الشباب وصناعة المستقبل.. مآزق وآفاق

لا يُنظر اليوم إلى الشباب باعتبارهم صانعي المستقبل وحسب، بل على أنهم الفاعل الاجتماعي الأهم في الواقع، والمؤثر في الحاضر وإن تعددت وتراوحت تقويمات هذا التأثير سلبًا وإيجابًا.

ويشير التاريخ الإنساني بكل إنجازاته العلمية والفكرية إلى الإمكانيات غير المحدودة للشباب في صنع الحضارة، كما أن مقولة “الشاب عماد الأمة” تكاد تتواتر -بمقابلاتها- في جميع لغات العالم.
ولا ريب في أن قدرة الشباب على تحويل الأحلام إلى حقائق، والطموحات إلى إنجازات على أرض الواقع، تتطلب أن تُمهَّد السبل لهم كي تنطلق هذه الطاقات، وأن تُرفع كل القيود والمعوِّقات كي تستمر هذه السواعد. كما أن هذا يتطلب أيضًا، دعم الآليات التي تساعد الشباب على العمل والإنجازات وتبادل الخبرة والتعاون المشترك.
ولا يخفى على أحد -في ظل التكاشف الإعلامي الراهن- أن دون تحقيق ذلك الطموح البعيد، المرتبطِ به استعادةُ أية أمة نهضتَها، عوائقَ ومآزقَ تضيّق من آفاق المستقبل، وأيضًا تحديات تستلزم المواجهة الصادقة والمعالجة الناجحة قبل استئناف المسير.

مآزق الحاضر

إذا اتفقنا على أن على كواهل الشباب -فُرادى وجماعات- يقع عبءُ صناعة المستقبل والنهوض بـ”نوستالجيا” الماضي والأحلام التي لم يحققها جيل الآباء، وأن عليهم مواجهة واقع مختلفٍ والاضطلاع بأعبائه وهمومه، فإن من الواجب أن نربي شبابنا على التحلي بالواقعية في مواجهة أزماته الحاضرة، ولابد -من ثم- من أن يجابه الشباب الحقيقة -حقيقة الأزمة والمشكلات التي تمر بها الأمة- كما هي، ليستشعر عظم التحدي، وليستنفر همته ويشحذ طاقته. كما يجب أن يدرب الشباب على استخلاص الدروس والعبر حتى لا يكرر أخطاء الأجيال السالفة ولا يبدأ من “الصفر”: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(آل عمران:137).
ومن هنا، فالواجب على قادة الرأي ورائدي الفكر وأولياء الأمر عمومًا، أن يبينوا الحقائق كما هي مهما تكن أليمة وموجعة، وهذا هو بداية طريق العلاج الناجح.

الأزمات القاتلة

وسوف نحاول في عجالة، رصد أهم وأخطر الأزمات والمآزق الراهنة التي تسم حاضر الأمة الإسلامية بوجه عام، وبغض النظر عن بعض الاستثناءات هنا وهناك.
1- أزمة التعليم والأمية الحضارية؛ حيث يُمنَى العالم الإسلامي بأعلى معدلات الأمية في العالم، وحيث تنفصل “التربية” عن “التعليم” في أحيان كثيرة، وذلك يؤدي إلى فقدان العلم ودلالته القيّمة، وحيث صار هدف الشباب -في ظل الفراغ التربوي- هو الحصول على الشهادات الرسمية بوصفها غاية في حد ذاتها، لا وسيلةً لمراكمة المعرفة والترقي ماديًّا وحضاريًّا.
2- أزمة الاغتراب الثقافي واهتزاز الهوية؛ حيث يتعرض الدين واللغة والإثمار إلى ما يهز التمسك بها، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى المسخ والتقليد.
3- أزمة صراع الأجيال؛ حيث الغالب أن الآباء الذين يملكون زمام السلطة والمبادرة، لا يتفهمون مشكلات الشباب، فضلاً عن إتاحة الفرص لهم ليتولوا بأنفسهم عملية التغيير والإصلاح وتنفيذ الطموحات.
4- أزمة الوصولية واختلال سلَّم القيم.
5- أزمة البطالة -الصريحة والمقنعة- واللامسؤولية.
6- الأزمة الاجتماعية بشكل عام -المادية والمعنوية- المؤدية إلى الضياع والإدمان وضعف الثقة بالنفس.

مصادر الأزمات

1- غياب القيادة الحكيمة والقدوة الصالحة (الفساد الاجتماعي والخلل القيمي).
2- غياب الممارسة الشورية على الصعُد كافة (الفساد السياسي والاقتصادي).
3- عدم استثمار أوقات الشباب وطاقاتهم (الإخفاق التنموي).
4- سيطرة وسائل الإعلام اللاهية، وشيوع النمط الاستهلاكي (الخواء الثقافي والحضاري).

آفاق المستقبل

أصبح المستقبل حقلاً يمكن دراسته والتعامل معه بكيفية على درجة عالية من المنطقية، من خلال طرائق يفترض منها أن تكون محكمة أو شبه محكمة، ولها من القدرة على أن تعطي من النتائج ما هو مهم وضروري على هيئة خيارات وبدائل واستشراف و”سيناريوهات” يستفاد منها في مجالات السكان والبيئة والصحة والتعليم… وباختصار، في مجال النهضة الشاملة المنشودة لكل أمة.
والدراسات المستقبلية، تقوم على فحص منطقي علمي لظواهر حاضرة ذات تكوُّن ممتد في الماضي، ومبنية على العقل والمنطق والحس، وعلى العلم وقوانينه، واستنادًا إلى التجارب البشرية المتراكمة على مر العصور. فهي إذن ليست ضربًا من الكهانة، ولا من محاولة تسوُّر الغيب، بل هي استقراءات واستنباطات ذات منهجية علمية مقنعة ودقيقة، تولد من الماضي وتترعرع في الحاضر وتنمو في المستقبل.
ومما يؤثر سلبًا في صحة مثل هذه الدراسات، ضعفُ المعلومات حول المستقبل، والتنبؤ بصورة واضحة ودقيقة. وهنا تتأكد ثانية -كما سلف التنبيه- أهمية أن نعرف الواقع ونصفه كما هو مهما بلغ سوءًا. فأول معرفة الدواء، وضع اليد على محل الداء مهما يكن هذا مؤلمًا.

من الأمن القومي إلى الإنساني

ومما يتصل باستشراف المستقبل ويسهم فيه كصورة واضحة له، التأكيد على اتساع مفهوم الأمن القومي (قدس أية دولة أو أمة). فمن الخطأ والخطر، قصره على حماية التراب الوطني وكيان الدولة ومواردها من الأخطار الخارجية، فهذا هو الحد الأدني منه، وهو يمتد من هذه النقطة إلى الجبهة الداخلية وحماية هُوية المجتمع وقيمه، وتأمين المواطن ضد الفقر والجهل والمرض، وضمان الحد الأدنى من الرفاهة والمشاركة السياسية.
ويتعلق الأمن القومي بهذه المحاور:
1- تنمية المجتمعات المحلية الأصغر.
2- تنمية الثقافة وإعلاء قيم مجتمع الرشد والتراحم.
3- حماية حقوق الإنسان وإشباع الحاجات الأساسية، للانتقال بالمجتمع من مجتمع الكفاف إلى مجتمع الكفاية إلى مجتمع الكفاءة والرفاهة.

موجّهات هادية

وبناء على هذا التصور السليم لمفهوم ” الأمن القومي”، وإدراك قيمة تعزيزه في طريق بناء المستقبل، وإذ قدّمنا آنفًا أبرز المآزق التي تعوق مسيرة الأمة نحو مستقبلها، فإننا -ومن خلال التأمل العكسي- يمكننا استشراف آفاق المستقبل بما يتضمنه من تحديات ينبغي أن نتصدى لها جميعًا -ولا سيما شبابنا- الآن وليس غدًا كما يلي:
1- أمتنا أحوج ما تكون إلى الوعي بما يتربص بها، وإلى إرادة التغيير والعمل.
2- أمتنا في مسيس الحاجة إلى إعادة النظر في مجمل السياسات والمشاريع الراهنة، وتصحيح البنية التحتية، وترتيب الأولويات، والسعي الجاد للارتقاء في سبيل المشاريع التنموية التي تكفُل لها النهوضَ بخطىً واثقة. ولا بد -في هذا السياق- من التضامن بين دول الأمة المسلمة والتعاون المشترك، لإيجاد تكتل يستطيع الصمود -بل المنافسة- بين التكتلات العالمية السائدة والمتوقع أن تسود مستقبلاً.
3- يجب الاعتماد على التخطيط السليم والتنفيذ الجيد والمتابعة والتقويم، لتصحيح المسارات كلما وقعت زلاتٌ وأخطاء، كما يجب وضع خطوط تنموية تضع الزمن في حسابها.
4- ضرورة الاعتماد على العلم والتكنولوجيا والبحث العلمي، كما يجب الحفاظ على الكفاءات العلمية وتحقيق طموحاتها كمًّا ونوعًا، فهي الثروة الحقيقية لأية أمة.
5- الارتقاء بالحالة الاجتماعية للشباب وتأمين حقهم في الحياة الكريمة، وذلك بتوفير حاجاتهم المادية والروحية، وتلبية ضروراتهم الأساسية ولاسيما المسكن والزواج وفرص التعليم والعمل والصحة.
6- يتعين الاهتمام الخاص بالطفولة ورعايتها وتأمين حقوقها وحاجاتها، وتشجيع الأطفال على اللعب وممارسة اللهو والإبداع، وتفجير الطاقات الخلاقة لديهم، وتشجيعهم على التعبير عن الذات… فهذا ما يصنع منهم شبابًا مبدعين.
7- إيلاء الإعلام (مرئيًّا ومسموعًا ومقروءًا) أهمية بالغة، ليؤدي دورًا إيجابيًّا في نوعية الحاصلين -لا سيما الشباب منهم- وتسليط الأضواء على التحديات التي تواجه الأمة، وتحصين الأجيال الناشئة ضد التضليل والغزو الثقافي والإعلامي.
8- وقبل هذا كله، وبموازاته ومعيته، يجب النهوض بالجانب الروحي نحو الفهم الأشمل والأعمق للإسلام -عقيدة وشريعة، عملاً وسلوكًا- لتكون الأجيال الناشئة مؤهلة لحمل الأمانة وإبلاغ الرسالة إلى العالمين.

خاتمة

قبل سنوات، تساءل المفكر الفرنسي “روجيه جارودي”: كيف نفتح أفقًا جديدًا ومستقبلاً ذا وجه إنساني وراء ساحات الدمار، وبعيدًا عن “حفَّاري القبور”؟!
ونحسب أن الجواب عن هذا لا يكون إلا بعد الإقناع بأن آليات “العولمة” دون مضامينها، عبارة عن إمكانات -بحسب الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن- وبالتالي فواجب كل أمة أن تدعو إلى كتابها، طارحةً “بديلاً واقعيًّا وعمليًّا” لإمكان الحداثة والعولمة المهيمنة.
أما الأمة المسلمة، فالواجب أكثر تعينًا؛ أن تبادر إلى اجتراح مغامرة طرح البدائل العملية، وأن تقدّم نموذج “الرؤية العملية الإسلامية والإنسانية” متخطيةً مرحلة الاستكانة إلى أفكار “اضمحلال الغرب” و”تدهوره” و”سقوطه”.
ومما يعزِّز من فرادة البديل الذي يمكن أن تقدمه أمتنا، أن التجربة الإسلامية في مجال تربية الشباب، تطرح أنموذجًا متكاملاً في هذه السبيل، حيث قدم القرآن الكريم أنموذج التحري والبحث عن الحقيقة واستشراف غوامض الوجود ممثلاً في سيدنا إبراهيم عليه السلام، وأنموذج العفة والطهارة والحفظ والعلم ممثلاً في سيدنا يوسف عليه السلام، وأنموذج القوة والأمانة والبسالة ممثلاً في سيدنا موسى عليه السلام، وأنموذج الرحمة بالخلق والصبر على أذاهم حرصًا على هدايتهم إلى ما فيه خيرهم ممثلاً في سيدنا عيسى عليه السلام، وأنموذج التماسك والشخصية المستقلة المتوازنة ممثلاً في فتية الكهف، وسوى هذا من النماذج الرفيعة التي انتهت إلى الرسول الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لتلتقي عنده معالم النبوة، وخصائص الهداة والمصلحين، وخلاصة التجربة الإنسانية من لدن آدم عليه السلام ليكون خير أنموج للشباب في الأسوة والقدوة: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا)(الأحزاب:21).