من أجل تلق علمي بنَّاء

إن غاية اللغة في كل زمان ومكان تتمثل في تحقيق عملية التواصل (Communication)؛ أي توصيل المعنى إلى المتلقي. وفي مجال الأدب والبحث العلمي أيضًا، لا يمكن إيجاء تواصل فعّال بين الكاتب والقارئ، إلا إذا اتسمت هذه اللغة الموظفة؛ بالوضوح والشفافية، وكان الخطاب جليًّا وخاليًا من الشوائب والمعيقات، أو المشوشات التي تعيق عملية التواصل ومن ثمة تعيق التوصيل أي توصيل فكرة الكاتب إلى المتلقي.
ومن الإشكالات المطروحة في الإنتاج الأدبي والعلمي العربي، ما يمكن أن نصطلح عليه بـ”تعالي الخطاب”، أي تعاليه على المتلقي، والذي يحضر غالبًا عندما تكون الفكرة أو النص مستعارًا من الفكر الغربي، وحين يتعلق الأمر بترجمة الأفكار والمفاهيم، حيث تأتي المعلومة أو الفكرة إلى المتلقي العربي مشوهة، وهو ما يجعل تلقيها في العالم العربي وباللغة العربية مشكلاً، لا سيما في المدرسة والجامعة.. فمن المعيقات الأساس لتقدم البحث العلمي، أن لا تكون المراجع والمصادر المعرفية قادرة على توصيل أفكار بوضوح تسهم في تطوير البحث، بل إنه من معيقات القراءة في العالم العربي -عمومًا- غياب تحقيق لذة النص وتحقيق المتعة بسبب ما ينحو إليه بعض الكتاب، من إغراق في الرمزية، واختيار للألفاظ الموحشة التي تنفِّر القارئ حتمًا من الاستمرار في القراءة.
إن اللغة كما عرفها أسلافنا من علماء اللغة، كسيبويه، وابن جني، والجاحظ، وابن خلدون.. هي أداة يعبر بها قوم عن أغراضهم. وبأسلوب أكثر حداثة، اللغة أداة تواصل بين الناس، ذلك التواصل الذي يستحيل أن يحدث بين شخصين لا تتوافر لديهم الشروط الموضوعية، وأدناها أن يتوافر لهما معا الرصيد اللغوي الواحد والمنطق اللغوي الواحد.. فغياب هذه الشروط يحول دون تواصل مجد.
ويمكن الرجوع في هذا المقام إلى الكاتب الروسي “ميخائيل باختين” (Michail Bakhtin) الخبير في اللغة وعلم الخطاب أو لسانيات ما بعد الجملة، للتعمق في مفهوم الخطاب، ووظيفة الخطاب، وخطورة الخطاب اللغوي والأيديولوجيا، التي يمارسها الخطاب أحيانًا كما في كتبه “شعرية دوستويفسكي” و”الماركسية وفلسفة اللغة” و”الخطاب الروائي”، حيث يكشف في الأدب بشكل عام والرواية بشكل خاص، عن أشكال الخطاب المتعددة التي يسعى الفنان والروائي بشكل خاص إلى إعادة صياغتها، لنسج روايته التي هي في نهاية المطاف ليست سوى مجموعة من الخطابات، أو أنها -بتعبيره- ذات طبيعة ديالوجية؛ حيث سيتضح للقارئ أن أشكال الخطاب متنوعة ومتعددة بحسب الظرفية، أو ما أطلق عليه أشياخ اللغة -أمثال عبد القاهر الجرجاني- مراعاة المقام، أو ما أشيع كمثل سائر قولهم: “لكل مقام مقال”، وهذا معناه أن المبدع أو الناقد، عليه أن يراعي الفئة المستهدفة بخطابه (أو بكتابه)، فيخاطبها بلغتها كما كان يفعل نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
إن لجوء بعض الكتاب العرب إلى التعالي لغويًّا، قابعين في صروح عالية، متكلمين بلغة لا يفهمها إلا قائلها، نافين بذلك المتلقي -بما في ذلك القارئ المتخصص- ما يؤدي حتمًا إلى عدم الفهم، ومن ثمة إلى تشويه صورة النص، وبناء عليه إلى تشويه المعرفة، وإلى المساهمة في ضمورها.

من معيقات القراءة في العالم العربي غياب تحقيق لذة النص وتحقيق المتعة، بسبب ما ينحو إليه بعض الكتاب من إغراق في الرمزية، واختيار للألفاظ الموحشة التي تنفِّر القارئ حتمًا من الاستمرار في القراءة.

هذا ما يلاحظه القارئ وهو يقرأ لبعض علماء اللغة العرب -مثلاً- أو المتخصّصين في النقد الأدبي، أو في العلوم الإنسانية.. من صعوبة توصيل، لا سيما إذا كانت الأفكار منقولة عن الثقافة الغربية -خاصة عن اللغة الفرنسية أو الإنجليزية- أو الكتب المترجمة التي تؤدي إلى مشكلات قريبة من ذلك. فمن خلال الترجمات التي أنجزها غير المتخصصين، نجد هذا المعنى الذي يطلق عليه علماء الترجمة بـ”التطفل على الترجمة” والذي يجعل تلقي النص يتم بلغة غريبة وبأسلوب مربك غير مفهوم، وهو مل يجعل قراءة النص في لغته الأصل- رغم صعوبتها بالنسبة للباحث- أقرب وأيسر من النص المترجم والمشوه دلاليًّا.
يمكننا أن نستدل على هذا الأمر بموقفين، موقف القارئ من ترجمات شكسبير الذي ترجمه أكثر من كاتب عربي، لكن جميع القراء العرب تقريبًا يحبون ترجمة جبرا إبراهيم جبرا؛ والسبب البسيط أن جبرا كان شاعرًا، والشاعر يسهل عليه طبعًا ترجمة الشعر وإن كان الشعر في الأصل -مثل الموسيقى- يصعب ترجمته أو يستحيل ترجمته، إنما نترجم المعاني لا النص الأصلي. فجبرا إبراهيم لم ينقل النص الإنجليزي الشكسبيري بمفاهيم وبخطاب لغوي سطحي، وإنما عمل على تقديمه إلى القارئ العربي بمفاهيم قريبة من السياق الثقافي العربي، وهو ما منح ترجمته لنصوص شكسبير بُعدًا جماليًّا، كما لو أنه قدم لنا مسرحيات جديدة من وحي خياله هو.
والموقف الثاني يظهر لنا، من خلال الرجوع إلى بعض الكتب الغربية في التخصصات العربية التي ألفها المستشرقون المهتمون بالأدب العربي، فالرجوع مثلاً إلى كتاب “ألن روجر” (Alan Roger) “الرواية العربية: مقدمة تاريخية ونقدية”، يغني القارئ العربي عن مئات المراجع العربية عن نشأة الرواية العربية وتطورها؛ ولعل السبب الأساس وراء هذه القابلية لقراءة كتابه وفهم أفكاره التي تكاد تعطينا فكرة عن نشأة الرواية العربية وتطورها وعن المراحل التي مرت بها منذ المحاولات الأولى إلى مرحلة الاكتمال ومرحلة الحداثة، هو اعتماد الكتاب على لغة علمية مباشرة خالية من الذاتية، ومن التنميق واللف والدوران، ومن الانطباعية في الكتابة، ثم من تلك المفاهيم التي تحول السهل إلى مركب، والبسيط إلى معقد.. فرغم أنه كتب بالفرنسية، إلا أنه يبدو أيسر لفهم الأدب العربي، وقد زادته أناقة ووضوحًا، ترجمتُه الأنيقة من طرف الكاتبة حصة إبراهيم المنيف شقيقة الراحل عبد الرحمان منيف.
في هذا السياق يبقى من الضروري -بالنسبة لكتابنا العرب- مراعاة السياق الثقافي للقارئ العربي، واعتماد لغة مرنة وبسيطة تثير شهيته، ويمكن أن نضرب مثلاً على ذلك، بالقرآن الكريم الذي برغم عظمة أفكاره ومعانيه ولغته المعجزة، إلا أنه يفهمه القاصي والداني.. وكذلك خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم،  وخُطب الإمام علي كرم الله وجه في “نهج البلاغة”، ومن تبعه من جهابذة اللغة، أمثال الجاحظ ومصطفى لطفي المنفلوطي.. أما اتباع أسلوب المعري في “رسالة الغفران”، وأبي تمام في لزومياته، والمتنبي في مغاوير شعره.. فهو يفيد القليل ويقصي الكثير، وذلك -في اعتقادي- من الأسباب الأساسية لعزوف الناس عن القراءة؛ فحتى التلاميذ والطلبة أعرضوا عن الكتاب، لأن أغلب الكتب العربية لا تثير نهم القارئ، ولا تحقق لذة النص التي تحدث عنها رولان بارت، بل إن بعض الكتب لا تكاد تقرأ بعض أسطرها حتى تحس بطنين وصداع في الرأس.
وأرى لكتابنا حجتهم الدامغة، ذلك أن نقل الثقافة الغربية وإعادة بناء أفكار الغرب في قوالب معرَّبة، يكلف الكثير من الجهد، وأدناه إيجاد المصطلحات المناسبة في عصر يعيش ثورة معرفية جعلت العرب في مؤخرة القافلة، مما يجعلهم يترجمون النص ترجمة حرفية تزيد الأمر تعقيدًا. ولعل هذا ما يدعو إلى مراجعة النظام المعرفي واللغوي أيضًا للعقل العربي، وأنى لنا ذلك في غياب خبراء في علوم اللغة والبرمجيات. لكن يجب أن لا نفقد الأمل، بل لا بد من تضافر الجهود لتطويع اللغة العربية، وإن عجزنا عن ذلك فعلينا اللجوء إلى آخر الدواء، وذلك بإنجاز أعمال تتناول شرح تلك الألغاز والرموز التي تحملها بعض الكتب، والتي لا يعرفها إلا أصحابها.

(*) مفتش تربوي للتعليم الثانوي / المغرب.