الأسرة الإنسانية وثقافة السلام

منذ بداية القرن الواحد والعشرين والإنسانية في مفترق طرق، فاليوم نقف أمام تطور مادي كبير لم تكن جماهير القرون الماضية تحلم به؛ فسهولة التواصل وسرعة التنقل حولت العالم إلى قرية صغيرة يتواصل أفرادها فيما بينهم بسهولة ويسر. ولكن الأنظمة المعقدة التي قمنا بتطويرها -الزراعية والصناعية، والتجارية والقانونية والإدارية- وصلت إلى أعلى نقطة يمكن أن يمثله نموذجها، الأمر الذي يلزمها بإحداث تغير جزري، وإلا انهارت. وفوق كل هذا يأتي التحدي الأكبر الذي تواجهه الإنسانية وهو تغير المناخ، لأن أضراره الكارثية قد تؤدي إلى محو ما وصلت إليه الإنسانية من تطور وتقدم. الحل الأمثل يكمن في تغيير الوعي الإنساني، والخبر الجيد أن هذا يحدث الآن من حولك عزيزي القارئ.

لا تتعجب، فحتى الأمم المتحدة قد قامت بتسمية التحول الذي يحدث للوعي الإنساني بـ”ثقافة السلام”، وهذه الثقافة تتميز بأمرين في غاية التأثير والأهمية:

1- عائلة إنسانية واحدة

استيعاب أننا جميعًا إخوة وأخوات في العائلة الإنسانية الواحدة، فكل الأديان تأمر وتحث على الخير والفضيلة والتسامح والحب. وبينما كنا في الماضي نحصر هذه القيم فيمن ينتمون لنفس القبيلة ونسلح أنفسنا في مواجهة الآخرين، فخلال هذا القرن تطور وعينا لنكتشف أنه لا يوجد “آخر”.

والحكم السريع على الآخرين لاختلاف لونهم أو عقيدتهم أو انتمائهم، يتناقص بوتيرة جيدة، فما عدنا -كإنسانية- نعيش منعزلين؛ فمن نتقابل معهم في المدرسة من أصدقاء، ومن نعمل معهم من زملاء في العمل، وجيراننا في المسكن، كل واحد -على رغم اختلافاتنا- أصبح يرى بوضوح المشتركات التي تجمعنا وهي أكثر مما قد نختلف حوله. أما العداوات والنزاعات وما توارثته الأجيال من أحقاد المجتمعات المنغلقة، أصبحت تتلاشى تدريجيًّا في هواء المجتعات التعددية (الشمولية). هذا التحول المتسارع، ساعد في تنامي قيم التسامح والمحبة والاحترام المتبادل والتقدير.

لقد بدأت الإنسانية في القرن العشرين تخطو أهم خطواتها بظهور الحركات المنادية بحوار الأديان والثقافات، كما أصبحت -ولأول مرة- كل المتون الرئيسية للأديان المختلفة متاحة بجميع اللغات، ومع تطور التعليم أصبحت نسبة القادرين على القراءة والبحث أكبر، وبينما كان هناك بعض القادة السياسيين يحرض على عدم التسامح ويشعل الفتن لمصالحه السياسية والاقتصادية الضيقة، كان هناك إدارك لدى المنتمين للديانات المختلفة أن ما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرقهم، وربما الأجيال القادمة ستنظر إلى تعدد الديانات بأنه تجل آخر من تجليات التنوع المذهل الذي تتمتع به العائلة الإنسانية، كتنوع اللون واللغة والخلفية الثقافية، وحالما نتجاوز اختلافاتنا سنقدر التعددية التي نتمتع بها، وحينها سيتعلم بعضنا من بعض.

الحوار بديلاً عن الحرب:

وبهذا الوعي العالمي الجديد، سيصبح من الصعب تحريض أي مجموعة لمحاربة مجموعة أخرى. ولقد بدأنا بالفعل -كإنسانية- ندرك أن الحرب والعنف لم يقدِّما حلاًّ مفيدًا لأي صراع بشري خلال القرون الماضية، بل على العكس كل من شارك في العنف -المنهزم والمنتصر سواء- كان يعاني من الضرر، فالمحاربون الأمريكيون -مثلاً- بعدما عادوا من الحروب التي شاركوا بها، كانوا يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة النفسية وكانت تراودهم أبشع الكوابيس، بالإضافة إلى نزوعهم للانتحار.

في القديم كانت المجتمعات تنظر للحرب بعين الفخر، وتنظر إلى المحارب والمنتقم كقدوة، وكان الغزاة يُقَدَّرون ويفتخر بهم، وغنائم الحروب -بما تضمنته من استعباد البشر- كان يُنظر إليها على أنها حقوق مستحقة، بينما اليوم الإدراك العام للإنسانية أصبح أكثر تسامحًا ورحمة؛ لا ينظر للحرب على أنها حتمية، بل ينظر إليها باعتبارها الحل الأخير الذي قد يستخدم بعد فشل كل الحوارات والمفاوضات، وأصبح حل المشكلات من خلال الحوار يدرس بالمدارس.وسنشهد تزايد روح التسامح والمصالحة كلما زاد اهتمامنا ورعايتنا لمن يختلفون عنا.

العيش لإحياء الآخرين:

هذه الحقيقة يشار لها بالقاعدة الذهبية، فأفضل ما فينا يظهر عندما نساعد الآخرين ونمكنهم من العيش الإنساني الكريم. ولقد صار جليًّا أن كل حدث مأساوي يحدث على ظهر كوكبنا من جراء الحروب والآفات الطبيعية كالزلازل والفيضانات، يلهمنا أن نفتح قلوبنا ونتألم بآلام من لا نعرفهم، في سابقة هي الأولى في تاريخ البشرية، بمعنى آخر لقد تحولنا لمجتمع عالمي واحد.

2- مهد الأخوة الكبرى

إن تأثير نفايات المصانع والنفايات البلاستيكية تؤثر سلبًا على الهواء والماء والتربة، والتغير المناخي على كوكبنا يضع مستقبل الإنسانية في خطر محدق، وكأن الكوكب يبكي حتى نستمع لما يعانيه منَّا. وها نحن بدأنا نستمع.. إن الحكمة المتوارثة في الثقافات المختلفة، كانت تنبهنا بأن نسير على الأرض هونًا، ولا نخرب الطبيعة من حولنا ولا نفسدها، فهل سنستمع لتلك الحكمة قبل فوات الآوان؟

إن مرحلة تطور الوعي التي نمر بها -كإنسانية- توقظ في إدراكنا أننا جزء من منظومة كونية، وأن البيئية من حولنا ليست جمادًا؛ فهي حية تتنفس بكائناتها.

ما بين التقدم التكنولوجي والحفاظ على البيئة:

إن شعورنا المتجدد بالأواصر التي تربطنا بالطبيعة والكائنات من حولنا، وإدراكنا لأهمية الحفاظ على التناغم والتوازن البيئي حولنا، أيقظ فينا عدم الرضا عن المنهج الذي يتبعه العلماء اليوم؛ لأنه يعادي البيئة وكل المخلوقات التي تطلق على هذا الكوكب لقب “الوطن”. إن ثقافة السلام تتأسس على علاقة الحب والاحترام لكل شيء؛ بدءًا من تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان، إلى تعامله مع كل الكائنات من حوله.

وبينما يتصدى قادة العالم لقضايا كوكب مهدد بالتصحر وتقلص السواحل وتطرف الطقس، تبحث البشرية عن اختراعات وتقنيات تمكننا من الحصول على طاقة نظيفة وغير باهظة ومن مصادر متجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وطاقة المد والجزر، وربما من طاقة الأرض الحرارية.. لكن هل سنتمكن من الوصول إلى شطر الذرة من دون أضرار على البيئة؟ هل يمكننا الوصول إلى طاقة النقطة صفر؟ كل يوم نوجه هذه الأسئلة لعلماء عصرنا ولسنا متأكدين من الإجابة بعد، لكن الأكيد أننا -كبشر- اتسعت آفاقنا؛ فإدراكنا لأهمية الطاقة لا يقل عن إدراكنا لأهمية الحفاظ على البيئة والتوفيق بين احتياجاتنا لبقاء الإنسانية واستمرارها.

إن ثقافة السلام تتأسس على علاقة الحب والاحترام لكل شيء؛ بدءًا من تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان، إلى تعامله مع كل الكائنات من حوله.

والحقيقة أن علاقتنا بالبيئة تتطور يومًا بعد يوم، لا سيما مع دخول العالم الافتراضي؛ فالأجهزة التي في أيدينا قرّبت بيننا رغم بعد المسافات، فقد صرنا نتواصل مع أصدقائنا في كل مكان، بالإضافة إلى وصولنا لمنابع فكرية ومعرفية جديدة أصبحت متداولة وغيرت مفهوم التعليم في عالمنا، وهذا ما سيمكِّن الأجيال القادمة من تطوير العلوم والفنون، ويتطلب منا تطوير علاقتنا مع البيئة، وأن نعيش في عالم متوازن، وأن ننشئ هذه الأجيال بحيث تستطيع أن توازن بين عقولها وقلوبها.

زمن الانفتاح على عالم القلب:

سيشهد القرن الواحد والعشرون انفتاح الإنسانية على عالم القلب بعدما تزول حالة الخوف والتربص التي صنعتها كل أنواع التفرقة، وسنتعافى من تلك الحالة بشعور متزايد بوحدة مجتمعنا الإنساني، فالأرض كلها هي مجتمعنا. هذه التجربة ستؤهلنا لمد أيادي العون والمحبة للكل، وسيكون هذا الحب هو العلاج الأمثل لإصلاح كل ما انهدم في عالمنا، وسيوفر لنا المناعة اللازمة لمواجهة كل التحديات التي ستواجه الإنسانية.

هل يمكنك أن تتخيل القوة التي سنشعر بها كإنسانية عندما ندرك التجليات الإلهية في قلوبنا وتجليات الأسماء والصفات في كل المخلوقات من حولنا، سينصبغ كل ما يقع بصرنا عليه بتجل إلهي جميل؟

ولكن يمكنك أن تسألني؛ ما الذي يجعلك متأكدًا من أن القرن الواحد والعشرين سيكون مظهرًا لهذه العجائب التي تحدثنا عنها؟ أجل، نحن نقف على أبواب حقبة إنسانية جديدة، وفي الوقت نفسه نشعر بالتوتر، لأننا ندرك أننا طرف في تخريب البيئة، وما عدنا نقبل عجز الحكومات، وثقافة الاستهلاك التي تملأ محيطاتنا بالنفايات البلاستيكية وأجسادنا بالمواد الكيميائية الضارة والمسببة لمرض السرطان بكل أشكاله البشعة، وما عدنا نقبل حضارة يعيش فيها القلة برفاهية بينما الآخرون يعانون من المجاعات؛ لأنه عندما ترتفع درجة حرارة الأرض وتزيد معدلات البحار، سنكون في حاجة لكوكب صحي يعيش عليه أناس أصحاء يعتني كل منهم بالآخر، ونحن قادرون على فعل ذلك.

فدعونا نتحرر من الخوف، وننطلق لتأسيس أسلوب جديد للحياة على كوكبنا كعائلة واحدة، يهتم كل أفرادها ببعضهم البعض ويهتمون ببيتهم الذي يقطنونه.

(*) أكاديمية وناشطة في فضاء السلام العالمي / الولايات المتحدة الأمريكية.