عجائب أمة الطير

 

تبدأ صفحة الطيور في تاريخ البشرية عندما خلقها الله تعالى، هي والأنعام، أمة كأمم البشر. خُلقت في توازن، وانسجام، ونظام دقيق: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)(الأنعام:38).

وتأتي عملية طيران الطيور من أعجب الظواهر الحيوية والفيزيائية. يقول تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(النحل:79). فهذه العملية كانت، وستظل مثار تأمل وإعجاب واستغراب، و”حسد” من الإنسان.

فهي بأجنحتها تمتلك أجواء الفضاء مرتفعة بحرية، إلى عنان السماء، مُشرفة على الأرض تعود إليها، مُختارة، متى تشاء. تتخذ العالم كله “موطنًا” دون قيد أو شرط أو عناء. هذا، وغيره، جعلها “أسطورة” الحياة النشطة المفعمة بالحرية، والإنطلاق، والتفرد، والعلو.

كيف تطير الطيور

عملية الطيران تتم على مراحل ثلاث. الأولى، تُعرف بـ”الانزلاق” حيث يبسط الطير فيها أجنحته دون تحريكهما. والثانية “الدفيف” عندما يضرب فيها بجناحيه، رفعًا وخفضًا، ضربات متتالية. أما الثالثة “طيران الصف” ويأتيه الطائر بجناحين منبسطين لا يحركهما. وهي درجة من التحليق لا يستطيعها إلا بعض الطيور كالعقاب، والنسر، والنورس، والحدأة المصرية، وما شاكلها. يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)(النور:41). ويقول تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)(الملك:19). يقول القرطبي: “اعتدال جسم الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران ولو كان غير معتدل لكان يميل، فأعلمنا أن الطيران بالجناحين وما يمسكهن إلا الله. ومسخرات أي مذللات لمنافعكم من قبل الله تعالى. وهو الذي يحفظها في حال القبض والبسط والاصطفاف ليبين لكم كيف تعتبرون بها على وحدانيته وفي ذلك لآيات وعبر ودلالات لقوم يؤمنون بالله تعالى وبما جاء به رسله المصطفين”.

وتخضع الطيور في قوة طيرانها، أو ضعفه، لشكل جناحيها ومساحته، وشدة عضلاتها الصدرية، وتناسب ثقل الجسم. على أن للذيل مهمة كبرى في تغيير الاتجاه حسب رغبة الطائر، ووجهته. كما يعين الطير على هذه العملية “الشاقة” عظام خفيفة جوفاء، بالغة القوة والمرونة، واتساع محيط التنفس، الذي يتيحه لها صدرها بتركيبه العضوي العجيب، وتكوين رئتيها الإسفنجية التركيب، وشعبها الهوائية المتعددة، وأكياسها الهوائية المتصلة بها لتساعد كلها، وغيرها، على حسن كفاءة تبادل الغازات فضلاً عن مساهمتها في خفة وزن الطائر: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(الأنعام:96)، (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)(الفرقان:2).

يوم عالمي للطيور المهاجرة

تهاجر الطيور لمسافات هائلة ثم تعود أدراجها بعد بضعة أشهر قاطعة مسافات طويلة (تمتد لآلاف الكيلومترات) مقتفية أثر أجدادها في رحلة شاقة وخطيرة. وتوجد اختلافات عديدة، عامة وخاصة، في عادات الهجرة، وأنماطها، وطرقها، ومساراتها، وطريقة طيرانها، وإستراتيجية هجرتها. فترحل الطيور الصغيرة التي يقل وزنها عن 15 غرامًا، من جنوب أوروبا إلى الصحراء الكبرى وصولاً إلى خط الساحل الإفريقي والسودان في رحلة تزيد على ألفي كيلومتر، تقطعها في يومين، دون أكل أو شرب، وتُحلّق فيها على ارتفاعات شاهقة. أما الطيور الكبيرة، مثل الحدأة، واللقلق الأبيض، فمساراتها أكثر تحديدًا وظروفها أصعب. فهي أثقل وزنًا، وأكثر بطأً، وتطير على علو منخفض. ولا تحلّق فوق البحر. وتتحرك من أوروبا في مجموعات كبيرة إلى مناطق “عنق الزجاجة” أو إلى المضائق البحرية (كجبل طارق، و”باب المندب”، و”البوسفور” إلخ)، لتستطيع عبورها جنوبًا.

وتم تقسيم العالم لثلاثة أنظمة هجرة رئيسة منفصلة بحدود جغرافية. فالأول طريق الهجرة في العالم الجديد. أما الأخرى فهي الأوراسي والأفريقي، والنظام الآسيوي الشرقي والآسيوي الجنوبي والأسترالي. وتشكل العديد من المناطق والبحيرات والمحميات الطبيعية في دولنا العربية معبرًا آمنًا للطيور المهاجرة (والمتوطنة كذلك). كما أنها تمتلك مواقع عدة تمكنها من الاستراحة فيها خلال هجرتها. الطيور المهاجرة تمثل “شاهد عيان” على أحوال استخدام الأراضي، واستثمار الموارد الطبيعية. ولها منافعها وأثرها في تلقيح النباتات، ونثر البذور، وحفظ التوازن الأيكولوجي وخدمة الإنسان، وبيئته.

آليات الهجرة

الهجرة أمر فطري عند الطير، وبالرغم من تأثرها بالظروف الخارجية، إلا أن الطيور تملك آليات داخلية، ونشاطًا هرمونيًا تنبهها قبل أشهر من وقت الهجرة. فقبل موسم البرد، وشح الغذاء، ولأجل التكاثر ووضع الأعشاش تهاجر الطيور لبيئات أفضل، وتبقى فيها حتى يعود النهار ليصبح أطول، ويتوافر الغذاء بشكل أكبر. ويصبح الطقس مقبولاً في موطنها فتعود له، لتهاجر ثانية في العام التالي. وثمة تحضيرات قبل الهجرة كدعم مخزون دهون الجسم لتأمين الطاقة الكافية. كما أن العديد من آكلي الحشرات يتحولون إلى أكل التوت الغني بالسكر لدعم هذا المخزون. وتحتاج طيور اللقلاق، والكركي إلى تيارات الهواء الدافئ لطيرانها.

وأوضحت دراسة أمريكية نشرت في مجلة “بروسيدينجس بي” للجمعية الملكية البريطانية، أن طائر الليموزية صاحب المنقار الطويل (شبيه بالكروان) حطم رقمًا قياسيًا في الطيران. فقطع هذا “الرفراف الجميل” مسافة 11700 كلم فوق المحيط الهادي (من ألاسكا لنيوزيلندا) في تسعة أيام بلا توقف أو استراحة أو طعام. وكان الكروان الأوربي (يعيش على الحدود بين أوروبا وآسيا) صاحب رقم قياسي سابق للطيران بلا توقف، فقطع مسافة 6500 كلم تقريبًا في ثلاثة – خمسة أيام بين أستراليا والصين. ويهاجر “خطاف البحر القطبي” (السنونو) نهاية الصيف إلى القطب الجنوبي قاطعًا مسافة تقدر بـ 18.000 كلم. وهو يمر عبر دول إيران وسوريا وليبيا وجنوب أوروبا والبحر الأبيض المتوسط على شكل أسراب مكونة من 60-80 طيرًا ويذهب إلى أوروبا ليفرخ هناك. كما ينتقل من جنوب إفريقيا، والقطب الجنوبي.

وتتأثر الهجرة بعوامل وراثية، فالطائر الشادي يطير من أوروبا الشمالية لوسط أفريقيا، وهو يستهلك كميات كبيرة من الطاقة. وتستغرق رحلته حوالي أربعة أيام وليالي من الطيران المستمر. لكن كثيرًا من الطير ترتاح أثناء الطريق فتطير مساء، وتتوقف نهارًا. فالتغذية أسهل نهارًا. لكن بعض الطيور الصغيرة المهاجرة نهارًا كالسنونو والعندليب تستطيع الأكل أثناء طيرانها فاتحة أفواهها لتلتهم الحشرات التي تحملها تيارات الهواء. ولذا فالفصائل المهاجرة لمسافات قصيرة نسبيًا، تكون أقل إرهاقًا في مشاكل التغذية، وعادة ما تهاجر نهارًا. أما طيور الشواطئ، فتنجز هجرتها في أي وقت من النهار أو الليل.

كيف تعرف الطيور المهاجرة مسارها؟

تشير الأبحاث إلى أنها قد تملك خضابًا وخلايا خاصة في أنظمتها البصرية تسمح بإدراك الحقول المغناطيسية للأرض على شكل أنماط خطية براقة أو مظللة. وعندما تمتص العين الضوء تصبح الخضاب ضعيفة مغناطيسيًا فتسبب تبدلاً في الإشارات العصبية التي ترسلها العين للدماغ. وتقول النظريات أن بعض خلايا الدماغ تحتوي على بلوريات مادة ماغنتايت (Magnetite)  (أوكسيد حديدي قادر على التقاط الحقول المغناطيسية). فهل تستعمل الطيور المهاجرة إحساسها المغناطيسي البصري لالتقاط اتجاهات البوصلة؟ وتستعمل مادة الماغنتايت أيضًا لالتقاط التبدلات المحلية أو العالمية في الحقول المغناطيسية؟ وهل هذا النظام الملاحي المزدوج يفسر لماذا تتمكن بعض الطيور من الملاحة في الليالي المظلمة، والغائمة؟ وهل هذا الخضاب الحساس للضوء يعمل أيضًا في ظروف الإضاءة الضعيفة؟ أسئلة عديدة، وبعض إجابات، ويبقي روعة التأمل والبحث للحصول على المزيد من الإجابات.

هناك ما يقرب من 10.000 نوع من الطيور تتباين في طرق معيشتها وأشكالها وأحجامها بداية من النعامة والتي يصل وزنها إلى 150 كلغ وصولاً إلى الطائر الطنان (humming bird) 2.2 غرام الذي يستهلك في طيرانه طاقة كبيرة، لو أراد الإنسان أن يقوم بعمله لاحتاج إلى 13 كلغ من اللحوم يوميًا، وإفراز 45 لتر من الماء/ ساعة، ليحتفظ بحرارة جسمه تحت 100 درجة مئوية. كما تجدر الإشارة أن للطيور عمومًا، والمهاجرة خصوصًا، أهمية كبرى في منظومة التنوع البيولوجي لكوكبنا ولحياتنا. منظومة تؤثر فينا، ونؤثر فيها.. إيجابًا أو سلبًا.

الطير.. دروس، وعبر

هناك قصة الغراب الذي علم “قابيل” كيفية دفن أخيه المقتول “هابيل”: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)(المائدة:30-31). ومن ثم تعلمت البشرية مواراة جثث الموتى. إذ لو اجتمعت تلك الجثث على سطح البسيطة -دون موارتها- لأفسدت على الناس حياتهم ومعيشتهم.

وفي سورة البقرة جاء ذكر الطير دليلاً على قدرة الله تعالى على إحياء الموتى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(البقرة:260). وفي سورة “آل عمران” ضربت دليلاً على قدرته تعالى في الخلق أيضًا: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(آل عمران:49). وفي اختياره سبحانه وتعالى الطير ليكشف به عن عظيم قدرته في خلق الكون والناس وإعادة بعثه يؤكد العلاقة الخاصة التي قامت بين البشر والطير.

ومن عجائب الطير في القرآن الكريم أنها كانت تسبح مع داود عليه السلام، وكان عليه السلام يعرف منطقها وترجيعها: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ)(الأنبياء:79). وكان للطير دور بارز وأكثر خصوصية مع ابنه سليمان عليه السلام، الذي ورث العلم والحكمة وعرف منطق الطير: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)(النمل:16-17). يقول القرطبي: الطير اسم جامع والواحد طائر والمراد جنس الطير وجماعتها، وكانت تصحب سليمان عليه السلام في سفره فتظلله بأجنحتها.

وفي تفقد نبي الله سليمان عليه السلام، الطيرَ ضربُ لمثل في السياسة الرشيدة للحكم، ووجوب استمرار تفقد الراعي أحوال رعيته: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)(النمل:20-21). لكن الهدهد علمنا كيف نبادر إلى “إصلاح العقائد” كلما فسدت وحادت عن الحق، والطريق القويم. ولا نقف موقف المتفرجين: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(النمل:23-26).

وفي تاريخ الإسلام تبرز قصة الطير وهي تعشش على غار “ثور” على طريق الهجرة. فكانت من جنود الله المسخرة لحماية بابه، وساهمت في دفع الأذى عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه فترة بقائهما في الغار.

كما تروي كتب السيرة أنموذجًا من رفقه ورحمته صلى الله عليه وسلم، بالكائنات جميعها ومنها الطير. فعن ابن مسعود رضيي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حُمرة (طائر كالعصفور) معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرةُ تعرش (تظلل بجناحيها على من تحتها) فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “من فجع هذه بولدها؟ رُدوا ولدها إليها”. وسار على ذات النهج -قدوة واقتداء- الصحب الكرام رضي الله عنهم.

فهذا الفاتح عمرو بن العاص رضي الله عنه لما باضت يمامة فوق فسطاطه (خيمته). ولما أراد الرحيل إلى الإسكندرية، فأخبروه بأمرها. فقال: “قد تحرمت في جوارنا، أَقِروا الفسطاط حتى تطير فراخها” فأقروه. فكان من أثر ذلك، وبعد عودتهم من سفرهم، أن تكاثر العمران من حوله، فكانت مدينة “الفسطاط”.

المتأمل في الكون؛ “كتاب الله تعالى المنظور” يجد كمًّا هائلاً من الكائنات الحية، والمشاهد والمظاهر تدل -ليس فقط-على نعمة الإيجاد من عدم “الخلق” لما يزيد عن “مليون” نوع من الكائنات الحية، ومنها الطير، متنوعة الصفات والخصائص والوظائف والتراكيب والأشكال والألوان إلخ. بل، أيضًا، على “هداية”، و”إرشاد”، و”تسخير”، و”رزق”، و”تعليم” الله تعالى لها كي تؤدي دورها ووظيفتها، وتنال رزقها، وتتواصل فيما بينها على الوجه الأنسب والأفضل دومًا: (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)(النمل:88). وإننا -بتأملنا هذا- لا بد أن نجد لكل أمر غاية، ولكل شيء أجلاً، ولكل حادث موعدًا، ولكل قدر حكمة: )إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)(القمر:49).

 

(*) كاتب وأكاديمي / مصر.