كيف تستخدم النباتات المحاكاة؟

     انبهار البيولوجيون

منذ أكثر من قرن ونصف من الزمان، انبهر البيولوجيون بفكرة مفادها أن: “نوعًا ما من الأحياء يستطيع تقليد نوع آخر بهدف تضليل العدو المفترس”. وقام عالم الطبيعة ألماني “كريستيان. ك. شبرنكل” Christian K. Sprengle عام 1793 بملاحظات قدمت مفتاحًا لحل لغز مفاده أن النباتات شأنها شأن الحيوانات تقلد أنواعًا أخرى. فقد وجد أن بعضها وبخاصة أنواع السحلبيات لا تفرز رحيقًا بنفسها لكنها تحاكي مظهر الأنواع المنتجة للرحيق التي تعيش في الموطن ذاته. ووصف عالم  الطبيعة الأنجليزي “و. بيتس” W. Bates  هذه الإستراتيجية الخاصة للبقاء عام 1862. ولاحظ بعض الفراشات الملونة بألوان زاهية في أمريكا الجنوبية كانت متماثلة تمامًا في مظهرها، في حين أن بعضها سام والبعض الآخر غير سام. وتصور أن الأنواع غير السامة تتنكر على شكل الأنواع السامة كي لا تُفترس، وعرفت هذه الظاهرة باسم “المحاكاة البيتسية-“Batesian mimicry لكن المحاكاة في النباتات لم تستقطب الباحثين إلا حديثًا، فبعد دراسات مكثفة للتأثيرات/ الفوائد المتبادلة بين النبات والحيوان تبين في القرن العشرين أن المحاكاة النباتية هي أكثر انتشارًا عما كان مفترضًا.

أغراض وآليات المحاكاة

مقارنة بالحيوانات والحشرات.. فإن المحاكاة عند النبات هي أقل شيوعًا، لكن يسهل فيها تتبع النظام ثلاثي الأطراف لكون النباتات ساكنة وبخاصة خلال المرحلة الخضرية الإعاشية من دورة حياتها. ويكرس الاهتمام بالنباتات فيما يتعلق بالتفاعل مع بيئاتها الطبيعية.

وقد تبين أن الأغراض الرئيسة للمحاكاة عندها هو جذب الملقحات لتأمين عملية التكاثر، وردع العواشب المفترسات للبقاء دون خسائر. وبالنسبة للتأبير (التلقيح) فيعتبر عدد الكائنات المؤبرة التي يتم اجتذابها، وكمية الثمار والبذور الناتجة أحد مقاييس المحاكاة/ المواءمة التكاثرية. وفي معظم نظم التلقيح يستفيد النبات ومؤبراته معًا حيث “المنفعة التبادلية”. فيقدم النبات لمؤبراته مكافآت غذائية (رحيق وحب طلع). أما المؤبرات أثناء حصولها على الغذاء، فتنقل حب الطلع من نبات لآخر، مما يؤدي للإخصاب وإنتاج البذور. وتستثمر بعض النباتات آلية التقليد لتزورها المؤبرات رغم أنها لا تقدم أي مكافآت غذائية؛ وذلك عبر محاكاتها خصائص فيزيائية وكيميائية -كاللون والقوام والرائحة والشكل- لنباتات زهرية مجاورة تفرز كميات وفيرة من الرحيق. فلا تستطيع الحشرات التمييز بين “النموذج”، و”المحاكِي” فتؤبرهما معًا، ومن الواضح أن عدم التمييز هذا سلوك قليل الفائدة للحشرات لكنه عظيم الفائدة للنباتات.

وتبين أنه بمقارنة النجاح التكاثري للسحلبيات في مواطن تجتمع فيها مع الجرسيات ومؤبراتها من النحل، مع مواطن أخرى لا توجد معها أن هناك السحلبيات تزيد علي نحو واضح من نجاحها بتلقيد الجرسيات، ويكون انعقاد الثمر في هذه المناطق أعلي بست مرات مما هو عليه في المناطق التي توجد فيها منفردة دون الجرسيات. لذا فقد تبين أن المحاكاة عند النباتات غالباُ ما تكون علي درجة كبيرة وواضحة من التعقيد. خذ مثلاُ أخر.. بعض أنواع السحلبيات (الأوركيدات) orichids  تحاكي شكل إناث النحل. ويحاول زنبور “كمبسوسكوليا سيلياتا”Campsoscolia ciliate  المخدوع بالتلميحات الفيزيائية والكيمائية أن ينزو على السحلبي (الأوركيد) “أوفريس سبيكولوم” Opbrys speculum  فحجم الشفة السفلي للزهرة يحاكي حجم أنثي الزنبور ومظهرها وتزغبها تقريباً. وقد يصدر بعض السحلبيات “فيرومونات جنسية” تشابه نظيراتها الحشرية الجاذبة للذكور، ولا تستطيع ذكور الزنابير في الظاهر التمييز بينهما. ونتيجة لذلك يتأبر السحلبي بالزنبور الذي يزور زهرة أخري باحثا عن النزاء.

وفي جانب آخر هناك إستراتيجية تأبير تتخذ فيها النباتات بعض خصائص اللحم الفاسد، وهذا ما يفعله كلا من نبات “أمورفوفالس تيتانوم”titanium  Amorphophallus  الذي ينمو في جزيرة “سومطرة” لارتفاع نحو ثمانية أقدام، ورائحته الفاسدة لا تطاق. كما يوجد في إفريقيا الجنوبية نبات “ستابيليا نوبليس” Stapelia nobilis. وتحاكي بتلات الزهرة شكل ورائحة اللحم الأحمر الفاسد، كما تعطي ملمس الوبر الناعم (كما لو كان وبر حيوان). لذا فلا تستطيع إناث الحشرات اللاحمة والذباب مثل “ذبابة اللحم” التي تترمم علي الجثث النافقة التمييز بين النبات وجثة الحيوان،، فتقوم بعملية التأبير، وقد تضع بيضها الذي -عند فقسه- تحتاج اليرقات إلى التغذية على “بروتين اللحم” فلا تجده كونها قد خدعت. وخلال خمسينيات القرن الفائت اجتاح  نوعان من (الأرز البري) حقول الأرز المزروعة في “سوازيلاند”. وباتت مسألة تمييز/ إزالة تلك الأعشاب البرية الضارة (باليد أو بالمعزق) من حقول الأرز من الصعوبة بمكان نظرًا للتمويه/ المحاكاة الكبيرة التي “ابتكرتها” تلك الأعشاب البرية مما قلل من مردود المحصول المستزرع.

تشمل المحاكاة عند النباتات أنماطًا كثيرة كأزهار تبدو كالحشرات، وأعشاب ضارة تتنكر بنباتات محاصيل استزرعها الإنسان. وتبدو نباتات أخرى كأنها حيوانات نافقة لها رائحتها المتميزة، بل وهناك نباتات تأخذ مظهر الحجارة الصلدة. وتعطي المحاكاة سلسلة واسعة تمتد ما بين استراتيجيات تأبير مُعتمدة على المراوغة، وقد تكون تلكم المحاكاة ناجمة عن الاندماج بين تميزات وراثية وتفاعلات بيئية. وهكذا فإن حدوث المحاكاة في النباتات برهان حيّ من القدير العليّ على قيومية التدبير وروعة التقدير.