يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة: “ولعل من أبرز ما يميز الأنماط المعمارية الإسلامية، أنها تتمحور في بنائها وواجهاتها وهندستها ومرتفقاتها حول وجهة أو بتعبير أدق نحو القبلة (المسجد الحرام)، أما في الأنماط العمرانية المعاصرة أو في عمران المدن الحديثة، فلا وجهة ولا قبلة، ويصعب على الإنسان المسلم، وقد يجد عناء شديدًا في تحديد القبلة، إذا خرج من المسجد وعبر الشارع، ودخل المباني المعاصرة”.

إذا نظرنا للتوجه للقبلة من وجهة تأثيرها على مباني المجتمع المسلم، فإننا نجد أن التوجه للقبلة هو أحد أهم الثوابت التصميمية الخاصة بعمارة المساجد، مصداقًا لقول الله عز وجل: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(البقرة:144)، فعلى ذلك يمكن أن نتخيل أن كل مسجد في شتى أنحاء المعمورة، يحتل نقطة على محيط دائرة مركزها الكعبة. وتبعًا لذلك يكون جدار القبلة هو أهم عنصر معماري في أي مسجد، وبالتالي يصبح توجيه المسجد من الوجهة التجريدية هو المحدد لشخصية المسجد وليس مجرد عناصره الأخرى المختلفة.

ما الذي يخسره العمران الإسلامي بعدم توجهه إلى القبلة؟

ربما يتبادر هذا السؤال إلى ذهن البعض، وبخاصة أن المدن والمباني في المجتمعات الإسلامية ليس لها توجيه محدد، اللهم إلا في بعض المشروعات التي تأخذ العوامل البيئية في الاعتبار، أو في المناطق المخصصة للمقابر والتي يحرص منفذوها على أن تكون هذه المقابر في اتجاه القبلة لسهولة دفن موتى المسلمين بالطريقة الشرعية.

إن عدم توجيه العمران الإسلامى للقبلة، يفقد المجتمع المسلم أهم عوامل تميز شخصيته وتفرده من الناحية المعنوية والنفسية، حيث يشعر كل مسلم في أي مجتمع إسلامي بوحدة الاتجاه وبوجود رباط روحي دائم بينه وبين مكة المكرمة.

والإجابة على السؤال السابق يمكن أن تكون ذات شقين أساسيين؛ الأول يتعلق بأشياء معنوية رمزية، والثاني يتعلق بأشياء مادية ذات أثر سلبي على عمران ومباني المجتمع الإسلامي، وسنوضح هذين الشقين فيما يلي:

أ- الأثر السلبي المعنوي والنفسي على المجتمع المسلم: لكي نتفهم ما هو الأثر المعنوي والنفسي السلبي الناتج من عدم توجيه العمران الإسلامي للقبلة، فإنه يجب أولاً أن نوضح أنه توجد علاقة مباشرة بين أسلوب تصميم المباني وتخطيط المدن وما يحمله العمران من دلالات، وبين تكوين ثقافة أفراد المجتمع وتوجهاتهم الفكرية، وذلك أن لفن العمارة وضعًا خاصًّا ينفرد به عن باقي الفنون سواء كانت تشكيلية أو غيرها.

فالمبنى الذي يقام في المدينة سيراه كل أفراد المجتمع جميلاً كان أو قبيحًا، أراد الناس رؤيته أم لم يريدوا، كما أنه قد يزيد من جمال البيئة الحضرية أو يسيء إليها.. ومن جانب آخر، فإن العمارة تمثل واجهة صادقة لثقافة المجتمع، والتي تعتبر محصلة لتفاعل ذكاء الإنسان وفكره ووجدانه مع البيئة التي يعيش فيها.

كما أن للعمران والمباني دورًا في تشكيل وبناء الإنسان بطريق غير مباشر لا يشعر به، لذلك فإن “ونستون تشرشل” رئيس وزراء بريطانيا في عهود سابقة، له مقولة ذات دلالة في هذا السياق، وهي: “نحن نحدد أنماط مبانينا، ولكنها فيما بعد هي التي تحدد أنماط حياتنا”.

وربما تتعدى أخطار العمران بما يحمله من إيحاءات ومدلولات ورموز التشكيل الوجداني، ليشمل أيضًا الجوانب الأخلاقية، ليصبح العمران انعكاسًا لأخلاق العصر الذي بني فيه، وفي هذا المعنى يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله: “إن أردت أن تعرف خلق وأخلاق أي عصر، واستقامته أو آفاته في تصريف الحركة (…) فلننظر إلى المعمار في هذا العصر”.

وبالرجوع للإجابة عن أثر الشق المعنوي والنفسي لعدم توجيه العمران الإسلامي للقبلة، فإننا نجد أن الإسلام يحرص كل الحرص على تميز شخصية المسلم وعدم تشبُّهه بالآخرين من أهل الملل الأخرى، للدرجة التي اعتبر فيها الإسلام أن من تشبَّه بقوم فهو منهم.. وفي شأن القبلة بالذات، فإن القرآن الكريم يؤكد على هذا التميز بين أهل الشرائع السماوية فيقول سبحانه وتعالى: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(البقرة:145)؛ فالآية الكريمة توضح للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بأنه لو جاء بكل حجة وبرهان لأهل الكتاب على أن توجههم إلى المسجد الحرام في الصلاة، ما تبعوا هذه القبلة عنادًا واستكبارًا، وما هو بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض، وأن اتباع أهوائهم في شأن القبلة وغيرها بعد ما جاءه من العلم، يدخله في زمرة الظالمين، وفي هذا تهديد ووعيد لمن يتبع أهواء المخالفين لشريعة الإسلام.

إن العودة إلى توجيه المدن والمباني في المدن الإسلامية المعاصرة إلى القبلة، هو عودة إلى الأصل، حيث كانت المدينة كلها بمساجدها وأغلب شوارعها ومبانيها تتجه إلى القبلة

لقد أوضح القرآن الكريم -في شأن التوجه للقبلة- أن أهل كل شريعة من الشرائع السماوية لهم القبلة الخاصة بهم، وما بعضهم بتابع قبلة بعض، ومن هنا فإن عدم توجيه العمران في المجتمعات الإسلامية للقبلة، يفقد المسلمين التميز والتفرد الذي أراده الله عز وجل عن عمران ومباني أهل الشرائع الأخرى، مع علمنا بمدى حرص أهل الشرائع الأخرى على عدم اتباع قبلة المسلمين مهما ظهر لهم من الحجج والآيات البينات.

إن عدم توجيه العمران الإسلامى للقبلة، يفقد المجتمع المسلم أهم عوامل تميز شخصيته وتفرده من الناحية المعنوية والنفسية، حيث يشعر كل مسلم في أي مجتمع إسلامي بوحدة الاتجاه وبوجود رباط روحي دائم بينه وبين مكة المكرمة أم القرى، ليس في المسجد فقط أثناء أداء الصلاة، ولكن أيضًا في بيته ومكان عمله، وفي جميع المباني التي يمارس فيها أنشطته الحياتية ما أمكن تطبيق ذلك.

بـ- الأثر السلبي المادي على العمران والبنيان: أما إذا أردنا أن نعرف كيف يمكن أن يؤثر عدم التوجه للقبلة بطريقة سلبية على العمران والبنيان، فإننا يجب أن نرجع إلى بعض الدراسات البحثية الحديثة والتي يمكن أن توضح هذه الجوانب السلبية.

ففي دراسة حديثة أجريت على ثمانية عشر مسجدًا في مدينة “مومباي” بالهند، وجد أنه نتيجة عدم توجيه وتخطيط شوارع المدينة للقبلة، فإن هذا أدى إلى انحراف مدخل هذه المساجد عن حائط القبلة بعدة درجات تتراوح ما بين 2 درجة و180 درجة.

إن الدراسة السابقة لا تمثل حالة خاصة بمدينة “مومباي” بالهند، لأنه بالنظر إلى المخططات العمرانية الحديثة في العالم الإسلامي، يلاحظ في كثير من الأحيان تعارض اتجاه حائط القبلة مع باقي أضلاع قطعة الأرض المخصصة له، والتي تعتبر جزءًا من المخطط الشبكي للمدينة ككل، وهو أسلوب تخطيطي يختلف عن التخطيط المتضام الذي كان متبعًا في المدن الإسلامية القديمة، وهذه الحالة تنطبق مع العديد من المساجد في الأحياء الحديثة من مدن العالم الإسلامي.

إن الدارس لنمط عمران العديد من المدن الإسلامية قديمًا، يجد أنه بمجرد بناء المسجد وتوجيهه إلى مكة المكرمة حيث القبلة، فإن كل الشوارع والمباني المحيطة به تأخذ نفس الاتجاه، ومثال ذلك المسجد الأموي في دمشق

ويظهر الأثر السلبي لظاهرة عدم توجيه شوارع ومباني المدن الإسلامية لاتجاه القبلة بصورة أكبر في المساجد صغيرة المساحة أو المخصصة لأداء الصلوات اليومية، حيث إن تعارض اتجاه حائط القبلة مع باقي أضلاع قطعة الأرض المخصصة للمسجد، تؤدي إلى عدم تعامد الحائطين الجانبيين على حائط القبلة، مما يفقد المصلي داخل هذه المساجد الإحساس باتجاه القبلة، كما يؤثر على شكل الفراغ الداخلي لقاعة الصلاة غير المنتظمة الأضلاع، كما يؤدي في غالب الأحيان إلى قصر الصفوف الأولى للمصلين الأقرب إلى جدار القبلة، مقارنة ببعض الصفوف الأخرى الأبعد عن جدار القبلة.

وما ينطبق على المساجد ينطبق على باقي مباني المدن المعاصرة، ولكن بصورة ربما تكون أكثر سلبية، حيث لا يمكن التعرف على اتجاه القبلة داخل هذه المباني إلا بشق الأنفس، وفي بعض الأحيان بأساليب يغلب عليها عدم الدقة.. وعانى الكثير من المسلمين إذا أراد الصلاة في بيته أو في غيره من المباني العامة الأخرى من تعارض أسلوب فرش الأثاث الداخلي مع وضع سجادة الصلاة جهة القبلة، كما أن عدم توجيه بيوت ومباني المسلمين جهة القبلة، جعلت المسلمين في بيوتهم ومبانيهم العامة، يفقدون ميزة التوجه للقبلة أثناء الدعاء خارج الصلاة، أو قراءة القرآن الكريم، أو تلقي دروس العلم النافع وما شابه.

الخلاصة

إن الدارس لنمط عمران العديد من المدن الإسلامية قديمًا، يجد أنه بمجرد بناء المسجد وتوجيهه إلى مكة المكرمة حيث القبلة، فإن كل الشوارع والمباني المحيطة به تأخذ نفس الاتجاه، ومثال ذلك المسجد الأموي في دمشق وما حوله من شوارع ومباني، ومسجد عقبة بن نافع بالقيروان في تونس وغيرها.

إن العودة إلى توجيه المدن والمباني في المدن الإسلامية المعاصرة إلى القبلة، هو عودة إلى الأصل، حيث كانت المدينة كلها بمساجدها وأغلب شوارعها ومبانيها تتجه إلى القبلة، لذلك استحقت تلك المدن أن يطلق عليها مسمى “المدن الساجدة”، حيث يسجد الإنسان والعمران خضوعًا لله ولشرعه وشريعته.

 (*) كلية الآثار،جامعة القاهرة / مصر.