إن الأمة الإسلامية تملك رصيداً هائلاً من التجربة التاريخية والحضارية، وتملك كذلك خصائص ومميزات تتمثل في صفات العدل والكرامة والإنسانية التي لا تزال مفقودة في الأمم الأخرى مهما ادعت الرقي والتقدم والتحضر؛ حيث لا تنجو من التمييز والتعصب والروح العدوانية تجاه الآخر، والشعور بالتعالي والتمدن الأحادي مما يؤدي إلى الصراع والنزاع، ويفقدها معنىً إنسانياً في حضارتها وعطاءً عالمياً في تمدنها، وامتداداً تاريخياً في تواصلها الحضاري والتاريخي. لكن تبقى مشكلة الأمة الإسلامية، في الانسحاب من الفعل الحضاري، والخروج من معركة التدافع الحضاري؛ حيث انحسرت مساحات فاعلية الأمة الإسلامية. والسببُ غياب المشروعات الحضارية الطامحة ومن ضمنها مشروع التغيير، وغياب الشهود الحضاري نتيجة غياب فقه السنن وفقه المقاصد. ومن ثم لم تتبلور معالم التغيير لانعدام القناعة النفسية بالتغيير، وغياب رؤية شاملة لإبصار الحاضر واستشراف المستقبل، والقدرة العلمية والعملية على رؤية البديل والمدافعة لصنع التغيير وإنجازه ليتحقق التمكين والنهوض الحضاري.

الانتظار والترقب

والمشكلة الأخرى التي تعاني منها الأمة، الانتظار والترقب حتى تلفظ الحضارة القائمة حالياً أنفاسها دون صنع أي شيء من الصلاح والتمكين، ودون معرفة علمية بأن للنهوض والشهود شروطاً ومستلزمات ومؤهلات وتقنيات، وذلك بالعلم بعلم السنن والاعتماد على مجموعة من المشروعات، ليتحقق مشروع التغيير وتشكيل البديل المطلوب من خلال الإيمان بخلود الرسالة الإسلامية وخاتميتها مهما حيك ضدها، والاعتراف الروحي والعلمي والعملي بأن قيام الأمة الإسلامية يستلزم العلم والعمل لإعادة تشكيلها من جديد، وبلورة معالمها الحضارية والإنسانية من خلال الإيمان بمعالجة الأخطاء الذاتية، والدفع بدورة الفاعلية والنهوض والانطلاق، والأخذ بعين الاعتبار السنن التداولية للحضارة، وذلك بتمثل الرؤية القرآنية الشاملة، وتحقيق مشاريع الاستخلاف والتسخير والعمران، لممارسة مشروع التغيير المأمول وتحقيق البديل المطلوب.

الخطاب الإسلامي والتغيير

إن الخطاب الإسلامي عن التغيير، لم يكن وليد ظروف غير طبيعية وأعمال غير اختيارية تفرض على الإنسان فرضا يشل قدرته على الحركة والفعل، بل كانت وليدة ظروف طبيعية يستطيع التحكم فيها وإخضاعها لإرادته، واختياره في حدود النظام التوحيدي الكامل والشامل الذي أتت به الرسالة الإسلامية. فهي تنطلق من موقع الإرادة والاختيار لا من موقع القهر والإجبار. لهذا كان الإنسان المسلم صانع التغيير، لأنه هو الذي يمثل للحياة حركتها العملية في نطاق البناء الحضاري والتاريخي. فقد جاءت الآيات الكريمة التي تتحدث عن الواقع الفاسد، فتربطه بالإرادة الإنسانية كما في قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(الروم:41).

لقد انطلقت الآلام الإنسانية من خلال الاختيارات العملية التي يجسدها الإنسان، في سلوكه العام والخاص على الصعيد الفردي أو الاجتماعي. فهو الذي صنع آلامه وتدهوره وتراجعه لأنه صانع لأسبابها الطبيعية في الحياة الحضارية والبيئية بإرادته واختياره.

تغيير الإنسان

فمنطلق مشروع التغيير إذن، ينبغي أن يبدأ بصياغة الإنسان انطلاقا من إرادته واختياره، انسجاماً مع قوله سبحانه: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الأنفال:53). فتغيير الواقع المعيش رهين بتغيير ما بالداخل والاستعداد الذاتي لهذا التغيير، وذلك من خلال تغيير تصورات الفرد وأفكاره ومشاعره، تجاه القضايا التي تواجهه، وتجاه الفعل الاجتماعي المحيط به.

وقد حاول الإسلام أن يضع للإنسان المسلم منهجاً تربوياً تغييرياً يرسم فيه للإنسان المنهج الذي يواجه به الكون بكل دقة وتأمل وبكل وعي ومعرفة، ليبلور على أساسه مسؤوليته الكاملة عن الحياة، وذلك ليلتقي التغيير الفكري والروحي والعلمي بالتغيير العملي، ويحقق الصياغة الإسلامية الجديدة للإنسان الذي بواسطته -فردا وجماعة- يمكن إعادة البناء وتحقيق التدافع الحضاري.

إن صياغة الفرد، صياغةٌ تقوم على أساس إبراز خصائصه الإنسانية العليا وتطهيره من الداخل، سواء من المفاسد أو من الهزائم النفسية المتواصلة، ومحاولةُ بعث كمال إنسانيته وانبعاثِ سمو فكره وروحه وشعوره وسلوكه؛ انطلاقاً من مبادئ سليمة وغايات نبيلة وأخلاق قويمة وروابط تحقق الوحدة والتكامل والتكافل والعدل وتمنع الفرقة والفساد والتدمير والصراع.

الإنسان محور الحضارة

وبهذا نستطيع أن نبني حضارة إنسانية تقوم على أساس المساندة والتوازن والسير إلى التمكين والنهوض فيتحقق المشروع التغييري المنشود. يقول عمر عبيد حسنة: “إن الإنسان في الحضارة الإسلامية، هذا المخلوق المكلف المتميز بالعقل الذي يمنحه القدرة على الاختيار، هو محور الحضارة ووسيلتها وهدفها ومعيارها في الوقت نفسه. وإنما تقاس الحضارات بمدى قدرتها على تحقيق إنسانية الإنسان، وتنمية مواهبه، وإطلاق ملكاته ورعاية قابلياته، وتحقيق وعيه بذاته وانسجامه مع الكون والحياة، والارتقاء به، ليحسن القيام بدوره في البناء الحضاري الذي يكرم الإنسان ويكرم به”.

ولما كان الإنسان وسيلة الفعل الحضاري وأداته، وكان محله وهدفه أيضاً، فإن الإنجاز الحضاري سوف يكون عرضة لمجازفات وتجاوب ومخاطر وعوارض وأهواء، وتعتبر من إصابات الإنسان نفسه بسبب علمه المحدود، ومعارفه النسبية، وميوله المتنوعة وغرائزه المتدافعة، إضافة إلى عجزه عن إدراك الحقائق الغيبية عن النشأة والمصير التي لا تزال تشكل له قلقاً… لذلك تشتد الحاجة به إلى الموجه لطاقاته والمرشد لمسالكه، من مصدر خارج عن نفسه يمتلك العلم المطلق الذي لا يحده زمان ولا يقيده مكان…

ونستطيع أن نقول: إن الحضارة الغربية، وإن استطاعت بأشيائها وقوتها أن تطفو حضارياً وتكسب بعض الجولات في الصراع الحضاري، إلا أن العبرة دائماً بالعواقب والمآلات وليس بالنتائج القريبة. فكثيراً ما حمل لنا التاريخ دلالات حضارية؛ على أن الأفكار والعقائد تبقى أقوى من الأشياء والسياسات، وأن قيم المغلوب عسكرياً كانت أقوى من عسكر الغالب، وأن الحضارة الإسلامية هضمت الكثير من الهجمات، والاجتياحات الاستعمارية، وانتهى الغالب إلى اعتناق حضارة المغلوب، وهذا ما لا نراه إلا في تاريخ الحضارة الإسلامية لأنها حضارة الفطرة، حضارة الإنسان.

رسالة الإنسان المثقف

لكن، ما هي وسائل مشروع التغيير؟ الإجابة عن هذا التساؤل تكمن أولاً -وقبل كل شيء- في بناء الإنسان صانع التغيير، ذلك لأن النهوض الحضاري والقيام بمشروع التغيير، رسالةُ الإنسان المثقف ذي الوعي الأصيل، الساعي إلى تحويل أصالته الداخلية ودفعته الإيمانية إلى قيم كلية وتصورات شاملة لبناء حضارة عالمية إنسانية كالتي تجسدت في مجتمع المدينة العالمي الذي أسسه الرسول الخاتم صلوات الله عليه وسلامه، وعكف على إعادة توليده عبر التاريخ الإسلامي. المثقف المسلم صانع الثقافة الإسلامية التاريخية التي حملت معها بذور الحضارة العالمية حيثما حلت وارتحلت عبر القرون الاثني عشر التي فصلت لحظة ولادة الحضارة الإسلامية وكبوتها الأخيرة في مطلع القرن الثالث عشر من الهجرة… “فالإنسان المثقف” في جوهره ناقد اجتماعي، إنه الشخص الذي همه أن يحدد ويحلل ويعمل من خلال ذلك، على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل، نظام أكثر إنسانية وأكثر عقلانية.

إن مهمة المثقف المسلم المساهمةُ الرئيسة في صياغة مشروع التغيير بإحداث ثقافة النهضة، وتأكيد القيم الأساسية والآليات الضرورية وتحرير الإنسان -فرداً وجماعة- من الهزيمة النفسية، وتركيزه على قدراته وإمكانياته في إعادة البناء والنهوض الحضاري المنشود، وإقامة مجتمع إنساني يقوم على العدل والإحسان ونبذ الاستكبار، بتحقيق العمران وتفعيل مشروع الاستخلاف، وتيسير وظيفة التسخير.

إنجاز البناء الحضاري المنشود

إننا فعلا في حاجة إلى مثقف يقوم بتوجيه مشروع التغيير توجيها بنّاءً بهدف إنجاز البناء الحضاري المنشود للبشرية كافة، وإخراج الأمة الإسلامية من الفوضى والتسيب والانهيار والتجزئة المقيتة والتشتيت المخطط لطاقاتها، والقهر السياسي والفقر والحرمان… فهذه المعوقات تقوم دائماً حائلا أمام أي مشروع تغييري وإصلاحي هادف، يقود أبناء الأمة من ميادين مختلفة ليبني بهم المستقبل المأمول وذلك:

أولاً: تحرير النفوس من الهزيمة، والدفع بها إلى التحرر والتوحد، والإنجاز الحضاري المعتمِد على الإرادة والاختيار والقوة النفسية الدافعة إلى الأمام.

ثانياً: تحديد الموقف المعرفي من الحضارة الإسلامية، وذلك بدراسة تراثنا الحضاري وإعادة قراءته في ضوء ما استحدث من مناهج، لنمتلك ماضينا وننطلق لبناء حاضرنا ونستشرف مستقبلنا.

ثالثاً: الإجابة على الأسئلة الآتية: هل الإسلام صالح لهذا الواقع المعقد والمتشابك؟ كيف نكيف الإسلام مع هذا الواقع؟ كيف نتجاوز واقعنا الموروث لنكون في مستوى التحديات المعاصرة وقيادة الإنسانية إلى شاطئ الأمان؟ لماذا تقدم الغربيون -حسب قول شكيب أرسلان- وتخلفنا نحن رغم أننا مسلمون؟..

الإجابة تتطلب من المثقف المسلم التركيز على ثلاث مستويات في التعامل مع مشروع التغيير… كيف نتعامل مع الوحي؟ كيف نتعامل مع الواقع؟ كيف نتعامل مع العقل؟

محركات السلوك البشري

فلفهم الوحي وتعاليمه ينبغي إعمال العقل بفطرته ومكتسباته؛ إذ لا يمكن فهم الوحي وتنزيله في الواقع دون إعمال العقل، كما ينبغي فهم الواقع واستيعابه وإدراك متطلباته. ففهم الواقع ليس مجرد ظن أو تخمين، وإنما هو فهم واضح وعميق مبني على معطيات دقيقة وواضحة. وعلى هذا الأساس ينبغي للمثقف المسلم:

أولا: أن يتمعّن في المنهج المعرفي في القرآن الكريم ليرى أن قيم الهدم والتخريب والعصيان، وقيم البناء والتعمير والاستجابة، ممتدة في التاريخ البشري؛ يعني أنها قيم لا تقف عند لحظة تاريخية ولت، وإنما تعاد عبر الأزمنة والأمكنة كلما تهيأت شروطها ومُهِّدت سبلها، لأنها قيم ثابتة وإن تغيرت الأشكال والأسماء والوسائل!..

هذا الفهم يجعلنا متحفزين لإدراك الخلفيات التي تُحرك السلوك البشري، ويمنحنا الوعي الكافي من أجل النفاذ إلى عمق القضايا وصلبها، فلا نقف من الجزئيات والتفريعات التي قد يكون ظاهرها فيه الخير، كما يوهمنا الداعون إليها والحاملون لواءها، وباطنها إنما ينطوي على الشر -إن لم نقل الشر كله- متى وقفنا للتأمل والتمحيص، فنتأكد تدبراً من أن الزبد يذهب:

﴿جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾(الرعد:17). نعم، يبدو أن هذا هو الإطار الكلي الذي يتحرك على هديه المثقفُ المسلمُ لإحداث التغيير.

ثانيا: أن يضع أرضية صلبة يحدد فيها الموقف المعرفي من ذاته والموقف المعرفي من الآخر، وهذا يتطلب منهجية علمية في قراءة الذات وإدراك أسباب التخلف والتردي والانتكاس وقراءة الآخر لمعرفة أسباب التقدم ووسائل البناء. فقراءة الذات ليست إحياءً آلياً لمخلفات الماضي أو استنساخاً بليداً لثقافة الأسلاف، ولا انبهاراً ساذجاً بالآخر (الغرب)، وقطيعة موهومة مع الذات، ولكنه آلية من آليات قراءة مقولات الفكر القديم وأطره المعرفية، لإحداث تحول وتطور في أصوله المعرفية ومبادئه العملية، وذلك بالدفعة الإيمانية القرآنية لبناء حضارة جديدة. ولن يتأتى لنا تحقيق ذلك إلا بفضل العودة إلى قراءة حضارتنا بعيون جديدة، ومواكبة التجربة التاريخية والحضارية التي يخوضها المجتمع الإسلامي منذ اصطدامه بالحضارة الغربية.

المواكبة الفعالة

فالمواكبة الفعالة تنتقل من التعبير عن التجربة الفريدة للأمة الإسلامية، إلى التنظير لها وتوجيهها نحو آفاق النهوض والشهود الحضاري، استناداً إلى ثوابت وأصول إسلامية. وهذه القراءة ستجعلنا نمتلك تراثنا وتجربتنا التاريخية والحضارية، ونبني حاضرنا ونستبصر مستقبلنا. وبهذه الآلية نستطيع النهوض، فلا نسقط في الدعاوى المتتالية إلى القطيعة الإبستمولوجية مع تراثنا الثقافي الأصيل والثابت، والدعاوى الساذجة إلى تبنّي النموذج الغربي، بل علينا أن نستخدم المقولات والمناهج السليمة النابعة من تراثنا التاريخي والإنساني والمعرفي، ثم امتلاك القدرة على التحليل والتنظير ثانيا، وإعادة تحريك فكرنا المعاصر وفقاً لما تمليه التجارب العلمية الحديثة، حتى نكون في مستوى التحدي الحضاري المطلوب.

إن هذه الأدوات من شأنها أن تحقق في آن واحد امتلاكنا العلمي للتراث ثم تجديد فكرنا المعاصر. ومن هنا نربط بين الماضي والحاضر لبناء المستقبل، بل نعطي للحضارة الإسلامية وتاريخها الدورَ الأول في عملية التغيير من أجل البناء وإعادة النهوض. وذلك بدرايتنا بعلم السنن وفقهنا بعلم المراحل الحضارية وأسباب بنائها ونشوئها وسقوطها، حتى نتمكن من استيعاب منطق التحدي الحضاري استيعاباً نقدياً من غير خـضـوع ولا استلاب، ومـن ثم نمتلك حاضرنا بامتلاك ماضينا، أو نمتلك ماضينا بامتلاك حاضرنا بمفهوم غير منفصم وغير مبتور، بل هو بناء مرحلي تدريجي يقتضي بناءُ الثاني الرجوعَ إلى الأول.

وهذا يقتضي تسامحاً فكرياً كبيراً وتفتحاً شاملاً، ورؤية الواقع واستحضار الغيب والتاريخ… وذلك في أفق وضع الملامح الأولى لمشروع التغيير لبناء حضارة إنسانية ننتسب إليها، نابعة من ذاتنا، ونستشعر تفاعلها معنا وغير مفروضة علينا من قبل الآخر.