كان يسير في مركبته بعكس الاتجاه، ويشاهد أرتال السيارات إلى جواره ماضية في طريقها. وحين التقط صوت الجهاز اللاسلكي يقول فيه أحد رجال المرور للآخر: “هنا سيارة تسير عكس الاتجاه”، جعل يقلّب رأسه ويتأفف قائلا: “ليتها سيارة واحدة، كل السيارات سائرة عكس الاتجاه”.
حين حكيتُ هذه الطرفة لابنتي، عززتها بقصة الرجل الذي اشتكى للطبيب أنّ زوجته ضعيفة السمع. فطلب إليه الدكتور أن يخاطبها من بعيد، ثم يقترب شيئًا فشيئًا حتى يعرف مقدار الضعف في سمعها.

النقد ليس تشفيًا ولا تصفية حساب، لكنه طريق إلى الفهم والإصلاح والتدارك. وحين نكون مخلصين فيه، سندرك أن الحق هو أن نبدأ بأنفسنا ولا نجعلها استثناء، ولا نتعالى عن هذا الواقع وكأننا أوصياء عليه من خارجه.

خاطبها سائلا عن وجبة العشاء ولم يظفر بجواب، فاقترب وخاطبها أخرى فثالثة… وأخيرًا وقف على رأسها وسألها عن وجبة العشاء فردت قائلة: “خمس مرات أقول لك: دجاج بالفرن”، لم يخطر في باله أن الضعف في أذنه هو!
حين يتصل بك صديق ويحدث تشويش في الخط، يتصرف تلقائيًّا وكأن الخلل في جهازك، أو المشكلة في الأبراج القريبة منك. ولا شك أننا سنكون سعداء حين نشرح معاناتنا لأحد، فيبدأ في التعاطف معنا وإلقاء اللوم على الآخرين، بينما نعدّ من الخذلان أن يحاول تمرير رسالة هادئة مفادها أننا -ربما- نتحمل بعض المسؤولية، وأن الحل يبدأ من عندنا؛ وحتى حينما يتلو علينا القرآن: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾(آل عمران:165)، سنقوم بإيضاح المعنى بأن الخلل في الناس الذين يشتركون معنا في الانتساب للإسلام أو للوطن، وليس معناه أننا شخصيًّا شركاء في التبعة والمسؤولية.

يطرب الناس لمتحدث أو كاتب يهاجم الخصوم والأعداء، ويشتمهم ويفضح ألاعيبهم وخططهم وهو محق فعلًا. فمن شأن العداوة أن تفرز مثل هذه الخطط والحيل والألاعيب.
لكننا سنشيح بوجوهنا ونتمعر ونزمُّ شفاهنا، حين نجد الصوت يتعالى في نقد ممارساتنا، أو تحليل شخصياتنا، أو تفنيد بعض عاداتنا السيئة المستحكمة التي أصبحت جزءًا رئيسًا في طرائق تفكيرنا وسلوكنا الفردي، وتعاملنا الأسري، ونظامنا الاجتماعي.
سنسير خطوات يسيرة، ونتجرع رشفة مُرّة ونتظاهر بالروح الرياضية، ونعلن أننا نقبل النقد بصدر رحبٍ، وأن الذي ينتقدنا خير من الذي يمدحنا.. لننكفئ بعد ذلك، ونلتف على الموضوع، مستنكرين حالة الإفراط في النقد، وأننا أصبحنا “نجلد” ذواتنا!..
مصطلح “جلد الذات” صحيح، ولكننا نستخدمه أحيانًا في غير محله، نستخدمه لتعثير المشرط الذي يتخلل جراحنا، ويضعنا أمام أخطائنا وعيوبنا وجهًا لوجه.
الذي ينتقد الأعداء يتحدث عن قضية مشتركة مُجمَعٍ عليها. فالجميع يصفق له ويثني عليه، لأنه يتحدث في منطقة آمنة لا خوف فيها، ولكن ربما أفرط وبالغ حين صوّر إخفاقاتنا وكأنها من صنع أعدائنا ولا يد لنا فيها.
أما الذي يكشف عيوبنا أو يحاول -ولو لم يحالفه التوفيق- فهو يضع يده على موطن العلة. وما كانت سهام الأعداء لتضرنا لولا أننا أتينا من قبَل أنفسنا، واللّٰه تعالى يقول: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّٰهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾(آل عمران:120).
الواقع الذي نعيشه أفرادًا وأسرًا وجماعات ومجتمعات وحكومات، هو الشيء الذي نعبّر عنه بـ”التخلّف”، فلماذا نتلبسه ونتشربه ونتعصب له ونحامي دونه، ونعتبر أن من يريد فصلنا عنه مؤذيًا وجارحًا ومتهجمًا؟!
دعني أقول.. ما الذي يجعلنا أحيانًا نقول نقدًا كهذا، ونهاجم أمراضنا وعللنا بقوة وشجاعة، ثم ننصرف وكأننا لسنا جزءًا من هذا الواقع المنقود.. هل نقدي يعني أنني بمنجاة ومعزل عن هذه الآثام الشائعة؟ عليّ حين أنتقد، أنْ أدرك أن النقد يتجه إليّ شخصيًّا مثلما يتجه للآخرين، وإلا فسيكون بغير معنى إذا كانت محصّلته أنني أنتقد لأثبت تفوقي على الآخرين وسلامتي من معاطبهم.
النقد ليس تشفيًا ولا تصفية حساب، لكنه طريق إلى الفهم والإصلاح والتدارك. وحين نكون مخلصين فيه، سندرك أن الحق هو أن نبدأ بأنفسنا ولا نجعلها استثناء، ولا نتعالى عن هذا الواقع وكأننا أوصياء عليه من خارجه: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾(فصلت:35).