، يتساوى فيها البشر في التوجه والاتجاه؛ في توجه القلوب والمشاعر والعواطف لله وحده، وفي اتجاه الإنتاج والأعمال إليه أيضًا، وبذلك يتحرر الإنسان من العبودية لغير الله فلا يحس بمشاعر الذل والمهانة أمام الآخرين، بل يشعر بإنسانيته ومساواته وحريته وكرامته فلا يساوم على حريته، ولا يتخلى عن كرامته مهما اشتدت عليه وطأة الظروف والأوضاع.

إن أثر “توحيد العقيدة لله” نراه في “توحيد الاتجاه” أيضًا في المجتمع الإسلامي، فالكل فيه “عباد لله” يخضعون له وينقادون، ويتجهون إليه ويستمدون منه منهج حياتهم… وحين يكونون كذلك يستحقون رحمته ورأفته، وإضافتهم إلى رحمته “وعباد الرحمن”، وهذا مفرق الطريق بين المجتمع الإسلامي والمجتمعات الأخرى. ففي المجتمع الإسلامي المنهجُ “إلهيٌّ”، وفي المجتمعات الأخرى المنهجُ “وضعيٌّ” من صنع البشر ومن اختراع البشر وفق الأهواء والأمزجة، والمحاباة للذين يضعونه لتحقيق مصالحهم أو مآرب مَن يلوذون بهم أو يتقربون إليهم، فيشقى الناس من هذه الأهواء المتقلّبة في المنهج الوضعي المتغير باستمرار، لكثرة المنافسة والصراع على تبديلها وتغييرها لتحقيق مصالح وأطماع جديدة لمخترعيها والذين يستفيدون من هذا التبديل والتغيير.

أما المنهج الإلهي فهو يرجع إلى الله -سبحانه وتعالى- الذي خلق الإنسان والحياة، وهو أعلم بما يفيده ويسعده ويصلحه ويصلح أسرته ومجتمعه وحياته. وقد تثار شبهة في الذهن بأن المنهج الإلهي ثابت والحياة متغيرة متجددة، ولا يمكن لهذا “المنهج الثابت” أن يتحكم بأوضاع الناس المتغيرة وحاجاتهم المتجددة. وتزول هذه الشبهة من الأذهان حين نعلم أن المنهج الإلهي يقرر “المبادئ الكلية الأساسية” التي تبنى عليها أصول الحياة، مثل العدل والشورى والمساواة والإخاء والعمل والتعاون والسلام والاستقامة… وترك لنا حرية اختيار الوسائل والأدوات لتحقيق هذه المبادئ الكلية وفق نمو المجتمع، وتطور وسائله وأدواته في تأمين ضروراته وحاجاته وكمالياته. لكن العبث في ثوابته الكلية الموضوعة أساسًا لحماية الحياة من الخلل والعيوب، ولتحقيق مصلحة الأحياء جميعًا بلا محاباة أو استغلال، يعدّ تدميرًا للحياة والأحياء معًا، وشقاء للإنسان وتدميرًا لخصائصه الإنسانية أيضًا.

إن “الشورى” -مثلاً- مبدأ ثابت من المبادئ الكلية التي لا تستقيم الحياة بدونه وقد قرره القرآن الكريم في إطاره العام، أما وسائل تطبيقاته وأدواته الضرورية لتحقيقه، فقد تُركت لنمو المجتمع ونضجه وتطور وسائله في تحقيق مبادئه الكلية الثابتة. من هنا نلاحظ هذا الوصف العام لـ”عباد الرحمن” من غير تفصيل في رسم معالم المجتمع الإسلامي بأهدافه وخصائصه العامة، ليمنحه مرونة الحركة والإبداع، ويبعده عن التحجر والجمود.

وتبرز آثار “عقيدة التوحيد” في نظامه الاجتماعي، في حركة الرفق والتواضع والسلام والسماحة بين أفراده، والاتجاه فيه نحو البناء والتعمير النافع المفيد من الأفكار والأعمال، والبعد عن هدر الأوقات والطاقات البشرية في لغو المجالس والأحاديث المعروفة والسائدة في المجتمعات المتخلّفة، والبعد عن الفساد الخلُقي والعلاقات غير الشرعية، وفي نظامه الاقتصادي الذي يقوم على “التوازن” في الإنفاق والمصروفات على مستوى الأفراد والدولة: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)(الفرقان:67)؛ إنه نظام وسطي متوازن، ينفق في اتجاه الخير وتحقيق أهدافه المرسومة عن وعي وتخطيط وتوفير للطاقات والموارد أن تضيع سدى بلا فائدة. فهو لا يشبه النظام الرأسمالي في إسرافه ورعونة استهلاكه وهدر طاقاته، وتدمير خصائص الإنسان وتعاسته وشقائه واضطرابه وحيرته… ولا يشبه النظام الشيوعي أيضًا في بخله وشحه وتجميده للطاقات والموارد فلا يستفاد منها في الطريق الصحيح، وهذا ما عجّل في سقوطه وانهياره، كما سيعجّل في سقوط النظام المسرف ولو بعد حين… وفي نظامه العلمي والثقافي في إطلاق طاقات “العقل” ليعمل ويبدع، ومحاربةِ الانغلاق الذهني والاستنساخ الثقافي، من غير وعي وتمييز وتقويم.

إن السمة الغالبة في المجتمع الإسلامي هي سمة “التقوى” بمعناها الشامل للأعمال كلها والسلوك الإنساني كله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)(الفرقان:74)؛ التقوى في العقيدة والفكر، والتقوى في الشعور والسلوك، والتقوى في العمل والإنتاج، والتقوى في الأقوال والأفعال، والتقوى في تربية الأولاد والأحفاد، والتقوى في القيام والنهوض… لتحقيق أهداف الأمة في التقدم والتحرر، ونبذ الكسل والقعود والتخلف. ونموذج ذلك هو “المتّقي” في مجتمع عباد الرحمن، لأنه يقي المجتمع من شرور نفسه، ويقيه من نزواته وشهواته وأطماعه، ويتقي عذاب ربه بقيامه بطاعة الله واجتناب نواهيه، كما يتقيه بحب الناس وخدمتهم وتقديم المساعدة لهم، ويتقيه بالعلم والعمل والإنتاج والسعي للنهوض بوطنه وأمته. وهذا ما دعى إليه الرسول -صلى الله عليه وسلّم- بقوله: “اتقوا النار ولو بشق تمرة” (رواه البخاري)؛ فهذا توجيه نبوي نحو التكافل الاجتماعي المنبثق من مفهوم “التقوى” في صورتها الإيجابية البنّاءة، لا في صورتها السلبية التي عليها بعض المسلمين اليوم. إن وجود هذا النموذج المتقي لله -سبحانه وتعالى-، هو وليد مجاهدة طويلة للنفس البشرية، ومراقبة دائمة لله -عز وجل- في الأقوال والأفعال، والظاهر والباطن، والسر والعلانية. فتبقى النفس بين خوف ورجاء، تخشى عذاب ربها وترغب في جنته بتوازن واعتدال، فلا يطغى الخوف على الرجاء، ولا الرجاء على الخوف، ليبقى “التوازن” هو السمة البارزة في سلوك الأفراد، وفي اتجاه المجتمع الإسلامي وطابعه العام المميِّز له عن بقية المجتمعات الأخرى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا)(الفرقان:65).

إن تربية النفس على “التقوى لله” ينمّي ضمير الإنسان ويقويه ويغذيه، ليقوم بدوره في تنبيه الإنسان وتوجيهه نحو الخير والصلاح والإصلاح والبناء. وهذا ما جعل الفتاة المسلمة في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ترفض أن تَغُشّ الحليب بالماء في بيتها وفي جنح الظلام الساتر، خوفًا من الله وليس خوفًا من رقابة عمر وعقوبته. وهذا ما دفع أيضًا خليفة المسلمين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يقول: “لو أن شاة بأرض العراق عَثَرت لخشيتُ أن يحاسبني الله عليها لِمَ لَمْ أُمهِّد لها الطريق”. فالتقوى أيقظت حس عمر -رضي الله عنه- وشعوره وضميره، فجعلته يشعر بمسؤوليته تجاه الإنسان والحيوان والبيئة في مشروع نهضوي كرّس حياته من أجله، أساسُه “العدل” وتقديم “الخدمات” للناس وتوفير “البنى التحتية للدولة”، مثل تمهيد الطرقات وتعبيدها، إنشاء الدواوين، وبناء بقية مؤسسات المجتمع المدني، لتقوم بدورها الفعال في نهضة الأمة وتقدمها. إنه نموذج “المتّقي” في المجتمع الإسلامي الذي يقوم على فكرة التوازن بين أشواق الروح وحاجات الحياة وضروراتها، أيْ التوازن بين الدين والدنيا فلا تميل كفة على حساب الكفة الأخرى. وهذا التوازن هو غاية “استخلاف” الإنسان في الأرض من قِبَل الله لتعميرها واستخراج كنوزها وخيراتها، واعتبار سعيه فيها عبادة لله وقربة منه سبحانه. فلا فصل في حس المسلم وشعوره بين الدين والدنيا أو عمل دنيوي وعمل أخروي، لأن الدنيا هي مادة “العبادة”، ولولاها ما كانت الآخرة والجزاء والمثوبة.

هذه هي صورة التقوى في المجتمع الإسلامي كما يقدمها القرآن الكريم؛ إيمانٌ وعمل، وخوفٌ ورجاء، وعقيدةٌ وسلوك، ودينٌ ودنيا بتوازن واعتدال، كما نصت الآية الكريمة على ذلك: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(البقرة:201).

طريق الخلاص

عندما نتحدث عن مجتمع “عباد الرحمن” فنحن لا نتحدث عن مجتمع قديم بائد ظهر في حقبة تاريخية وأدى دوره التاريخي والحضاري كأي مجتمع تاريخي ثم ولّى وزال من الوجود، وإنما نتحدث عن مبادئه الإنسانية الحية، ونظامه الواقعي المتوازن الذي نحس اليوم بحاجتنا إليه لحل مشكلاتنا المستعصية، وتوحيد صفوفنا في ظله من جديد بعد عصور الضياع والشتات. إن المسلمين اليوم، يعانون من التمزق والاستعمار والضياع، كما يعانون من خيبة الأمل والإحباط من مشاريع النهضة التي أخفقت في تحقيق آمال الأمة وطموحاتها في ردم الهوة السحيقة بين الأمة العربية والإسلامية وبين الأمم المتقدمة الأخرى. وتغير أهداف المشاريع المطروحة وتراجعها بين الأمس واليوم من مشاريع للنهضة والتقدم إلى هدف آخر، يسعى إلى تقديم مشروع حقيقي لمقاومة الاحتلال، والتحرر من الاستعمار الحديث بكل أشكاله وألوانه وآثاره.

وقد جرّبت هذه الأمة في تاريخها الحديث تجارب عدة استوحتها من هنا ومن هناك، وطبّقت نظمًا مستعارة من الشرق والغرب، فازدادت بها شقاء وتمزّقًا وجهلاً وتخلّفًا، لأنها حاولت “استنبات تلك البذور” الغريبة عن أرضها وتاريخها وحضارتها، ففشلت عند التطبيق على الرغم من الحراثة العنيفة وحماسة زراعها، لأن تربتنا النقية الأصلية رفضت قبولها وحضانتها لغرابتها عن هوية الأمة العربية والإسلامية وخصوصيتها الحضارية. ولم يبق أمام المسلمين إلا العودة إلى النموذج الإسلامي في صياغة
الإنسان وبناء المجتمع على ضوء صفات “عباد الرحمن” ومقومات “المجتمع الإسلامي” الأساسية في الجمع بين العقيدة والسلوك، والعبادة والعمل، والقلب والعقل، والجدية والاتزان، والعدل والسلام، والأمن والنظام، والصبر على المكاره ومشقات العمل، ونبذ اللغو والعبثية والفساد، وهدر الجهود والطاقات البشرية في جرائم القتل والفواحش، وضياع الحقوق والتكبر وإيذاء الناس. إنها مبادئ إنسانية ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، يحتاجها الناس في كل العصور لبناء حياتهم بناءً صحيحًا خاليًا من الأطماع والمصالح، وسليمًا من الهزات والكوارث والاستغلال. ولأمر يريده الله سبحانه، أن تَشْرد الأمة عن منهج ربها وتلوذ بالمناهج الوضعية فتذوق مرارتها ويلسعها لهيبها الكاوي المؤلم، فيكون رجوعها إليه عن تهيؤ وتفكير واستعداد وظمأ وشوق. ولا شك أبدًا أن الأمة الإسلامية صائرة إلى الإسلام، وعائدة إليه بعد أن أوصدت اليوم في وجهها الأبواب، وازدادت الضربات الاستعمارية عليها، فلم يبق لها إلا الإسلام تحتمي بحماه وتلوذ به، لتستعيد حريتها وكرامتها واستقلالها ودورها الحضاري التاريخي. وهذا يلقي بالمسؤولية الضخمة على كواهل العلماء والدعاة في هذه الحقبة التاريخية المصيرية، لأنهم الورثة الحقيقيون للأنبياء؛ ورثوا العلم والدعوة والرسالة والصبر على مشاق الطريق وأشواكه، فهم يحملون لهذه الأمة العطشى المتعبة الزاد بيد، والعلاج باليد الأخرى…

إنها مسؤولية ضخمة ملقاة عليهم، تقتضي أن يكونوا هم أولاً نماذج حية لعباد الرحمن (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا)(الفرقان:63)… وأن يتمثلوا صفاتهم -التي تقدم ذكرها- واقعًا لا خيالاً؛ فالناس بفطرتهم السليمة يتأثرون بالواقع الحي أكثر من تأثرهم بالنظريات المثالية المجردة… وأن تكون حياتهم تأويلاً عمليًّا لما يدعون إليه في صفاء عقيدتهم ونقائها واستقامة سلوكهم وطهارته، وفي خوفهم وخشيتهم من الله، وفي غايتهم الفوز بالجنة والنجاة من النار، وفي جمعهم بين العقيدة والسلوك، وفي التوازن بين الدين والدنيا في خطابهم واعتمادهم العقلانية في خطاب الناس والبعد عن الخرافات والحكايات المضرة بالعقول والعلاقات الإنسانية، والحرص على النهوض بالوطن والأمة، وبث روح ثقافة المقاومة للاحتلال والحض على العمل وبعث الأمل فيها، ومحاربة الجهل وتيارات الخيانة والإرجاف والإحباط والتيئيس فيها وغير ذلك.

وتعظم مشكلتنا وتتفاقم حين يغيب هذا النموذج المطلوب والمثالُ والقدوةُ عن حياتنا الإسلامية -إلا نادرًا- فلا نرى إلا صورًا مشوهة عن الإسلام استمدت ثقافتها وعلمها ونمط حياتها من عصور الضعف والتخلف، فلم تعد إلى النبع الصافي الخالد “القرآن الكريم” الذي يهدي للتي هي أقوم، تستمد منه عقيدتها وفكرها وسلوكها وأنماط حياتها ونماذج قدوتها، فعاشت في حيرة واضطراب وتشويه وتناقض. ووقعت الطامة الكبرى حين اعتمدت في خطابها للناس على هذه الثقافة الهشة المبنية على الاستنساخ من غير وعي وتصويب واختيار للمناسب والملائم. وأغلب المدارس والجامعات الإسلامية، تقدم الإسلام لا بروحه الإيجابية الحضارية، وإنما بروح سلبية وأدوات معرفية متخلفة. لذلك غابت الصورة الحقيقية للمجتمع الإسلامي بمقوماته الأصلية، وأهدافه السامية النبيلة، فلم نعد نجني منه الثمار اليانعة الجديدة كتلك التي أينعت في دمشق وبغداد والقاهرة والأندلس، والتي قطفنا منها علمًا وحضارة وعزًّا ومكانة وسيادة في تلك الأيام الماضية.

نحن بحاجة اليوم إلى تقويم حياتنا الإسلامية بغية التصويب والتسديد للوصول إلى “الصواب” في مسار الأفراد، وفي اتجاه المجتمع والأمة. والخطوة التي علينا أن نبتدئ منها هي العودة إلى النبع الصافي والنور الفياض وأعني بهما “الكتاب والسنة”، فهما الملاذ والأمان وحبل النجاة من الآراء الدخيلة، والأهواء الممزقة للصف المرصوص والخرافات المذلة للعقول والنفوس. إن طريق الخلاص من هذا التيه وسنوات الضياع والتشتت، لا يكون إلا بإحياء نموذج “عباد الرحمن”، والتحلي بصفاته السامية الحضارية على كافة أصعدة الحياة حتى تصحو الأمة من غفوتها التي طالت كثيرًا، وتنهض من كبوتها لتستأنف مسيرتها الحضارية وتجربتها الإنسانية الرائدة.

(*) جامعة حلب، كلية الآداب والشريعة / سوريا.