لعل من الموضوعات العلمية التي تحمل في طياتها الطرافة والعجائب، ما يتعلق بلغة الطير والحيوان وما فيها من عجائب وأسرار. إن الأبحاث العلمية تؤكد أنه ليس من الضروري أن تكون هذه اللغة قائمة على التعبير بالكلمة كشأن لغة الإنسان، بل هي لغة تختلف في مفهومها العلمي اختلافًا واضحًا عن لغة الإنسان، كما أنها تعتمد على كثير من الوسائل المتباينة التي تختلف في طبيعتها من نوع إلى آخر؛ فقد تكون على شكل أصوات أو صيحات أو تغريدات، كما أنها قد لا تكون صوتية على الإطلاق، بل تستخدم فيها بعض الحواس كالشم واللمس والإبصار وغيرها، كما أنها تكون في بعض الأحيان إشارة ضوئية يطلقها بعضها لتستدل منها الأخرى على أماكن تواجدها.. وأيًّا كانت وسيلة التفاهم، فقد اعتبر العلماء والمختصون هذه، لغةً طالما أنها تستخدم في نقل المعلومات والمشاعر والاحتياجات.

كيف تتفاهم الحيوانات؟

من المعروف أن الإنسان يتعلم لغته على مراحل، أما الحيوانات فتفهم لغتها منذ البداية، وهي ليست بحاجة إلى تعلمها ولا التدرّب عليها، فالقدرة هنا فطرية، وهي تسمح بنقل خبر معين عن طريق علامة معينة إلى سائر أفراد النوع؛ فعلى سبيل المثال، من الممكن عزل النحل منذ نشأته، بحيث لا تتاح له أبدًا فرصة التعرف على رقصات نوعه، ولكن إذا تُرك بعدها للبحث عن الطعام وعثر عليه وعاد إلى خليته، أدى رقصته للمرة الأولى على شكلها الصحيح تمامًا ودون أي خبرة سالفة، فليس بحاجة إلى درس قواعد الرقص، ولا إلى من يلقِّنه إياها.

وبناءً على ذلك نخلص إلى أن التفاهم بين الحيوانات يتم على أساس فطري موروث يسمى “السلوك الغريزي”، وهو سلوك فطري لا حاجة إلى اكتسابه بالتعلم كما عند الإنسان، فالأفراخ تفهم أمهاتها، والنحل يفهم رقصات أقرانه دون حاجة إلى تدريب سابق. والآن لنعرج إلى لغة التفاهم في عالم الطير والحشرات والحيوان.

لغة الطير

يحتوي عالم الطيور على عدد كبير من الأنواع يستطيع أفراد كل منها أن يتفاهم فيما بينهم بوسيلة من الوسائل التي سبق ذكرها، وقد استطاع العلماء والمختصون بدراسة سلوك الحيوان أن يوضحوا لنا أن التفاهم الذي يتم بين أفراد النوع الواحد قد يكون بقصد التحذير من الأخطار، أو التنبيه إلى وجود مصادر غذائية يتم اكتشافها، أو للتجمع في قطيع واحد أو سرب واحد لبقاء الأسرة متماسكة؛ حتى لا يضل صغارها في مواسم التكاثر أو لغير ذلك من الأسباب.

ومن المعروف أن للطيور عدة وسائل صوتية يتم إحداثها للتفاهم والتعارف والتآلف، منها هديل الحمام واليمام، وتغريد البلابل والكروان، وصيحات الطيور البحرية عندما يشاهد البعض منها سربًا من الأسماك عند سطح الماء، وكذلك صرخات الصقور والنسور وغيرها من جوارح الطير.. ولكل منها دلالات خاصة ومعان محددة من تلك التي سبقت الإشارة إليها.

كما أن للأصوات أهمية فائقة في تجمعات الطيور المهاجرة، وتعيش تلك الطيور طبيعيًّا في الأقاليم الشمالية الباردة من نصف الكرة الشمالي في كل من آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، وهي في الواقع من سكان تلك المناطق، ولكن عند حلول فصل الشتاء تشتد برودة الجو، ويتساقط الجليد على سطح الأرض، ويقل الغذاء تدريجيًّا حتى لا يكاد يوجد على الإطلاق، فلا تجد تلك الطيور أمامها وسيلة للعيش سوى القيام بهجرة جماعية نحو الجنوب، حيث يكون الجو أكثر دفئًا والغذاء أكثر وفرة وتنوعًا. وقد لاحظ علماء الطيور أنها تُحدث خلال تلك الفترة من تاريخ حياتها كثيرًا من الإشارات الصوتية التي تؤدي في النهاية إلى تكوين أسراب ضخمة مستعدة للهجرة نحو الجنوب، ويتكون كل واحد من تلك الأسراب من أعداد ضخمة من الأفراد من نوع واحد فقط، ويكون لكل منها مرشد أو دليل من أقوى تلك الطيور وأعظمها شأنًا، حيث يسير في مقدمة السرب وكأنه رمز للصمود والكفاح، ويقطع البعض من تلك الأسراب المهاجرة آلافًا من الكيلومترات في تلك الرحلة الجماعية.

ولأن هناك أنواعًا من الطيور لا تهاجر إلا ليلاً، فيكون من الضروري إحداث أصوات مميزة ليبقى السرب متماسكًا في طيرانه، ولا سيما في الليالي الحالكة الظلام التي لا يجدي فيها الإبصار، وتكون تلك الأصوات مرشدًا هامًّا لمختلف الأفراد التي تتخلف أو تنحرف عن مسار السرب أثناء طيرانه الليلي.

لغة الحشرات

عالم الحشرات عالم رحب واسع متنوع وزاخر بالعديد من الأنواع؛ فمنها ما يقطن الصحاري الجرداء، ومنها ما يتخذ الجبال والوديان مأوى، ومنها ما يعيش في البيوت والمنازل مختبئًا في شقوقها لائذًا بجدرانها.. ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الاختلاف في البيئة وطريقة المعيشة، إلى اختلاف سبل التواصل والتخاطب فيما بينها.. وقد استطاع العلماء عن طريق التجربة والملاحظة تحقيق تقدم في معرفة كنه اللغة الشائعة بين بعض الأنواع، ومنها:

لغة النحل

لقد جذب عالم النحل بنظامه الدقيق الإنسانَ للبحث عن لغة يتم التفاهم بها لتحقيق هذا النظام الدقيق، حتى جاءت أبحاث البروفيسور الألماني “فون فريتش” التي أثبتت أن للنحل نظامًا دقيقًا في تعامله يوازي النظم البشرية ويتحدّاها في التنظيم وتوزيع الأعمال والأدوار وحسن التعاون.. وقد تم عن طريق هذه الأبحاث معرفة أمر اللغة التي تتم بين النحل داخل الخلية وخارجها، حيث استطاع “فريتش” أن يحل كثيرًا من الرموز فيما يتعلق بلغة النحل، وهو يحدثنا بأنها تعتمد أساسًا على حاسة الشم، كما تعتمد على نوع من الحركات الإيقاعية التي أطلق عليها اسم “رقص النحل”، فقد وُجِدت النحلة الشغالة -مثلاً- أنها إذا اكتَشفت أثناء بحثها عن الغذاء في إحدى الحدائق أو الحقول المليئة بالزهور، فسرعان ما تملأ جعبتها من رحيق تلك الزهور، وأيضًا من حبوب اللقاح التي تعثر عليها، ثم تعود بعد ذلك إلى خليتها وقد ملأها الزهو والسرور، وما إن تدخل الخلية حتى تجد الشغالات الأخريات في انتظارها للتعرف على نتيجة تلك الرحلة الاستكشافية، وسرعان ما تبدأ النحلة العائدة في ممارسة نوع من الحركات الإيقاعية التي يفهمها بقية الشغالات، إذ إنها تأخذ في هذه الأثناء ملاحظتها بانتباه شديد، كما أنها تتشمم الرائحة التي تنبعث من جسمها، وهي بطبيعة الحال رائحة الأزهار التي جمعت منها الرحيق، كما أنها تقوم بعد ذلك بمنح جرعات صغيرة من هذا الرحيق إلى زميلاتها الواحدة بعد الأخرى، لتتحقق أن كل واحدة منها قد استوعبت تمامًا رائحة الأزهار ونوع الرحيق المستمد منها، وسرعان ما تخرج تلك الشغالات بعد حصولها على تلك المعلومات، في أفواج كبيرة متجهة نحو الهدف دون تردد أو إبطاء.

لغة النمل

للنمل أنواع عديدة تربو على ستمائة نوع. والنمل يعيش داخل أوكار يبنيها بنفسه من الرمال، أو في شقوق حجرية يخزن فيها طعامه. يتم التفاهم بين النمل بحاستي الشم واللمس، أما حاسة البصر فهي ضعيفة لديه نظرًا لأنه يقضي معظم حياته في ظلام الوكر الدامس. وقد عوّضه الله U حاسة قوية في الشم تستطيع تمييز رائحة الإفرازات التي خرجت من الوكر الواحد، حيث يقوم النمل في سبيل الحصول على الغذاء، برسم علامات وإشارات على الطريق، ليسترشد باقي النمل إلى سلوك هذا الطريق الموصل إلى الغذاء، وهذه العلامات هي مواد كيميائية تفرزها غدد خاصة في رأس النملة أو شرجها.

وقد قام بعض العلماء بتجارب على النمل أثبتت أن الغدة المسماة “دوفور” في نمل الميرنيسين، تفرز مادة قلوية ذات رائحة مميزة تخطها على الأرض إبرة في أسفل بطن النملة. وتتبادل النملات العاملات تخطيط الطريق، فترسم الواحدة خطًّا طوله قرابة نصف متر، وتتوالى أخرى وثالثة وهكذا. ومن الأمور العجيبة أنه إذا حاول أحدنا مسح الطريق بالأصبع، يعم الاضطراب في جموع النمل، فيبدأ وسيلته الثانية في التعرف على أفراد عائلته؛ حيث يعمد إلى الملامسة بقرون استشعاره أو بزوج أرجله الأماميتين.

لغة الثدييات

الحيوان الثديي ينتمي إلى ذوات الدم الحار، وهو في الغالب يجري على أربع، يغطي جسمه الفراء والشعر. والثدييات بعضها أليف مستأنس وبعضها مفترس. أما عن اللغة عند هذه المخلوقات ذوات الحناجر فيغلب عليها الصوت، به تدافع عن نفسها، وبواسطته تنادي على بعضها البعض للتجمع، وفيه يظهر غضبها أو رضاها أو جوعها أو ألمها.

نجد -مثلاً- الخيول والحمير والخراف والماعز، تطلق الأصوات العالية عند مهاجمة الحيوانات المفترسة لها، والكلاب تنبح بشدة عندما تشم رائحة غريب أو ترى لصًّا يقترب من منزل صاحبها. أما الغزلان فنجدها تطلق الصوت إشارة لوجود خطر يتهدد القطيع، فتولي هاربة بقدرتها على القفز والركض السريع. أما الذئاب في الغابات فتصدر صوتًا للتجمع، تمهيدًا للأخذ بثأر أحدها إن وُجِد مقتولاً. أما الزرافة والجمل وإناث الجاموس والبقر، فتنادي الذكر بنداءات متميزة عند التزاوج.

وإذا انتقلنا إلى أرقى الأنواع من هذه الحيوانات وهي القرود، نجد أن لغتها تتميز بالصياح ومداعباتها بالحركات ذات الخفة أو السرعة، أو بتعبيرات لحركة الفم، وانقباض الوجه تبعًا لحالتها النفسية والجسمية.. فهي تصدر هذه الأصوات في إشارات لباقي أفراد جنسها، تبدأ صباحًا وتختتم بها يومها، وهي دالة على التجمع لصد الهجوم أو للبحث عن المأكل.

أما الخفافيش فهي ثدييات ليلية تختبئ في جحورها نهارًا، فإذا أقبل الليل وأظلمت السماء خرجت من مخابئها سعيًا وراء الغذاء. وقد لاحظ العلماء منذ وقت طويل، أن للخفافيش قدرة فائقة على الطير السريع في الظلام الحالك، دون أن تصطدم بالأشجار أو الجدران أو الحواجز الأخرى التي تعترض طريقها أثناء هذا الطيران السريع. ولما كان الإبصار لا يجدي في مثل هذا الظلام الحالك، فقد بدأ العلماء في البحث عن الحاسة التي تعتمد عليها الخفافيش في تحركاتها الليلية السريعة، وبعد تجارب مستفيضة لوحظ أن الخفافيش تصدر أثناء الطيران -بصفة مستمرة- أصواتًا حادة فوق سمعية لا تستطيع الأذن البشرية إدراكها، وأن هذه الأصوات أو الموجات الصوتية عند اصطدامها بالحواجز، تنعكس إلى الاتجاه المضاد، فتلتقطه أذن الخفاش ويدرك على الفور وجود هذه الحواجز، فيتحاشاها ولا يصطدم بها على الإطلاق. وقد استُغِلَّت هذه المعلوماتُ الهامة في عمل الرادار.