لم تزل عناية الأمة المحمدية بالقرآن الكريم مضرب الأمثال جيلاً بعد جيل من لدنَّ نزوله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم الناس هذا، فهو أعظم ما شغل فيه الإنسان نفسه، وأمضى فيه عمره، تدبر كلام عز وجل، والعيش في كنفه، والاستئناس بمناجاته، والتلذذ بخطابه إذ الاشتغال بتعلم القرآن وتعليمه والبحث عن علومه، ليس كالاشتغال بسائر أصناف العلوم؛ لأنَّ فضل القرآن على سائر العلوم كفضل الله على خلقه.

وقد وضع العلماء كُتباً مُنذ بداية عهد التدوين عند المسلمين مع بداية القرن الأول الهجرى، تتناول مواضيع قرآنية متفرقة فهذا يبين الناسخ والمنسوخ، وآخر المكى والمدنى، والمحكم والمتشابه ونشأت علوم كثيرة للقرآن الكريم، أحصاها الحافظ السيوطى (ت911هـ) في “التحبير” فبلغت مائة علم، وأكثروا من التآليف المتنوعة التى تخدم القرآن في كل زمان ومكان حتى جاء قرننا هذا استخرج علماؤنا منه علوماً جديدة من العلوم الطبية وعلوم الفلك وحركة الأجرام السماوية، وغيرها وهكذا تجده متجدداً ومستمراً في ذلك التجديد وما خفى على من سبق اتضح للذي جاء بعده، وقد حث الموالى سبحانه وتعالى على فهم القرآن وتدبر آياته فقال: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته)(ص: 28)، من أجلِ إدراك أسراره واستيعاب معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه، ولما كان المقصود من دراسة – علوم الشريعة الغراء على الإجمال – إنَّما هو فهم كلام الله عز وجل، لذلك كان علم التفسير من أولى العلوم ذكراً وفكراً وأشرفها منزلة وقدراً، فهو عظيم النَّفع والأثر .

ولا غرو لما كان القرآن بهذا الاعتبار والتقدير، أنْ كان تفسيره أقصى ما تسموا إليه بغية العالم ومن أجل ما تتنافس في حلبة السبق إليه همم الكبراء من أعلام الأمة منذ العهد الباكر من أكابر الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا.

ومن ثمَّ كان القرآن الكريم الفهم السوى السليم لمعرفة مراد الله تعالى من أعزِّ ما يُطلب، وغاية ما يُدرك، ودون ذلك صعاب تلو أخرى؛ لأنَّها تتعلق بالقرآن، وهو الكتاب المعجز الذى اشتمل على الإيجاز والإطناب وعلى الإجمال والتبيين وعلى الإطلاق والتقييد وعلى العموم والخصوص، مما يجعل العملية التفسيرية في حد ذاتها عسيرة إلى حدٍ مَا، أضعف إلى هذا: أنَّ التفسير بصفته شرحاً لكتاب الله بقى عرياً من أى سياج نظرى نقدى له نسقه الذى يحكمه، ومنطقه الذى يقننه ويقعده.

وليس من شك أنَّ هُناك ثوابت منهجية وقواعد وضوابط ذكرها العلماء وتقررت لديهم، هذا ولقد تناثر في قعر ذلك البحر الزاخر من المصنفات التى أنتجتها قرائح العلماء حول القرآن الكريم أنواعٌ من الدر، التى تضبطُ الفهم والنَّظر، عن الميل والشطط، فيلزم من حصلها جادة الصواب، وينفتح على من تصورها أبوابٌ من العلم، لا تخطر لأهل البطالة على بالٍ يحتاج استخراجها إلى غوصٍ وتتبعٍ ومهارة ٍوحذقٍ، كما أنَّ نظمها يتطلب رسوخاً وذوقاً ودقة.

ولا يمكن بحال إغفالها، أو الاستغناء عنها لمن أراد أنْ يفسر كتاب الله عز وجل، ولقد بذل العلماء جهوداً مشكورة وقاموا بمحاولات مضنية من خلالها، لإبراز البلاغة القرآنية في صورةٍ موحية، ذات ظلال، سواء من اتجه منهم إلى تفسيره جامعاً بين المأثور منه والمعقول المقبول إذ لابد من الاعتماد على تلك الأسس والضوابط التى ورثها الخلف من مفسرى الأمة من سلف مفسريها من الصحابة والتابعين، وكان هذا هو الواقع، فأعلام المفسرين الذين تركوا لنا تراثاً ضخماً في تفاسيرهم، قد توافرت فيهم هذه الضوابط، وكانوا مُلمين بها نابغين فيها، والعجب كل العجب أنْ أهل الفن والصناعة، على كثرتهم واختلاف عصورهم لم يولوا هذا الأمر – أعنى علم أصول التفسير وقواعده – عنايةً تجدر به، وهو لها أهل وبصرفها حقيق مع شدة الحاجة إليها، وخطر الخلط في فهمها على الرغم من بعض المحاولات قديماً وحديثاً، شعوراً من أصحابها بالحاجة الملحة لتقعيد قواعد تكون رهن إشارة المفسر تُعينه وتُساعده على صحة الفهم، حتى لا يقع في الخطأ والقول على الله بغير علم، خائفين أنَّ يشملهم الوعيد الشديد الوارد في قول النبى صلى الله عليه وسلم: “من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار”، ومن أجل ذلك توالت الدعوات قديماً وحديثاً من العديد من الباحثين إلى تأسيس قواعد لبيان صحيح التفاسير من باطلها ومقبولها من مردودها، ومستقيمها من منحرفها، ولقد أصاب كثيراً من الحقيقة من قال: العلوم ثلاثة: علمٌ نضج وما احترق؛ وهو علم الأصول والنحو، وعلمٌ لا نضج ولا احترق؛ وهو علم البيان والتفسير، وعلمٌ نضج واحترق؛ وهو علم الفقه والحديث.

إلا أنَّ الأخيرة لا يُوافق عليها، وقد اعتنت الأمة بتلك العلوم تنظيراً وتطبيقاً، فوضعت لها القواعد والضوابط والمناهج والمصطلحات والنماذج والتطبيقات، غير أنَّه من اللافت للانتباه عند المشتغلين بالدراسات القرآنية أن الأمة لم تُنضج العلم الضابط لبيان القرآن الكريم، كما صنعت مع علوم أخرى مثل مصطلح الحديث وأصول الفقه والنحو والبلاغة وغيرها، وقدكان من نتاج ذلك التقصير أنَّ أصبح التفسير ميداناً لمن شاء أن يقول في كتاب الله عز وجل ما شاء، وظهرت أشكال من الشذوذ في الفهم والتكلف في تناول ألفاظ القرآن الكريم ونصوصه حتى قال ابن تيمية في مقدمته: إنَّ الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين والباطل الواضح والحق المبين.

ولقد عبر بعضهم عن هذه القواعد التى يعول المفسر عليها ويرجع في تفسير القرآن إليها بلفظ قانون.

ففى القرن السادس الهجرى ألف الإمام القاضى أبو بكر بن العربى كتاباً قيماً سماه: “قانون التأويل”، وهو وإن كان موضوعه عاماً وغير مختص بتفسير القرآن الكريم، فإنَّه فيه إشارات إلى الأخذ بالقانون للاهتداء إلى المعانى الصحيحة؛ ومنها المعانى المستفادة من نصوص القرآن يقول: إنَّ علماءنا – رحمهم الله – قالوا ليس يمكن بالعقول إدراك كل معقول، بيد أنَّ البارى سبحانه يصطفى من عباده من يُطلعه على العلوم فيصل إلى الخلق بواسطة، وذلك المصطفى؛ منه يكون التعليم، وعنه يؤخذ القانون، وعليه يكون التعويل وبه يتوصل إلى الدليل، ووحى الله هو تبيان لكل شئ وهدى لكل مشكل.

وفى السياق نفسه يقول: إنَّه إذا بلغ – يعنى طالب العلم – مرتبة الإشراف يجدُ من نفسه مُنَّة على درك التفاصيل، حتى إذا تعرض لذلك نالها بالقانون.

وفى ختام حديثه عن دخول الاجتهاد في علوم القرآن الكريم، وبعدما أشار إلى كيفية تأويل أوائل السور، ويقصد منها الحروف المقطعة، قال..: فهذا كله يفتح لك أبواباً من التفسير إلى ما لا يحصى من المعارف، ويعطيك قانوناً في مأخذ التأويل.

وهكذا فقد تكرر إرشاده ونصحه لطالب العلم بأن يأخذ بالقانون لتحصيل ما يريد تحصيله من تفسير لكتاب الله وغيره من أنواع المعارف الأخرى.

وإذا اكتفى القاضى أبو بكر بن العربي بالإشارة إلى ما يخدم التفسير وغيره من القواعد واختصر ذلك في لفظة “قانون”، فإنَّ الإمام سُليمان بن عبد القوي الطوفي البغدادي الحنبلي المتوفى (716هـ) صرَّح بالحاجة الماسة إلى هذا القانون بخصوص تفسير القرآن الكريم قائلاً: إنَّه لم يزل يتلجلج في صدري إشكال علم التفسير وما أطبق عليه أصحاب التفاسير، ولم أجد أحداً منهم كشفه فيما كشفه، ولا نحاه فيما نحاه فتقاضتني النَّفس الطالبة للتحقيق، الناكبة عن جمر الطريق لوضع قانونٍ يعول عليه ويصار في هذا الفن إليه.

وقد نحا نحو هذا الإمام بدر الدين الزركشي المتوفى سنة (794هـ) وهو يتحدث عن الحاجة الملحة إلى ما يحتاجه المفسر ولا يستغنى عنه قائلاً: واعلم أنَّ تفسيره -أى تفسير القرآن- يكون بعضه من قبيل بسط الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها، وبعضه من قبيل ترجيح الاحتمالات على بعض، لبلاغته ولطف معانيه؛ ولهذا لا يستغنى عن قانون عام يعول في تفسيره عليه ويرجع في تفسيره إليه؛ من معرفة مفردات ألفاظه ومركباتها وسياقه، وظاهره وباطنه وغير ذلك مما لا يدخل تحت الوهم، ويدق عن الفهم.

والذي يعول عليه يعول عليه في التفسير ويرجع إليه هو القواعد التي تعين المفسر وتساعده لكى يهتدى إلي المعنى المراد من النَّص القرآنى، ومن المعلوم أنَّ هذه القواعد لم تكن خاصة بالتفسير، وإنَّما وجهت عقول علمائنا في علوم متعددة كالفقه والحديث وغيرهما حتى صار العالم منهم بقدر ما أحاط بالكليات أحاط بالعلم الذى يطلبه واتضحت له مجمل جزئياته، كما قال الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية المتوفى سنة (728هـ): لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية تُرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلمٍ وعدلٍ، ثمَّ يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذبٍ وجهلٍ في الجزئيات، وظلمٍ وجهلٍ في الكليات، فيتولد فسادٌ عظيم.

مما يعنى أن اتقاء أى فسادٍ أو جهلٍ وتجنب أى زيغٍ وانحرافٍ أثناء العملية التفسيرية للقرآن الكريم يحتاج إلى قواعد يتمكن من خلالها المشتغلُ بالتفسير من الاستنباط الصحيح وقبله من الفهم السليم للقرآن الكريم.

وعلى الرغم من كثرة اهتمام العلماء بمادة علوم القرآن قديماً وحديثاً فإنَّ اهتمامهم بوضع الدراسات المتخصصة في أصول علم التفسير وقواعده قليل، ولا يرقى ما ألف في ذلك في مجمله لأن يكون قانوناً شاملاً يعوَّلُ عليه في التفسير، وهذا لا يعنى أنَّ المفسرين القدامى بصفةٍ عامةٍ قد أغفلوا هذه القواعد ولم يعتنوا بها، بل إنهم اهتموا بها واعتبروا ها وأخذوا بها غالباً في تفاسيرهم، غير أنهم لم يصوغو ها في غالب الأحيان صياغةً تقعيديةً ولم ينصوا عليها أو يلفتوا الانتباه إليها، فكان من بين الأعمال المطلوبة في هذا الصدد: تتبع هذه القواعد المتناثرة في كتب التفسير واستخراجها وجمعها وترتيبها، والأمة اليوم -وهى تستشرف غداً جديداً– مدعوة إلى الوقوف عند تراثها التفسيرى، بجهودٍ صادقةٍ مخلصةٍ لاستخلاص أصول العلم من مصادره، وتخليصه مما التبس به، وتصنيفه، وتكميل بنائه ليصير علماً ضابطاً لبيان القرآن الكريم من الفهم السليم حتى الاستنباط السليم، وإذا كانت كتب التفسير هى المجال الرحب لطلب هذه القواعد ووتتبعها لضبطها واستخراجها، فإنَّ الأمر يتطلب جهداً كبيراً لاستنطاق النَّصوص من أجل استخراج هذه القواعد، وهو عمل يصعب على واحد القيام به، بل وحصر ما ألُف من تفاسير فى الشرق والغرب فضلاً عن قراءتها واستخراج القواعد منها مالم تتضافر الجهود وتؤخذ فى الاعتبار المراحل الزمانية والمكانية.

لذا كانت الحاجة ماسة لإنشاء مجمع عالمي للمفسرين والذي يقتضي تأسيس هيئة علمية عالمية لكبار المفسرين على غرار المجامع اللغوية والفقهية، تشرف على طبع التفاسير بالخضوع لشروط منهجية كتجنب تكرار واجترار التراث، وتجاوز العبث المنهجي في العملية التفسيرية من خلال استصحاب مناهج لا تليق بنص الوحي.

كما يوكل إليها النظر في مشاريع الأطروحات الجامعية في مجال الدراسات القرآنية لتجاوز التفاهة العلمية والفراغ المضموني، والركوب على موضوعات تراثية لا يمكن أن تكون مجالا لأطروحة جامعية في الدراسة القرآنية، وكذا التصدي لأمر السرقات العلمية المباشرة وغير المباشرة التي تكمن وراء جيش من المحسوبين على البحث العلمي وما هم بباحثين…، إلى غير ذلك من مهام التوجيه والرقابة التي يفتقر إليها حقل الدراسات القرآنية كغيره من حقول المعرفة خصوصا في مجال الدراسات الإنسانية.