من الحضور الأسطوري إلى الحضور الممكن عنترة بن شداد نموذجًا

في سيرة الذات الإنسانية بصفة عامة يتشكل لها أكثر من وجه، أو لو شئنا القول: أنماط متعددة من الصور تبعا لعلاقتها بغيرها وحضورها بوصفها فاعلاً مؤثرًا ومفعولاً يتلقى أثر أفعال الآخرين، من هنا تصير بمثابة وجهات نظر عديدة؛ بحكم موقف الغير منها، بل ونظرتها تجاه نفسها، وفي ظل هذه الحالة الحياتية يصير للمعرفة المبنية على الاقتراب والمعاشرة دور حيوي في صياغة أحكام تجاه الذات ترنو الدقة وتتغيا الإصابة؛ ومن ثم يصير لكل إنسان وجودان: وجود حقيقي بالمعايشة والتفاعل الحاصل بينه وبين الآخر (فرد/جماعة)، ووجود باللغة يتشكل من خلال حديث هذا الآخر عنه وما يرسمه له عبر اللغة من صور يقوم بنقلها ويتداولها الغير عنه.
إذًا فإن الأسرة الإنسانية في إطار العلاقات المنعقدة بين أفرادها على موعد مع طرفي ثنائية (الصدق والكذب)، و(الحقيقة والخيال)، و( والدقة والمبالغة ) في إطار ما تتم صياغته من مواقف تجاه كل فرد إزاء الآخر.


والفن على تنوع أشكاله ليس بمعزل عن هذا الواقع الحياتي المعيش يلتحم به ويتناوله وفقا للقالب الذي يستعين به في عملية الظهور أمام من يتلقاه، والخبر القصصي فن حكائي نثري كان له وجود في مصنفات كثير من العرب القدامى، أمثال الجاحظ والأصفهاني وغيرهما، وهو في جوهره قصة قصيرة تعتمد على المزج بين ما هو تاريخي وما هو فني تتدخل في تشكيله مخيلة الذات القاصة(1)
وإذا أخذنا مثلاً على ذلك عنترة بن شداد نجد أنه يتنقل بنا بالنظر إلى هذا النموذج من ترجمته في كتاب الأغاني للأصفهاني بين حضورين: حضور أقرب إلى الخرافية والأسطورية تحكمه نظرة انفعالية عاطفية هي سمة الوعي الجمعي في تناوله لقضايا واقعه، وحضور ثان أكثر منطقية وواقعية وأقرب إلى الاقتناع والتصديق يصنعه هو لنفسه بناء على نظرته لذاته.


فروسية عنترة: من نظرة الجماعة إلى نظرة الفرد


” قيل لعنترة : أنت أشجع العرب , وأشدها؛ قال: لا، قيل: فبماذا شاع لك هذا فى الناس ؟ قال : كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزمًا، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزمًا، ولا أدخل إلا موضعًا أرى لى منه مخرجًا، وكنت أعتمد الضعيف الجبان، فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع، فأثنى عليه فأقتله ” (2)
مع البداية الحوارية لحكاية الخبر القصصي تبدو أمام المتلقى قرينتان قامت عليهما كل أجزاء الحكاية الخبرية، وهما (قائل)، و(مستعلم) والقرينتان لشخصية واحدة لم تُعرف بدال/اسم علم يعبر عنها، ولكنها عرفت بقرينتيها، ويمكن تسميتها بـ(الشخصية الأساس)؛ لأنها قد أسست عبر مقول القول الخاص بها لبنية الحكاية على مستوى الخبر.
ويلاحظ أن هذا التركيب الاستفهامى للشخصية الأساس المستعلمة يستحضر-على المستوى العميق- قرينة أخرى هى القرينة (سامع) ؛ إذ لابد، وأن تكون هذه الشخصية قد سمعت ما تناقلته الألسنة حول البطل (الفارس) عنترة من صفات (أشجع)، و(أشد) جعلت منها شخصية متفردة.


ولأن العقل البشرى لا يعبأ بمثل هذه الأحكام المطلقة لما تنطوى عليه من مبالغات، وتجاوز للحقيقة، يضاف إليها ارتباطها بمنطلق عاطفى انفعالى أكثر منه عقلى؛ فقد ذهب هذا السائل يستعلم من البطل موضوع الحكم، ويستوضح منه حقيقة الأمر أهو كما قال الآخرون عنه؟ أم لا ؟ وقد يلمح المتلقى من وراء ذلك التركيب الاستفهامى كذلك قرينتين أخريين هما (متعجبة) و(شاكة).
وفى هذه اللحظة يتدخل البطل عنترة ليعيد التوازن المفقود بينه، وبين الآخر من خلال الكلمة (لا) التى عبرت عن الفارس (الصريح) و(المتواضع) فى الوقت نفسه مؤكداً بها أنه عنترة (الشجاع)، (ذو الشدة) لا الأشجع الأشد. إنه يأبى أن ينعت بصفات يرفضها العقل بقوانينه، وطريقته فى صياغة الأحكام، فالقضية نسبية فما قد يبدو أشجع وأشد أمام واحد من الناس قد يبدو أمام غيره أقل فى تمكنه من تلك الصفتين؛ لأنه قد رأى من هو أفضل منه، إن القضية ستكون عقلانية ومنطقية لو أن الشخصية السامعة السائلة فى حكاية الخبر قد سمعت من غيرها عن البطل عنترة مثل هذا التركيب (إن عنترة أشجع من فلان , وأشد من فلان) أو (عنترة أشجع رجال قبيلته , وأشدها فى حروبها مع الآخرين) هنا يبدو الحكم أقرب إلى القبول من القول (أنت أشجع العرب , وأشدها) .


الشخصية رحيل من منطقة الخرافة إلى منطقة الحقيقة


إن كلمات عنترة فى هذا الخبر القصصي تأتي لتعلن على المستوى الفنى – حكايتها- عكس ما اتصف به على المستوى الواقعى وما اختمر في وعي الجماعة تجاهه؛ فإذا كان في داخل هذا الوعي هو (الأشجع) و(الأشد) فإنه على مستوى الفن هو (الشجاع) و(ذو الشدة)؛ الأمر الذى يعنى أنه إذا كان البطل فى عالمه يمثل شخصية (خارقة) بالنسبة إلى الكثيرين، فإنه فى عالم الفن يمكن القول عنه: إنه شخص يتشابه وغيره من بنى البشر فى صفات القوة، الشجاعة، والبأس.
ويبرز التصور السابق – إلى حد كبير – دور الفن فى إعادة صياغة مفردات الواقع بطريقة جديدة تحقق له التوازن، والنظام كما يريده الكاتب؛ فما قد يبدو في عالمنا المعيش مبهمًا تعجز العقول عن كشف هويته وإدراكه، يتولى الأديب المبدع عبر عمله الفنى مهمة الكشف عنه، وتحديد ماهيته بصياغة تعكس رؤيته الخاصة، وموقفه من معطيات الواقع من حوله.


فكيف تم إذًا الكشف عن هوية البطل (الشجاع) و(ذو الشدة)؟ هنا يسترسل هذا السائل المستعلم ” فبماذا شاع لك هذا فى الناس؟” فتأتى كلمات عنترة لتكشف عن السبب فى سوء الفهم، والخطأ فى التقدير الذى وقع فيه الآخرون تجاهه هذه بدايتها “كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزمًا، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزمًا” يرسم هذا المنطوق صورة لفروسيته لا ترتبط بقوته البدنية وقدرته على استعمال السلاح فقط، إنما تحيل إلى ذكاء مجرب مبني على خبرة تفاعل ومعاشرة (3)، ومن الأدلة على ذلك ” حين دعاه عويمر بن عدى بن ربيعة…… وهو شاعر فارس إلى المبارزة………. فلم يقدم عنترة إلى مبارزته، ويقترب من مضمون هذا الخبر ما روى من أنه وقف مرة ينشد قوله :
إذْ يتَّقُونَ بِىَ الأَسِنَّة لَمْ أخُمْ ** عنها ولكنىِّ تَضَايق مقْدَمِى
فمد له عمارة بن زياد العبسى سنان رمحه، وقال : نحن نتقى بك الأسنة يا ابن السوداء؟ وكان عنترة أعزل لا سلاح لديه وقتها، فقال له : اغفرها، ثم ذهب ولبس درعه وتقلد سيفه وركب فرسه وأقبل حتى وقف أمام عمارة، وأنشد البيت نفسه، فتغافل عنه عمارة حين رآه فى سلاحه، فهجاه عنترة، وعيره وافتخر عليه”(4) .


يعكس هذان الحدثان البطل المقدر تماما لقوته غير المغامر بنفسه، ولكن قد تبدو إجابات البطل عن السؤال الذى طُرح عليه غير مفسرة بالقدر الكافى؛ لعلة اتصافه بالقرينتين : أشجع وأشد، غير أن القارئ المدقق قد يصل إلى العلة الحقيقية من وراء التركيب ” كنت “، والفعل المضارع التالى له، وما جاء بعده من أفعال فى الزمن المضارع معطوفة عليه : ” كنت أقدم إذا رأيت …، وأحجم إذا رأيتُ … ولا أدخل إلا موضعًا أرى لى منه مخرجًا، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة …… يطير لها قلب الشجاع، فأثنى عليه فأقتله “.
إن صيغة المضارع تعنى أن الحدث المنطوى عليها فى حال من التجدد والاستمرار واقتران الفعل المضارع بالتركيب ” كنت ” فى حكاية الخبر يعنى أن البطل عنترة كان مداومًا على هذه الأفعال، مستمرًا فى القيام بها فى مواقف النزال التى خاضها، وهذا ما حدا بالكثيرين إلى إنجاز ذلك الحكم الذى لم يعجب السائل المتعجب.

كما هو الحال بالنسبة إلى صيغ المبالغة التى تأتى لقصد التهويل والتعظيم والتكثير وإفادة الديمومة في الالتصاق بصفة بعينها؛ فالكلمة (خائط) – على سبيل المثال- هى بخلاف الكلمة (خياط) فالأولى جاءت على وزن فاعل وتعنى أن صاحب الفعل ليس مختصًا به فى الأساس إنما قام به مرة أو عدة مرات، أما الثانية – التى جاءت على وزن إحدى صيغ المبالغة (فعَّال)- فتشير إلى مواصلة الشخصية القيام بالفعل واستمراره فى ذلك ؛ لتخصصه في أمرٍ،واحترافه له. (5)


وبناءً على ذلك يمكن صياغة كلمات البطل المجيب (عنترة) بالشكل التالى : (كنت مقدامًا إذا رأيت الإقدام عزمًا، ومحجامًا إذا رأيت الإحجام حزمًا، فَطِن التدبير لا أدخل إلا موضعًا أرى لى منه مخرجا، مكارًا ذكيًا أعتمد الضعيف الجبان، فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فأثنى عليهفأقتله).
ولا يخفى ما يحمله منطوق (عنترة) من جرس موسيقى يتمثل فى الجناس فى : (أقدم، وإقدام) و(أحجم، وإحجام) و(أضربه، والضربة) والسجع فى ( عزمًا، وحزمًا) وهو ما يضفى على لغة التواصل بين الذات،والآخر نوعًا من الجاذبية تجعل منظومة الاتصال بينهما أكثر إيجابية وأكثر تحقيقًا للنتائج المرجوة؛ لذا لاعجب أن نجد خطابه النثري هذا تفسيرًا لشعره الذي يقول فيه :
احْذَرْ مَحِلَّ السُّوءِ لا تحْلُلْ بٍه ** وإذا نَبَا بِكَ منزلٌ فتحوَّلِ “(6)
وفي الوقت نفسه يمكننا القول: إن شعره يفسر حديثه النثري هذا في إطار مفهوم الإحالة والتماسك النصي التي تتيح للنظر القارئ قدرة على الإدراك الكلي للغة الأديب بوصفه لُحمة واحدة متماسكة(7)


يمكن القول إن عنترة ذاك الإنسان المجرب الذي يمتلك رصيدًا معرفيًا متراكمًا من الخبرات يقرأ نفسه ويقدم ثمرة ذلك إلى من يهمه الأمر في إطار لوحة مرسومة باللغة تجمع بين متعارِضَين في الفهم وفي الرؤية، طرفاها: فرد يتأمل داخل ذاته وخارجها قارئا الاثنين بطريقة ترجو السلامة والإصابة، وطرف ثان جمعي الطابع يعتمد في مواقفه على منطلق ذي صبغة عاطفية قد تغيب عنها مقومات النظر العقلي المنظم إلى حد ليس بالقليل.

ولا شك في أن هذا يأخذنا إلى منهج قرآني في الفكر واستنباط الأحكام، يُجليه قوله تعالى “قُلْ إِنَّما أَعِظُكم بواحدةٍ أنْ تقوموا لله مثنى وفُرادى ثمَّ تتفكروا ما بِصاحبِكُمْ منْ جِنَّة”(8) إن الرأي العام الكائن عالم الذات الخارجي يقتضي قدرًا من الابتعاد العاطفي والذهني لتأمله من بعيد في ظل مسافة تفصل هذا الفرد عن صخب واقعه لبعض الوقت يستطيع فيها التحليل والوصول إلى نتائج تبدو ضوروية بإزاء المتداول وسط جماعته الواقعية.


هوامش


1- يوسف الشاروني، القصة تطورًا وتمردًا، ص34، طبعة 2001م، مركز الحضارة العربية، القاهرة.
2- الأصفهانى (أبو الفرج علي بن الحسين) ، الأغانى ، طبعة 2001م، الجزء الثامن ، ص 244 ، طبعة 2001م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
3- انظر: د. محمد أبو الفتوح عفيفى, عنترة بين سيرته وشعره , ص25 ، طبعة 2002م، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة.
4- السابق , ص29, ص30 .
5- انظر : ابن هشام ، شرح شذور الذهب ، ص 366 ، طبعة 1992 ، المكتبة العصرية (بيروت)
– شرح ابن عقيل ، الجزء الثالث ، ص 111 .
6 – الأصفهانى ، الأغانى ، الجزء الثامن ، ص 235 .
7 – محمد خطابي، لسانيات النص (مدخل إلى انسجام الخطاب)، ص18 إلى ص24، طبعة 1991م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.
8 سورة سبأ: من الآية 47.