وحيد القرن يروي قصته

مرحبًا عزيزي الإنسان.. أرجو أن تُعيرني القليل من الوقت لأحدّثك عن نفسي أنا أيضًا كإخواني من الحيوانات الذين قاموا بتعريف أنفسهم إليك سابقًا. اسمي “وحيد القَرْن”، وتسمّونني أيضًا بـ”الكرْكَدَن”، وأنا أحد أضخم الحيوانات على سطح الأرض؛ حيث أحتل المرتبة الثالثة من حيث الحجم والوزن بعد الفيل وفرس النهر، وآتي بعد الزرافة والفيل مباشرة من حيث الطول. أَبرز علامةٍ تميّزني عن باقي الحيوانات هي “قَرْني” المُثبَّتْ على أنفي. أبلغ من الوزن طنَّين، ومن الطول 420 سم، كما يتراوح وزن بعض أنواعنا كوحيد القرن الأبيض (Ceratotherium Simum) ما بين 3-4 أطنان، وهم بذلك يفوقون وزن فرس النهر. ولكن على الرغم من وزني الثقيل وجسمي الكبير، أستطيع أن أَجْري -ولو لفترة قصيرة- بسرعة 50 كم في الساعة.
وا أسفاه على بعضكم.. ليت شعري أيّ شيء تجدونه في قَرْني حتى تقتلونني للحصول عليه؟ هل هو الاعتقاد الذي ورثتموه من الطب الصيني القديم الذي يرى أن في قرني دواء شافيًا يقضي على كل العِلَل، أو قوة عظيمة وترفع من شأن كل المِلَل!؟ أم أنه أنسبُ قرنٍ لصناعة المجوهرات!؟ حَرامٌ عليكم.. تستحلّون قتلَ حيوان ضخم مثلي من أجل قرن صغير.. ثم تدفعون آلاف الدولارات من أجل خرافة لا تسمن ولا تغني من جوع! أَتتركون ما خلق الله لكم من أسباب للعلل والأمراض؟ أَتنسون ما أخرج لكم من الأحجار الكريمة لتصنعوا منها مجوهراتكم؟ إن قرني الذي تلهثون وراءه لم يكن حتى عَظْمًا، إنما هو مصنوع من “الكِيراتِين” الذي يتكوّن منه الشعر والأظفار!

السعي وراء قرني

لقد أشرفتُ مع إخواني الآخرين على الانقراض بسبب صيدكم الجائر للحصول على قروننا. هذا الصيد الجائر، أَجْبَرنا على العيش في مناطق ضيقة جدًّا وتحت الحماية والمراقبة. فأنواعنا الخمسة التي تحاول البقاء على قيد الحياة اليوم هي وحيد القرن (Rhinoceros Unicornis) الذي يعيش في الهند، ووحيد القرن (Rhinoceros Sondaicus) الذي يعيش في “جاوة”، وهما من الأنواع الباقية من فصيلة وأحادي القرن. أما الأخرى فتنتسب إلى فصيلة ذات القرنين، وهي وحيد القرن الأبيض (Ceratotherium Simum) ووحيد القرن الأسود (Diceros Bicornis) اللذان يعيشان في إفريقيا، ووحيد القرن السُّومطري (Dicerorhinus Sumatrensis) الذي يعيش في سومطرا. وإن في هذه الأنواع الثلاثة الأخيرة، يكون القرن الأمامي أطول من القرن الخلفي؛ إذ يبلغ القرن الأمامي عند وحيد القرن الأبيض 158 سم، وعند وحيد القرن الهندي أي وحيد القرن المُدَرَّع 60 سم، وعند وحيد القرن الأسود 135 سم.

النظر الضعيف

نظرُنا نحن وحيدي القرن قصير جدًّا؛ حيث إنْ ابتعدتم عني بـ30 مترًا فلا أستطيع رؤيتَكم أبدًا. لأن عينَيّ وُضعتْ بطريقة تختلف عن طريقة عيونكم؛ أي وُضعتْ عينٌ على يمين رأسي وعين على يساره، وهذا يعني أن ما تراه عيني اليمنى لا تراه اليسرى، وما تراه اليسرى لا تراه اليمنى، فكل عينٍ تتمتع بمنظر يختلف عن الآخر، لذلك يتعذّر عليّ -بادئ الأمر- رؤية الأشياء بأبعادها الثلاثة، لذا عندما ترى عيني الواحدة شيئًا، سرعان ما يقوم الدماغ بتسجليه لفترة قصيرة، فأدير رأسي بسرعة لأرى الشيء نفسه بعيني الأخرى قبل أن تنمحي الصورة الأولى، فتتداخل الصورتان في الدماغ فتشكّل الصورة بأبعادها الثلاثة، عندئذ أتمكّن من رؤية الأشياء بأبعادها مثلما ترونها أنتم.

شمٌّ قوي وسمعٌ حاد

أتمتع بحاسة شمّ وسمع قويّتين جدًّا.. لقد خُلِقتْ آذاني على شكل قمعٍ أستطيع من خلالها أن أسمع أضعف الأصوات.. وقد أتمكّن من الحصول على أفضل المعلومات عن محيطي، عن طريق حاسة الشم القوية لدي، لأن شعيرات الشم (Epitelin) الممتدة في فتحات أنفي الملتوية، أوسع بكثير من مركز الشم الموجود في دماغي. وبفضل هاتين الحاسّتَين القويتين (الشم والسمع) أكون قد عوّضتُ قِصرَ نظري. لذا، لا يسعني في هذا المقام، إلا أن أحمد الله القدير الذي أوجدني بهذه الجثة الكبيرة، وجهّزني بأفضل ما يناسبني من أعضاء.
أنتم البشر تضعونني بين الحيوانات الصاخبة، هذا صحيح، لأننا نقوم بعملية التواصل فيما بيننا عبر أصوات مختلفة، وهذه الميزة قلما توجد عند الحيوانات الأخرى. نقوم بإصدار الخوار الشبيه بخوار البَقَر أثناء رعاية صغارنا لتحديد تخوم المنطقة التي نعيش عليها، ونقوم بإصدار صوت يشبه زئير الأسد للدفاع عن أنفسنا، ونقوم بإصدار أنين يشبه الفُواق الخفيف لدعوة إناثنا.
إننا نتمتع بهيكل عظمي قوي قادر على حمل جثتنا الضخمة، كما أن أرجلنا الضخمة ذات القاعدة العريضة، مهيأة لحمل ما يتراوح بين 3-5 أطنان، ولو لم تكن أرجلي مزوَّدة بهذه القاعدة العريضة، لغُصْتُ في الأراض الطرية الليّنة ولَمَا استطعتُ التحرك أبدًا.

الغذاء النباتي

طعامنا كله من النبات، إذ نأكل الأوراق الخضراء والأعشاب الطويلة. فنحن مضطرون لاستهلاك الأوراق الليفية الطرية من النباتات التي تحتوي على كمية من الماء. وقد يبلغ وزن النباتات الخضراء هذه في معدة وحيد القرن الأبيض حوالي 70-75 كغ، مما يشكّل 4-5% من وزنه الإجمالي. ولتلبية طاقة جسمي، ولعملِ الجهاز العضمي بكفاءة أكبر، تم وضع بكتيريا في أمعائي لهضم السليلوز (مادة مكوِّنة للخلايا النباتية) بكثافة، الأمر الذي يمكّنني من الحصول على كمية كافية من غذاء النباتات الخضراء.
بعض أنواعنا لا يملك أسنان الطواحن، وبعضنا الآخر لا يملك القواطع، وإنما قامت مقام هذه القواطع الشفتان التي تم تصميمها بطريقة خاصة وبشكل يناسب كافة طرقِ تناولِ الأغذية. وبفضل امتداد عضلات الشفتين في اتجاهات مختلفة وتكوُّنها من الحُزَم القوية، وبفضل اللواقط الحساسة لجلدي؛ أتمكّن من انتقاء الأعشاب الرفيعة جدًّا واقتطافها بسهولة من بين المواد الأخرى. أما وحيد القرن الآسيوي فلا يملك أنيابًا وإنما أسنانًا قواطعَ فقط، بينما وحيد القرن السومطري له أنياب يستعملها في القتال لا في تناول الطعام. كما أن وحيد القرن الأبيض الإفريقي يستطيع بشفتيه العريضتين أن يقضم باقة كبيرة من العشب ويُنزلها دفعة واحدة إلى معدته. أما شفتيّ الحادتان أنا وحيد القرن الأسود فصُمِّمتْ بشكل يتيح لي التقاط أوراق الأشجار وشجيرات الأدغال والقليل من الأعشاب الجافة، ولكن أحبّ كثيرًا أكْلَ شجرة الأكاسيا والأوراق الحليبية. أما الشفة العليا لوحيد القرن الهندي فصُمِّمتْ بشكل خاص، مما يمكّنه من اقتطاف الأوراق العالية الطرية للأجَمات.

مُغْرَم بالماء

ألتمس العيش في المناطق القريبة من المياه، فأنا مُغْرَمٌ بها. أشرب ما يقارب عن 80 لترًا في اليوم الواحد، وربما أصبر على العطش أربعة أيام أو خمسة. أقضي معظم أوقاتي بين المياه أو غامرًا جسمي في الأوحال، لأنه رغم سماكته فإن جلدي أَجْرد وليس عليه شعرٌ إلا في الأذنين وأطراف الذيل. وعلى الرغم من السماكة هذه، فأن الأوعية الدموية وُضعتْ بشكل قريب من سطح جلدي مما يجعلها تبين بسهولة، وهذا ما يدفع الذّباب إلى التهافت عليّ لتغرس خراطيمها في جلدي فتصل إلى عروق الدم البارزة وتتناول غذاءها بهناء وعافية. هذه الحالة تضيّقني طبعًا، لذا -بإلهام من ربي ورحمة منه- أعتصم بالوحْل، لأن الوحل يشكّل طبقة سميكة عند جفافه فأكون قد مَنعتُ الذباب من أن تلسعني وتزعجني على الدوام.

الحمْلُ والإنجاب

هذا وإن إناث وحيد القرن الهندي، تبدي أولى علامات البلوغ في الخامسة من عمرها، وتحمل حملها الأول في السادسة أو الثامنة، وتتراوح مدة حملها ما بين 16-17 شهرًا. تضع الإناث في البطن الواحد مولودًا واحدًا بسبب ضخامة جسمه ووزنه الذي يصل إلى 65 كغ. يحتاج الحمل الثاني إلى 22 شهرًا على الأقل بعد الولادة الأولى، لأننا نُرضع صغارنا مدة عامين على الأقل. تم إعداد مكوِّنات الحليب بما يتناسب مع احتياجات الصغير؛ فنسبة الماء فيه كنسبته في حليب أمهاتكم أنتم البشر، ولكن نسبة الدسم فيه أقل من حليبكم بـ15 ضعفًا، كما أن نسبة البروتينات في حليبنا تبلغ ثلاثة أضعاف حليب أمهاتكم.

العيش الجماعي

لابد أن أنوه بإحساسٍ غير موجود عند معظم الحيوانات، وهو أن إناثنا على درجة عالية من الحياء قلما نجدها عند الثدييات الأخرى من الحيوانات. حيث تنأى عند اقتراب الولادة بنفسها إلى مكان بعيد عن الأنظار. وعندما تتم الولادة يقوم صغير وحيد القرن الأبيض باتباع أمه عن قربٍ ثلاثةَ أيام، ثم يتبطأ قليلاً ويواصل متابعتها بشكل أبعد من ذي قبل. في نوعنا الهندي تطمئن الأنثى على أحوال صغيرها -من خلال صوته ورائحته- على بعد 800 متر رغم نظرها القصير.
يصل الذكر إلى مرحلة البلوغ في الثامنة من عمره، ولكنه لا يُقدِم على الزواج إلا بعد تأمين منطقته الخاصة به، وبعد سنتين يعلن للجميع أنه صاحب هذه المنطقة وأنه سيعيش فيها مع زوجه. وإذا تم القبول من قِبَل الجميع، عندها يقوم بالزواج.. إذ لا يُسمح في عاداتنا أن تتكوّن العائلة في أراضي الآخرين.
إن صغارنا تبدأ بتناول حشائش المراعي تحت رعاية الأمهات مدة عام أو عامين، وعند اقتراب الولادة الثانية تترك الأم صغيرها لبلوغه مبلغ الاعتماد على نفسه.
القناعة الشائعة أن وحيد القرن يعيش منفردًا، ولكن في بعض الأحيان نقوم بتكوين مجموعات يتراوح عددها من خمسة إلى عشرة مجموعة للعيش على مساحة تبلغ 10-25 كيلومترًا مربعًا، ولكن إن لم توجد كثافة سكنية حولنا فتتسع هذه المساحة إلى 50 كيلومترًا مربعًا. هذا وإننا نحدد بأصواتنا تخوم مناطقنا، حيث يعلن كل واحد منا بصوته الخاص به بأن: “هذه منطقتي، فلا يقربنَّ منها أحد”. وبالتالي تتغير مساحة المنطقة التي أتخذها أنا وحيد القرن الأسود من 3 إلى 90 كيلومترًا مربعًا. إن الإناث تتسامح فيما بينها في تجاوز حدود بعضها البعض، ولكن الذكور فلا مكان للمسامحة أبدًا.
تكون الصراعات بين الذكور قاتلة في أغلب الأحيان، فنسبة الموت نتيجة الصراعات عندنا نحن وحيدي القرن الأسود مرتفعة أكثر من الأنواع الأخرى. فحسب الإحصائيات، يقع 50% من الذكور و30% من الإناث صريعًا نتيجة الضربات القاتلة أو الجروح العميقة، بسبب ذلك نعاني كثيرًا من الحفاظ على التوازن الطبيعي ومن ثم البقاء على قيد الحياة.. إن وحيد القرن الهندي مشاغب وكثيرُ القتال، حتى إنه في بعض الأحيان يهاجم الفيلة! ولكن وحيد القرن الأبيض رغم هدوئه وسكونه، يبدو بجسمه الضخم مروِّعًا وأشد هيبة. إن هذا النوع الأخير، يميِّز نوعه من لونه ثم يقوم بالعيش على شكل مجموعات كبيرة من أجل رعاية وحماية صغاره.
وكما حدّثتُكم في البداية، فإن جنسي أوشك على الانقراض بسبب الصيد الجائر الذي يقوم به بعضكم للحصول على قرني. علمًا بأن نسبة عددي أنا وحيد القرن الأسود انخفضت ما بين عامي 1970-1990 من 100 ألف إلى 3 آلاف، وإذا استمرت الحالة على هذا الشكل، فسننقرض كلنا ونغيب عن ميدان الحياة بالمرة. لذا، لا نملك إلا الدعاء إلى الله تعالى بأن يُلَيِّن قلوب هؤلاء الصيادين القاسية، ليلجموا رغباتهم ويمتنعوا عن السعي وراء قرني. لا سبيل لخلاصنا من هذا الانقراض، إلا بإنسان يملك قلبًا رحيمًا يشفق على كل ما في الطبيعة من إنسان وحيوان ونبات وجماد… كما نسأل المولى العلي القدير أن يرزقنا رؤية هذا الإنسان المثالي الذي سيسعى إلى نشر الخير والسلام في كل أرجاء العالم، قبل انقراضنا وغيابنا عن سطح الكرة الأرضية ومفارقتنا الحياة.

(*) جامعة 9 أيلول / تركيا. الترجمة عن التركية: مصطفى حمزة.