هل نحن في حاجة إلى إعادة تعريف الجامعة؟

إن مصطلح “الجامعة” كما هو في التراث الغربي مترجم إلى العربية (Université)،

يعني “مؤسَّسة مرتبطة بالكنيسة في القرون الوسطى، وكانت مهمَّتها ضمان التعليم في المستويين الثانوي والعالي”.

ثم صارت تعرَّف بأنها “مؤسَّسة شعبية رسمية للتعليم العالي والبحث العلمي، متميِّزة بنوع من الحرية والقُدرة على التمكين من شهادات ذات صفة وطنية”(1).

أمَّا موسوعة “ويكيبيديا” الإلكترونية، فتعرِّف الجامعات بما يشبه التعريف السابق، وهي “مؤسَّسات للتعليم العالي والأبحاث، تعطي شهادات أو إجازات أكاديمية لخرّيجيها. وتوفِّر دراسة من المستوى الثالث والرابع؛ كاستكمال للدراسة الابتدائية والثانوية. وكلمة جامعة مشتقَّة من كلمة الجمع والاجتماع، ففيها يجتمع الناس للعلم”.

غير أن مثل هذه التعاريف الكلاسيكية لا تلائم طبيعة البحث العلمي المتغيرة، ولا المحيط السياسي والفكري والعلمي المتطور بسرعة فائقة في عصر ما بعد ثورة المعلومات. ولذا رأينا أن من أفضل التعاريف للجامعة، في ظل ما سبق من مقدمات ومفاهيم هو: “الجامعة فضاء يجمع طائفة من الباحثين، لهم الحرية الكاملة لمباشرة البحث العلمي في أي مجال معرفي كان”(2).

وهي في تعريف آخر “فضاء يأوي طائفة من الباحثين، يتقاسمون فيما بينهم ما يتعلمونه مباشرة”.دون اعتبار للشكل الرسمي، ولا للشهادة التي تقدم، ولا للجانب القانوني؛ فكل هذه الأمور شكلية حتى وإن وُجدت في مؤسسة ترقى بها بالضرورة إلى مستوى الجامعة، إلا إذا كان المحتوى بحثيًّا حقيقيًّا، فكم من مركز للبحوث -صغير الحجم، قليل العدد- يُنتج من المعارف ما لا تنتجه جامعات كبرى.

ونضيف إلى هذا التعريف ضرورة أن تكون الجامعة مجالاً خِصبًا لإيجاد الحلول المناسبة للإشكالات التي تعترض المجتمع في جميع مجالات حياتها، بمنهجية علميّة، وباجتهاد ودراية.

كما نضيف إليه وجوب أن تؤسس الجامعة على أسس “الرؤية الكونية” و”النموذج المعرفي” للمجتمع الذي تنشأ فيه؛ حتى لا تكون -في حال مجتمعنا الإسلامي مثلاً- غريبة غربية، مستوردة على شاكلة المواد الغذائية المعلّبة، نمطية على صورة المرجعية الغربية المحورية(3).

ونخلص مما تقدّم إلى أن الجامعة “فضاء حرّ يمارَس فيه البحث العلمي، ويتقاسم فيه الباحثون معارفهم وهي المحيط الذي يدرس إشكالات المجتمع الأصيلة في جميع المجالات، ويعمل على صياغة حلول علمية عملية لها من منطلقاتهم المعرفية المتحيزة، فهو بالتالي آلة لتغيير المجتمعات نحو الأفضل”.

وبالنظر إلى علاقة الجامعة والبحث العلمي بالكتاب والوثيقة والمصدر -أي دلالة الجامعة باعتبار مكتبتها- فإن بعض التعاريف تعتبر الجامعة مكتبة مواتية لا غير، فإذا حقَّقت هذا الشرط كانت جامعة محترمة، وإذا لم تحقِّقه لم تعدَّ ضمن الجامعات الحقيقية. يقول “فلاديمير نابوكوف” (Vladimir Nabokov): “مكتبة من الطراز العالي بجوار حرم جامعي مريح، هو أفضل مكان للمؤلّف وللمبدع، وللمخترع”.

من هنا كان لزامًا على الجماعات والهيئات، أن تبتعد -قدر المستطاع- عن الشكلية والرسمية، لتوجد ظروفًا ووسائل ومناهج تكون بمثابة الحقل الخصب للتفكير مهما كان حجمها ومهما كانت صفتها. فكم من ناد، أو صالون، أو مقهى خرّج أدباء ومفكّرين ومبدعين… وكم من صرح جامعي يأوي الآلاف من الطلبة والمدرّسين لكنّه خلو من الثمرات والنتائج التي تؤسّس للحضارة والريادة والتمكين.

ولعل شكل “بيت الحكمة” ببغداد، و”دار الحكمة” بالقاهرة، هما الأنموذج الأمثل للجامعة لو استوعبناه وأبدعنا صيغة مكيفة منه.

فتذكر المصادر أن “بيت الحكمة” هي مكتبة شاملة، أنشئت في عصر الخليفة العباسي هارون الرشيد (حكم 786-809م) وابنه عبد الله المأمون (حكم 813-833م)، وأحدث نقلة نوعية في الترجمة تمهيدًا للعصر الذهبي الإسلامي في بداية القرن التاسع الميلادي.

وقد بلغ نشاط “بيت الحكمة” ذروته في عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية فائقة، ووهبه كثيرًا من ماله ووقته، وكان يشرف عليه، ويختار له من بين العلماء المتمكنين من اللغات.

وبذلك كانت “بيت الحكمة” خزانة كتب، ومركز ترجمة وتأليف، ومركزًا للأبحاث ورصد النجوم، وغير ذلك من مجالات العلم والمعرفة. ومن أهم ما ميّزها؛ تعدّد المصادر، والكتب القديمة، والترجمات من اللغات القديمة، والكتب التي ألفت للخلفاء، والكتب التي نُسخت بعناية، مما جعلها مجمعًا علميًّا. وظل هذا الصرح العلمي قائمًا حتى اجتاح المغول بغداد سنة (656هـ-1258م)؛ حيث تم تدمير معظم محتوياته في ذلك الوقت.

أمّا “دار الحكمة”، فتذكر المصادر أنها جامعة أسسها الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله عام (395هـ-1004م)، وأنها حوت (1.600.000) مجلد ضمّت (6500) مخطوطة في الرياضيات و(18.000) مخطوطة في الفلسفة، وكان الدخول إليها والاستنساخ منها والترجمة مجانًا.

يقول المؤرخ أحمد بن علي المقريزي: “إن دار الحكمة في القاهرة، لم تفتح أبوابها للجماهير إلا بعد أن فرشت وزيّنت وزخرفت وعلّقت على جميع أبوابها وممراتها الستائر، وعيّن لها القُوام والخدم، وكان عدد الخزائن فيها أربعين خزانة، تتسع الواحدة منها لنحو ثمانية عشر ألف كتاب، وكانت الرفوف مفتوحة، والكتب في متناول الجميع، ويستطيع الراغب أن يحصل على الكتاب الذي يريده بنفسه ما تيسر له ذلك، فإذا ضل الطريق استعان بأحد المناولين”.

مما تقدم نستنبط أن الجامعة لا ترقى إلى المكانة اللائقة بها، إلا إذا توفرت على عدد من الشروط والمقاييس، أهمها:

•  أن تنطلق من “الرؤية الكونية” و”النموذج المعرفي” للأمة التي تنتمي إليها، أي من عقيدة المجمتع وثوابته وأصوله، وتستفيد مع ذلك بكل التقنيات والآليات التي يمنحها العصر، وتجود بها التكنولوجيا.

•  أن تكون فضاء حرًّا للعلوم والمعارف.

•  أن تحتوي على جميع المصادر والوسائل التي تمكّنها من البحث العلمي الجاد.

•  أن تكون متعددة التخصُّصات، ذلك أن التخصص الواحد قد يقتل الحقيقة العلمية ويضيق الأفق.

•  أن تستجيب لحاجات المجتمع، وتعالج قضاياه، وأن لا تكون جوفاء باردة بعيدة عن اهتماماته.

•  أن تعمل ضمن سياسة الأمة، وبالتنسيق مع الحاكم؛ يمدّها بالعناية دون شروط، وتمدّه بالنصح والبحث العلمي وبالإجابات على إشكالاته، دون تملق ولا نفاق.

(*) مدير معهد المناهج، الجزائر العاصمة / الجزائر.

الهوامش

(1) موسوعة Encarta، النسخة الفرنسية الإلكترونية.

(2) Laszlo: Les université Américaines.

(3) وانظر: المسيري: دراسات معرفية في الحداثة الغربية.