نقد الموروث الديني..الحكمة قبل الفكرة

لم تنهض أمة من الأمم قبل أن تنقد موروثها الثقافي كله؛ وعلى رأسه الموروث الديني، لأن الموروث الديني يلعب الدور الأخطر في تشكيل الوعي الجمعي للمجتمع، وتحديد معايير ثقافته؛ بما فيها كل منظومة القيم التي تحدد المقبول والمرفوض، والجيد والرديء، والأخلاقي وغير الأخلاقي، والتقدم والتخلف، والنهضة والركود.. إلخ.

الموروث الديني هو المفتاح الأساسي؛ بل قد يكون المفتاح الوحيد عند بعض الشعوب للدخول نحو المستقبل أو إغلاق الباب دونه.

والنقد في معناه الدقيق مشتق من تمييز النقود، وبيان الصحيح منها والمغشوش، وتحديد أيها يعتبر عملة شرعية وصالحة، وأيها يعتبر عملة مزيفة وفاسدة، ولذلك النقد يكون هادفًا إلى فرز وبيان الأفكار الجيدة من الأفكار الرديئة، بحيث يتم وضع يد المجتمع على القيم والمعايير، والأفكار الصالحة والصحيحة فيتعلمها ويطبقها، وكذلك بيان الأفكار الميتة فيتجاهلها ويتركها، والأفكار القاتلة أو المميتة فيتجنبها، ويبتعد عنها، ويعزلها، وقد كتب المفكر الجزائري المرحوم “مالك بن نبي” كثيرًا عن الضرر الذي تسببه الأفكار الميتة في المجتمع، والخطر الشديد لاستهلاك الأفكار المميتة أو القاتلة.

لم تنهض أمة من الأمم قبل أن تنقد موروثها الثقافي كله؛ وعلى رأسه الموروث الديني، لأن الموروث الديني يلعب الدور الأخطر في تشكيل الوعي الجمعي للمجتمع

في أوائل تسعينيات القرن الماضي، أي منذ ما يقارب العشرين عاماً درستُ تجربة التنمية في كوريا الجنوبية في عهد الجنرال “بارك”، الذي انطلقت على يديه تجربة التنمية في هذا البلد؛ الذي كان يعيش آثار حرب قُتل فيها خمسة ملايين من الكوريتين، ودمرت فيها البنية التحتية بصورة كامل.

وقد تجلت في هذه التجربة الحكمة في أجمل صورها، فالموروث الثقافي والديني الكوري، يشتمل على ثلاثة مصادر هي: التراث البوذي بكل حمولته الدينية والثقافية، والثقافة التي غرسها المستعمر الياباني في الشعب الكوري، والثقافة الأمريكية وديانتها المسيحية التي جاءت مع المهيمن الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية.

موروث ديني وثقافي معقد، ومربك لأي شعب، لأنه يشتمل على كل المتناقضات، فماذا فعل الجنرال “بارك”؟ وكيف واجه هذه الحالة المعقدة؟

قام الجنرال بارك بتشكيل لجنة وطنية من أفضل المفكرين والمثقفين الكوريين الجنوبيين، أطلق عليها لجنة “المصفاة الثقافية”، ولم ينشغل المفكرون والمثقفون في هذه اللجنة بنقد المستعمر الياباني وصب اللعنات عليه، وكذلك لم يشغلوا أنفسهم بمدح التنوير الأمريكي، والحداثة الغربية، وفوق كل ذلك لم يكيلوا الاتهامات لتاريخهم، ولا لديانتهم البوذية، ولم يقوموا بعملية نقد للأفكار البوذية، ولم يتهموا مفكريهم التاريخيين بالجهل أو الانغلاق.. إلخ.

الموروث الديني هو المفتاح الأساسي؛ بل قد يكون المفتاح الوحيد عند بعض الشعوب للدخول نحو المستقبل أو إغلاق الباب دونه

كل ما فعلوه أنهم لم يشغلوا أنفسهم بمصدر الأفكار، أو من أين جاءت الأفكار، أو من صاحب هذه الأفكار، وإنما انشغلوا بالحكمة من وراء وجود هذه الأفكار، والحكمة من تعليمها، أو الحفاظ عليها، أو نشرها. كانت الحكمة وليس الفكرة هي جوهر اهتمامهم، ومحط نظرهم، وغاية وظيفتهم.

خلصت لجنة “المصفاة الثقافية” إلى أن كل الأفكار والقيم الموجودة في المجتمع الكوري في بداية ستينيات القرن الماضي، أياً كان مصدرها: بوذي أو ياباني أو أمريكي؛ لابد أن يتم النظر في وظيفتها في المجتمع، وتأثيرها على الفرد، ودورها في صناعة المستقبل، وما تقدمه لإطلاق عملية تنمية وإنتاج وابتكار تنقل كوريا إلى مصاف الدول المتقدمة.

وهنا خلصوا إلى أن كل هذه الأفكار والقيم تنقسم إلى ثلاث فئات هي:

أولاً: القيم والأفكار الوظيفية، أي التي تسهم في صناعة إنسان عصري، محافظ على هويته، قادر على التعامل بإيجابية مع الحضارة الحديثة، وقادر على التعلم والابتكار، والإنتاج والإضافة إلى مجتمعه، والمساهمة الإيجابية مع باقي المجتمع، التعايش الفعال مع جيرانه وأقرانه.. إلخ.

إن التعامل مع الموروث الثقافي والديني يحتاج إلى مزيد من الحكمة، وليس فقط مجرد بث أفكار جديدة؛ بصورة قد تؤدي إلى مزيد من التمسك بالأفكار الميتة، أو القاتلة إذا تم التعامل معها بصورة تفتقد الحكمة

ثانياً: القيم والأفكار غير الوظيفية، أي التي تعيق الإنسان عن تحقيق كل ما جاء في الفئة السابقة، أي تدفعه إلى السلبية، والانغلاق، والتعصب، ورفض الآخر، وعدم التعاطي الإيجابي مع العصر، ومع الحداثة بحجة المحافظة على الهوية والذات، وبذلك تنتج هذه القيم والأفكار إنسانًا سلبيًّا معيقًا للتقدم والتنمية في أفضل الأحوال، ومدمرًا لها في أسوأها.

ثالثًا: القيم والأفكار المختلطة، أو ذات الوجهين، وهي تلك التي تشتمل على جوانب وظيفية، وجوانب غير وظيفية، وذلك مثل قيمة “احترام الكبير”، فهي قيمة وظيفية لأنها تحافظ على تماسك المجتمع، وتعاونه واحترام أعضائه بعضهم بعضًا، ولكن لها أبعادًا سلبية أهمها: الجمود الإداري، وعدم الابتكار، وعدم المنافسة، وانعدام الدافع للإنجاز.

وكان القرار الكوري هو أن يتم دمج القيم والأفكار الوظيفية في مناهج التعليم، وفي الصناعات الثقافية مثل السينما والمسرح والأغاني.. إلخ، وفي الإعلام والأدب، وكل وسائل صنع الثقافة، أما القيم غير الوظيفية، فيتم تجاهلها وعدم التعرض لها؛ حتى تزول من الثقافة المجتمعية تمامًا، لأن نقدها ولعنها، وصب الغضب عليها سوف يبقيها حية، ويعيد إنتاجها، لأنها ستجد لها بين الشعب من يميل نفسيًّا وعقليًّا لها، لذلك الحكمة تقول أن يتم تجاهلها تمامًا.

أما القيم ذات الوجهين أو المختلطة، فيتم التركيز على الأبعاد الإيجابية فيها، ويتم تجاهل الأبعاد السلبية، حتى لا يعرف المجتمع منها إلا الجانب الإيجابي، ومع مرور الزمن تصبح قيمًا وأفكارًا وظيفية بصورة كاملة.. وهكذا تم بناء النظام التعليمي والثقافي الكوري الجنوبي.. وهكذا انطلقت كوريا الجنوبية.

تعلمنا التجربة الكورية أن التعامل مع الموروث الثقافي والديني يحتاج إلى مزيد من الحكمة، وليس فقط مجرد بث أفكار جديدة؛ بصورة قد تؤدي إلى مزيد من التمسك بالأفكار الميتة، أو القاتلة إذا تم التعامل معها بصورة تفتقد الحكمة.

بقلم: د.ناصر محمد عارف

المصدر: العين الإخبارية