نعمة المياه بمعايير المقاصد الشرعية

الماء من أعظم النعم التي أسبغها الله سبحانه وتعالى على خلقه. ومن هذه النعمة خرجت كل أنواع الحياة البشرية والحيوانية والنباتية، ولا بقاء لأي من هذه الحيوات دون الماء. وتحفل آياتُ القرآن الكريم بكثير التوجيهات والمبادئ والقواعد التي تدعو إلى حسن التعامل مع الماء باعتباره نعمة إلهية، وتحض على تقديرها حق قدرها، وتحذر من تعريضها للفساد أو للهدر أو للتلوث. وتحفل الأحاديث النبوية الشريفة، وتحفل مصادر تراثنا الفقهي العريق بتلك التوجيهات أيضًا. وتبشر هذه التوجيهات الذين يحسنون استخدام الماء بالحياة الطيبة في الدنيا، وبالثواب الجزيل والأجر العظيم يوم الحساب، وتتوعد الذين يسيئون استخدامه بالعقاب وسوء المصير؛ إذ إن العدوان على الماء هو عدوان على الحياة ذاتها، وقد يكون فيه إزهاق للأنفس والأرواح، وتضييع لمقصد أو أكثر من مقاصد الشريعة.
في القرآن الكريم ورد الكلام عن الماء ومعانيه وأنواعه وأوعيته ومجاريه واستخداماته المتعددة في خمسمائة آية. فكلمة “ماء” وردت ثلاثًا وستين مرة، وكلمة “نهر” و”أنهار” وردتا اثنتين وخمسين مرة. وكذلك وردت كلمات مثل “العيون” و”الينابيع” و”المطر” و”البرد” و”الغيوم” و”الرياح” عشرات المرات في القرآن الكريم، إلى جانب عديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي اشتملت على توجيهات قيّمة في كيفية التعامل مع المياه والمحافظة عليها وترشيد استخدامها والإفادة منها.
ولارتباط الماء بحق الحياة وحفظ النفس، جعلت الشريعة ملكية الماء عامة، وقررت حق الحصول عليه مجانًا، وكذلك حقوق الانتفاع به لكل المستفيدين به دون تمييز بينهم. وحرمت الشريعة أيضًا احتكار الماء، ونهت عن إفساده
ولعل أوضح الدلائل على القيمة الكبيرة للماء في الإسلام، أن الله تعالى ذكر في كتابه الكريم أن الماء من نعيم الجنة، وأن الحرمان منه نوع من العذاب، قال تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) (الأعراف:50)، ومن ماء السماء ما هو مبارك، قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ)(ق:9). والماءُ هو أصل كل حياة تدب على الأرض، وهو مدعاة للتفكير والتأمل في كيفية الاستفادة مما ينبته من مزروعات وثمار مختلفة المذاق والشكل والرائحة، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:10-11).
وفي مدونات الحديث النبوي نجد -مثلاً- أن البخاري -رحمه الله- قد عنون الجزء الثاني من صحيحه باسم “كتاب الشِرب والمساقاة”، “بابٌ في الشِرب وقول الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء:30)، وقوله جل ذكره: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ)(الواقعة:68-70)”. وعن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من يشتري بئر رُومةَ، فيكونُ دَلوُه فيها كدِلاء المسلمين” فاشتراها عثمان رضي الله عنه (رواه البخاري)، ثم يورد أحاديث الماء وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وتصرفات الصحابة في هذا الموضوع الحيوي.
ولارتباط الماء بحق الحياة وحفظ النفس، جعلت الشريعة ملكية الماء عامة، وقررت حق الحصول عليه مجانًا، وكذلك حقوق الانتفاع به لكل المستفيدين به دون تمييز بينهم. وحرمت الشريعة أيضًا احتكار الماء، ونهت عن إفساده، ومنعت بيعه؛ وذلك عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء والكلإ والنار” (رواه الإمام أحمد). وعملاً بهذا الهدي النبوي، صنَّف الفقهاء “مرفق المياه” ضمن المرافق العامة التي يجب أن تنهض بها الحكومة من حيث حماية المياه وتوفيرها وتنقيتها وتوزيعها توزيعًا عادلاً، على أن يشاركها في القيام بهذه المهمات أبناء المجتمع وبخاصة الموسرين منهم؛ إما بدعم الميزانية المخصصة لهذا المرفق، أو بالمشاركة مباشرة في توفير الماء وفق نظام “الأسبلة” أو “الصهاريج” أو القنوات، أو “الآبار” الموقوفة لوجه الله تعالى لتيسير الحصول عليه للذين يحتاجونه حيثما كانوا.
قواعد فقه المياه بين التراث والواقع
تحفل كتب الفقه الإسلامي بكثير من التفاصيل المتعلقة بتنظيم المياه، وتطهيرها والتطهر بها، وترتيب إجراءات سقي النبات والحيوان والطير، ناهيك عن الإنسان. وتتضمن تلك الكتب -كذلك- أصول المشاركة في منابع المياه، وكيفية حل المنازعات التي قد تنشأ بسبب الخلاف حول أحقية استعمال المياه. وبنظرة كلية على تلك التفاصيل، نجد أن معايير المقاصد العامة للشريعة تشكل رابطًا قويًّا يجمع أجزاءها، ويلمّ شملها باتجاه تحقيق المصالح الجماعية التي يشترك فيها أغلب البشر ويتقاسمون الانتفاع بها.
ومع ما هنالك من ثراء وتنوع في الآراء الفقهية بشأن المياه لدى أئمة مختلف المذاهب ومجتهديها في الأزمنة السابقة؛ إلا أننا لاحظنا تراجع فقه المياه في كتابات الفقهاء المعاصرين، وكذلك في أعمال المجامع الفقهية بصفة عامة، وبلغ هذا التراجع أدنى مستوى له بالاقتصار على مسائل محدودة تتعلق باستعمال المياه في الطهارة (الوضوء-الغسل، النظافة بشكل عام). أما ما سوى ذلك من مشكلات المياه الكبرى ومنها التلوث البيولوجي (الجرثومي والبكتيري)، والإشعاعي (النووي) والكيماوي، وما لهذه الملوثات من تأثيرات سلبية على حياة الإنسان والحيوان والنبات والبيئة وعلى “السلم الأهلي” و”السلام العالمي”، فلا نكاد نجد لأمثال هذه المشكلات أثرًا في كتابات الفقهاء المعاصرين، ولا فتاوى دور الإفتاء، ولا الموسوعات الفقهية، ولا الأعمال الصادرة عن المجامع الفقهية في طول العالم الإسلامي وعرضه. وغابت عن تلك الكتابات المعاصرة كذلك، المشكلات الناجمة عن الأنظمة الحديثة لتوفير وتوزيع المياه والصرف الصحي، واختلال نسب توزيع المياه بين قطاعات الاقتصاد الوطني. وفي رأينا أن هذا الغياب وذاك القصور هو من نتائج “انفصال” الفقه عن المقاصد، وأن هذا الانفصال يسهم في علمنة الحياة الاجتماعية بإقامة حواجز مصطنعة -بوعي أو دون وعي- بين منظومات القواعد الفقهية وكلياتها وضوابطها، وبين معايير المقاصد العامة للشريعة.
إن أغلب الكتابات الفقهية المعاصرة بشأن قضايا المياه، تتجه في أغلبها -كما أسلفنا- نحو ربطها بمسائل العبادات، ولا تكاد تبرحها إلى المسائل الأخرى ذات الصلة بالمعاملات المدنية والتجارية والإدارية والاقتصادية، ناهيك عن المسائل ذات الصلة بالمشكلات السياسية والنزاعات الدولية حول مصادر المياه وقواعد تنظيم استغلال الأنهار الدولية وبناء السدود …إلخ.
ونحن نسلم بأن المياه تسهم بدرجات متباينة في تحقيق “المقاصد العامة للشريعة”، ولا يختلف في ذلك اثنان، سواء كان استخدامها لتلبية المتطلبات المعنوية لهذا الحفظ كاستعمالها في مجال العبادات، أو كان استخدامها لتلبية المتطلبات المادية كما في مجال المعاملات. وهنا سوف أتناول -بإيجاز- ملامح فقه المياه من حيث اتصاله بمقاصد الشريعة في مجال العبادات، مع بيان الصلة بمقصد حفظ النفس على نحو خاص.
فقه المياه في العبادات وحفظ النفس
نجد في كتب الفقه أن “باب الطهارة”، هو أكثر أبواب فقه العبادات تفصيلاً وبيانًا لأحكام استعمال المياه من أجل “التطهر”، والنظافة البدنية/الحسية، كشرط واجب لأداء بعض العبادات وخاصة الصلاة، والحج، أو لأداء فعل مستحب مثل تلاوة القرآن الكريم. ولعل ظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في كثير من مناطق المجتمعات الإسلامية في العصور السابقة، كانت من الأسباب التي دفعت أغلبية الفقهاء للإسهاب في بيان أحكام المياه المتعلقة بأداء العبادات، تحريًا للدقة في توفير شروط صحة العبادة؛ باعتبار أن “الطهور شطر الإيمان” كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. أما اليوم فقد زالت أغلبية الظروف التي أوجبت ذلك الإسهاب، وأضحى من اليسير التحقق من طهارة الماء لدى الأغلبية الساحقة من الناس، حيث تكفلت إدارات الدولة الحديثة بهذه المهمة عبر مؤسسات أو هيئات متخصصة في شؤون المياه وكيفيات معالجتها وتقديمها وفق شروط الصحة والسلامة العامة. وعليه فإن قواعد فقه المياه في العبادات باتت في أغلبها معلومة، وأضحى المطلوب هو أن يتعرف الجمهور العام على هذه القواعد بشكل مجمل، وأن يتعرفوا بشكل تفصيلي على مقاصد استعمال المياه في مسائل العبادات وما هي آداب استعمالها، وما محاذير هذا الاستعمال وكيفية تفادي الأخطار التي قد تصيب الإنسان إذا كانت المياه غير مطابقة لشروط الصحة والسلامة. أما بقية التفاصيل التي قالها قدماء الفقهاء، فلا غناء في أغلبها اليوم من الوجهة التطبيقية أو العملية.
وكم كان المرحوم الشيخ أبو زهرة حكيمًا في جوابه على أحد طلابه في خمسينيات القرن الماضي، عندما سأله عن سبب “شطب باب الطهارة” من دروس الفقه التي كان يلقيها على طلاب كلية الحقوق بجامعة القاهرة آنذاك، قال له رحمه الله: “لأن دورات المياه الحديثة قد تكفلت بهذا الباب”(1).

وفي ضوء ما سبق، فإن الإطار العام الذي يكفي لمعرفة مقاصد فقه المياه في مجال العبادات، يمكن أن يكون كالآتي:
1- إن صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان، وخاصة في استعمال المياه نظرًا لاحتمالات إصابتها بالأوبئة والأمراض الفتاكة.
2- إن أغلب الماء الذي يستعمله الناس في المدن والأرياف في مجتمعاتنا المعاصرة، طاهر في ذاته مطهر لغيره بمسؤولية الهيئات الحكومية المعنية بإدارة وتشغيل مرفق المياه والصرف الصحي، ووجوب خضوعها للرقابة والمساءلة الدورية.
3- وجوب التزام مبدأ الاقتصاد وعدم الإسراف في استعمال الماء لغرض الوضوء، أو أداء العبادات والاحتياجات الدينية عامة. وإذا كان الإسراف في الماء منهي عنه في الوضوء، فإن النهي عنه أشد وأقوى في الاستعمالات الأخرى، باعتبار أن الإسراف من عوامل الخلل في منظومة التوازن البيئي وإهدار مواردها.
4- إن ثمة عدة أنواع من المياه يجوز استخدامها من أجل التطهر لأداء العبادات (ماء المطر-ماء البحر-الماء المتجمع من ذوبان الثلج والبرد-ماء النهر-ماء البئر-ماء العين؛ ما دامت هذه المياه مستوفية للمواصفات الصحية).
5- الاستعاضة بالتيمم في حال تعذر وجود الماء، أو إذا كان شحيحًا لا يكفي إلا لشرب الإنسان أو الحيوان وفق أولويات الاستعمال في الشرب، للمحافظة أولاً على حياة الإنسان ثم الحيوان ثم النبات.

6- ثمة استثناءات لا تنطبق عليها الملاحظات السابقة ومنها: المناطق والمجتمعات التي لم تصلها شبكات المياه والصرف الصحي، وهذه تحتاج إلى توجيهات خاصة حسب ظروف واحتياجات كل منطقة، وحسب ما هو متوافر فيها من مصادر المياه.
7- يخرج الماء عن صلاحية استخدامه للطهارة في مسائل العبادات إذا ثبت تلوثه بملوثات ضارة بالصحة، أو إذا خالطه ما غير لونه أو طعمه أو رائحته.
ولكن ما نلاحظه هو أن الاجتهاد الفقهي الحديث والمعاصر، لم يخرج حتى اليوم عن هذه المعايير الثلاثة التي قال بها الفقه القديم بشأن صلاحية المياه للاستعمال الآدمي بشكل خاص، دون إعمال جدي لمقصد حفظ النفس ومقتضياته في ظل زيادة مخاطر المياه على الصحة العامة. وأغلب آراء قدماء الفقهاء تشير إلى أن علل خروج الماء عن صلاحيته للطهارة أو للاستعمال الآدمي، تتركز في الأضرار الصحية التي قد تترتب على استعمال الماء في حال طرأَ عليه ما يخرجه عن حالته الطبيعية بتغير طعمه أو لونه أو ريحه وكونه -في هذه الحالة- لا يجزئ في الطهارة. ولم يستثن الفقهاء من هذا الحكم العام إلا ما سموه “الماء المقيد”؛ وهو الذي تغيرت أحد أوصافه الثلاثة أو كلها، نتيجة خلطه بمواد مثل اللبن والقهوة والشاي وماء الورد والعنب والرمان …إلخ على ما ذهب إليها الشيخ بن باز في بعض فتاويه مثلاً(2).

وفي ضوء تفاقم مشكلات تلوث المياه وما ينتج عنها من أضرار صحية وبيئية، لم يعد مناسبًا أن يكتفي الفقهاء المعاصرون باستدعاء اجتهادات أسلافهم في هذا الباب. لقد أدى قدماء الفقهاء دورهم فيما ذهبوا إليه، وفيما أداهم إليه اجتهادهم ضمن معطيات أزمانهم وما كان فيها من مشكلات مختلفة. أما الفقهاء المعاصرون ومجامعهم الفقهية فلم يقوموا بدورهم، ونراهم جامدين على اجتهادات أسلافهم دون تبصر إلى مستجدات الواقع وما أنتجه التقدم الصناعي والتكنولوجي من ملوثات هائلة كالإشعاع النووي، أو التلوث الجرثومي أو البكتيري، لا يغير لون أو طعم أو ريح المياه. ولو طبقنا على مثل هذا الماء معايير تغير “اللون والطعم والرائحة”، فلن يقل أحد بعدم جواز استعماله؛ هذا رغم خطورة تلوثه غير المرئي وغير المشموم وغير المتذوق، ورغم أن تلوثه هذا يتسبب في إصابة الإنسان بعديد من الأمراض الفتاكة التي تودي بحياته، أو تتركه عليلاً عاجزًا لفترات طويلة.

لم يتعرض الفقهاء المعاصرون إلى مشكلات تلوث الماء وإصابته بمسببات الأمراض الفتاكة؛ ولا نكاد نجد في كتاباتهم أو دروسهم الفقهية أو المقاصدية مثالاً شارحًا من تلك الملوثات؛ رغم كثرة مصادرها وشيوعها في الواقع الذي يعيشونه. ومن هذه الملوثات: الملوثاتُ الكيماوية، والإشعاعية، والنووية، والبيولوجية، ومياه الأمطار الحمضية. وتأتي هذه الملوثات من مصادر متعددة أهمها: مخلفات الصرف الصناعي، ومخلفات الصرف الصحي، والصرف الزراعي، والمبيدات الكيماوية الزراعية، والنظائر المشعة، والطحالب السامة، والنفط بمشتقاته، والنفايات النووية، وتساقط الغبار الذري في مجاري الأنهار والقنوات، والتسريبات من المفاعلات النووية. وتشير البحوث المتخصصة إلى أن مخاطر التسرب الإشعاعي تتسبب في تلوث المياه لمدد تتراوح بين أيام وشهور قليلة، وتصل إلى آلاف السنين في بعض الحالات؛ منها تلوث المياه بالكربون المشع الذي يستمر 5800 سنة(3).
صحيح أن الفقهاء قرروا قواعد عامة لا تزال صالحة إلى اليوم في التعامل مع المياه، ولكن ثمة مطارحات مطولة بين فقهاء المذاهب بشأن “حكم الماء إذا خالطته نجاسة”نتصور أن أغلبها لم يعد ذا صلة بواقع المياه في واقعنا المعاصر
وفي كثير من حالات التلوث بتلك الملوثات، يظل الماء دون أي تغير في لونه أو طعمه أو ريحه، ولا يمكن اكتشاف تلوثه إلا بأجهزة خاصة وبالغة التطور لا تتوفر إلا في معامل ومختبرات حديثة ومتطورة. وهذا يدعونا أيضًا إلى مناشدة الفقهاء المعاصرين، كي يراجعوا مفهوم “النجاسة” الذي اعتبره قدماء الفقهاء علامة على خروج الماء عن صلاحيته للاستعمال في الطهارة أو في غيرها من الأغراض الآدمية. فنجاسة الماء كانت -ولا تزال- تعني في مفهوم الفقهاء أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه نتيجة اختلاطه بالمستقذرات التي تحدّث عنها قدماء الفقهاء، ولا يزال يرددها الفقهاء المعاصرون دون تعديل أو إضافة، ومنها البول، أو الغائط الآدمي، أو أبوال وأرواث الحيوانات، والدم، وجيفة الميتة كالفأرة، وسؤر بعض الحيوانات كالكلب والخنزير. وفيما عدا ذلك لا نكاد نجد في أبواب فقه المياه -قديمه وحديثه- إشارة إلى مصادر أخرى لتنجيس المياه، وجعلها غير صالحة للاستعمال سواء في الطهارة أو الشرب أو الري أو الصيد، ويجعل إسهام المياه في تحقيق مقاصد الشريعة تحوطه مخاطر كثيرة، منها ما قد يزهق نفس الآدمي، أو يهلك الحيوان والطير والنبات والأحياء المائية، أو يضر البيئة ضررًا لا خلاص منه.
صحيح أن قدماء الفقهاء قرروا قواعد عامة لا تزال صالحة إلى اليوم في التعامل مع المياه، ومنها -مثلاً- تقسيمهم النجاسة إلى عينية وحكمية، ومنها تحريم تنجيس الماء الطاهر على ما جاء مثلاً في “البحر الرائق” قال: “تنجيس الطاهر حرام”، وما جاء في “بدائع الصنائع” من أنه “لا يجوز تنجيس الطاهر من غير ضرورة”. ومنها كذلك ما حكاه غير واحد من الإجماع على أن الماء المتغير بالنجاسة يصير نجسًا(4). ولكن ثمة مطارحات مطولة بين فقهاء المذاهب بشأن “حكم الماء إذا خالطته نجاسة”؛ نتصور أن أغلبها لم يعد ذا صلة بواقع المياه في واقعنا المعاصر. وما يستحق النقد الشديد في هذا السياق، هو أن الأمثال الشارحة التي استخدمها قدماء الفقهاء لبيان أحكام نجاسة المياه -وأشرنا إليها قبل قليل- لا تزال حاضرة إلى اليوم في أبواب فقه المياه دون تجديد يستوعب مصادر تلوث المياه وإخراجها عن طهوريتها. ولا يقع اللوم على قدماء الفقهاء؛ فقد أدوا ما عليهم في ظروف عصرهم، وإنما يقع اللوم على الفقهاء المعاصرين الذين يكتفون باجترار ما قاله أسلافهم، ويتهيبون من تجديد الأمثال الشارحة في دروسهم الفقهية والمقاصدية معًا.
ولا أظن أنه يغيب عن فطنة الفقهاء المعاصرين ولا عن مجامعهم الفقهية قواعد رفع الضرر وتجنبه، ولا يغيب عنهم ما وضعه أسلافهم من قواعد كلية لا تزال صالحة للتصدي لمشكلات المياه وما تحمله من مخاطر على الأنفس والثمرات ومجمل الأحياء والبيئة، ومنها القاعدة المقررة عند الحنابلة والتي تقول: “كلُّ ماء طهور في استعماله ضررٌ فهو في حكم العدم”(5). وأعتقد أن المشكلة هي في الأمثال الشارحة لهذه القاعدة وما شابهها، إذ لا تزال الأمثال الشارحة لها في الدرس الفقهي اليوم، هي نفسها الأمثال الشارحة لها في الدرس الفقهي قبل أكثر من ألف سنة. والمطلوب هو تجديد هذه الأمثال من واقع الراهن وما فيه من مشكلات وتحديات مائية هائلة.
(*) أستاذ العلوم السياسية، جامعة القاهرة / مصر.
الهوامش:
(1) روى لي هذا الخبر أحد الذين عاصروا الشيخ في تلك الفترة في محاولة لي معه يوم 1/5/2014.
(2) انظر مجموع فتاوى الشيخ بن باز على موقع طريق الإسلام.
(3) صاحب الربيعي، تلوث المياه الجوفية، بحث منشور على موقع www.waterexpert.se
(4) منهم الإمام الشافعي، والطحاوي (الحنفي)، والباجي (المالكي)، وابن المنذر من المحدثين.
(5) الكليات الفقهية وحكم التشريع في باب المياه عند الحنابلة، لعبد الله بن مبارك آل سيف، ص:53.