من صور البر بغير المسلمين

 تتميز الشريعة الإسلامية بنظام اجتماعي يكفُل العيش الكريم لكل أفراد المجتمع مسلمين وغير مسلمين، ولا يليق بالمسلمين أن يبقى في مجتمعهم إنسان محروم من حاجياته الضرورية من الطعام، أو الكسوة، أو المأوى، أو العلاج … فإن رفع ذلك ضرورة إنسانية، وواجب ديني، لا فرق فيه بين مسلم وغيره.

ولا زال المسلمون عبر عصورهم المختلفة حريصين على ضمان هذا الحق لغير المسلمين، سواء من قبل الخلفاء والولاة، أو أهل العلم من الفقهاء والمفتين. فالإسلام لم يكن ليترك ذوي الحاجات من غير المسلمين عرضة للضياع والفقر، لأن ذلك يتنافى مع دعوة القرآن إلى البر بهم والإحسان إليهم قال تعالى: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(الممتحنة:8)، ومن أجل ذلك لما رأى عمر بن الخطاب شيخًا كبيرًا على باب قوم يسال الصدقة سأله: “من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه؛ فو الله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ)(التوبة:60)، والفقراء هم المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه”. كتاب الخراج، أبو يوسف، ص: (126)

وإذا ما حاولنا تلّمس معالم الإحسان وحدوده في نص هذه النازلة، فسنجده عامًا، لا يميز بين طوائف أهل الكتاب، بحيث يقتصر على رهبان النصارى ورجال دينهم، ــ لمنزلتهم الدينية في أقوامهم ــ بل إن منطوق هذه المسألة وجوابها جعل هؤلاء الرهبان بمنزلة سائر أهل الذمة، لهم من حق الكفالة من بيت المال ما لأهل ملتهم جميعا دون تمييز، وهذا مقتضى القسط الذي أمر به القرآن الكريم، وحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

والملاحظ أن المفتي في هذه النازلة قد قيد حق أهل الذمة في بيت المال بالحاجة التي تلحقهم، بسب ظرف طارئ أو عجز أو هرم أو غيرها من نوائب الدهر التي تنزل بهم، وهي من الأحوال التي يضعف فيها الإنسان، ويحتاج إلى من يغنيه في تلبية حاجاته الأساسية، ولئن تركوا مع ضعفهم وحاجتهم دون رعاية أو نفقة لتنافى ذلك مع صفة الرحمة التي جاء بها الإسلام.

 إن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يرحم الله من لا يرحم الناس” يقول ابن بطال: “حض على استعمال الرحمة للخلق كلهم، كافرهم ومؤمنهم، ولجميع البهائم والرفق بها. وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفر به الخطايا، فينبغي لكل مؤمن عاقل أن يرغب في الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعملها في أبناء جنسه … وكل أحد مسئول عما استرعيه وملكه من إنسان أو بهيمة”.

ومما يكشف لنا عمق هذا التسامح أيضًا، ما أبداه بعض الفقهاء من موافقة في إعطائهم من الزكاة المفروضة إذا ضعفوا عن الخدمة، ولم يجدوا ما يسدون به خلتهم.

إن هذا المنحى من التسامح نجده أيضا فيما نقله كل من الونشريسي والبرزلي عن الإمام القابسي من جواز إعانة الجار الذمي، وخدمته وقضاء حاجاته، فقد سئل عن جار يهودي ربما يستقضونه بعض حوائجهم ويقضون له بعض حاجاته… هل في ذلك من حرج؟

فأجاب: “وأما جارك من أهل الذمة فيستقضيك حاجة لا مأثم فيها فتقضيها له فلا بأس”.

وباستعراض محتوى هذه النازلة، نقف على جانب مهم مما كان عليه وضع أهل الذمة باعتبارهم أقليات دينية داخل المجتمع الإسلامي، إذ نجد المسلم وهو في موضع قوة ـ يسعى في قضاء حوائج جاره غير المسلم، بل ويستقضيه هو بعض حاجاته، وهو سلوك يُنم عن رقي أخلاقي، وتفاعل إنساني وحضاري، يعكس أجواء التسامح التي سادت بين المسلمين وغيرهم من أتباع الشرائع الأخرى.

من حصيلة هذه النصوص النوازلية،  يتضح أن مسلمي الغرب الإسلامي في علاقاتهم مع أتباع الملل الأخرى قد تمثلوا قيم الإسلام الصحيح في التعايش والتعاون، وضربوا الأمثلة في الرحمة والتضامن، ولم يكن تواجدهم في موضع القوة ليدفع بهم نحو التسلط والاستبداد والتهميش والإقصاء، بل بادروا إلى احتضان هؤلاء، والدفاع عنهم وحمايتهم، وتقديم يد العون لهم متى ما احتاجوا إلى ذلك، فكان من الطبيعي أن  تبرز ــ نتيجة لذلك ــ علاقات إنسانية متميزة محورها الإنسان، وجوهرها الإحسان ومجالها حاجات الإنسان ــ أي إنسان ــ  دون اعتبار لعامل الدين أو العرق.