“ممو زين” قصة شهيدين سقطا في محراب الحب

بين القصة والترجمة

“ممو زين”  رواية صبر واحتراق، ولهفة والتياع، ومسرح دمعة وآهات، من باكورة أعمال الشيخ سعيد رمضان البوطي-رحمه الله- عبر عنها في مقدمتها فقال “أنفقت في كتابتها من الدموع قدر الذي استهلكته من المداد، وأخرجتها بعد أن كسوتها  بردًا سابغًا عن لغة السحر والبيان، لغة البيان الإلهي المعجز”، تمثل هذه الرواية قصة شهيدين سقطا في محراب الحب بعد أن اصطرعت الروح وكابدت الآلام، أو قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء على حد تعبيره بعد أن تجرعا علقم الغرام الذي أصبح غصة في مسارات القلب، حبكتها من  الشعر الملحمي الذي كتبه الشاعر الكردي المعروف أحمد الخاني 1953م، كان من جملة العلماء الأكراد الذين لهم البراعة والنجابة في علوم الفلسفة والفقه والتصوف والأدب، نقلها البوطي إلى العربية ونسجها نسجًا شيقًا وضم شتاتها من الأبيات المبعثرة حتى وشاها بحلى الإبداع والأدب الماتع، وينصح بقراءة هذه الرواية التي هي نموذج للأدب الرفيع لكل من ينبض قلبه بالحب الصافي والعفة السامية والوفاء المبهر، وقد غزت هذه الرواية بعد ترجمته أسواق العالم الأدبي الإسلامي أكثر من أصلها الكردي، إذ أسبغ عليها البوطي سجال موهبته الأدبية النادرة لنثر البنيان الشعري ولملمة مضموناته وترميم ثغوره في أسلوب قصصي مترابط، بحيث يتجلى للقارئ ويتحسس عمق الكاتب في بنية الرواية.

هذه الرواية مستلهمة من الواقع، ويهدي البوطي كتابه قائلا” إلى كل قلب كتب عليه أن يتجرع الحب علقمًا، ولا يذوقه رحيقًا وأن يحترق في ناره ولا يقطف مرة من ثماره أقدم هذه القصة عسى أن يجد فيها بردًا من العزاء والسلوى” تعكس هذه الكلمة الإهدائية المد والجزر الذي يعتري محتوياتها العميقة.

ممو وزين أسطورة الحب الخالدة

“الحب في أول أمره رعدة في المشاعر ودقات بين ألواح الصدر، وتلون في ملامح الوجه، فإذا نما وترعرع فهو برق يستعر وميضه في الأحشاء، تتلظى الجوانح بناره من غير لهب، ويشوي الفؤاد في وهجه من غير جمر، فإذا استقر وتمكن فهو نهش وفتك لسويداء القلب، يجرحه بلا مبضع، ويمزعه من غير سنان”، تعبيرات للشيخ البوطي عن الحب الذي يسكن جوانح ممو وزين، وعن الشقاء الروحي المتعب الذي يتعرض له العشاق، إبان مسيرتهم صوب الهدف النبيل، فيفاجئهم الحقد من شتى الأبواب، لقد رسم أحمد الخاني هذه الصورة المؤلمة التي تجرح أرواح كل عاشق اكتوى في نار المودة عبر حروف تبدو قسماتها بين القبض والبسط، وبين البسمة والدمعة.

تشبه قصة ممو وزين قصة روميو وجولييت التي ظهرت من بين أصابع عملاق الأدبي الإنجليزي شيكسبير، وهي نسيج من التعابير الخالدة النابعة من مرايا الحب الذي لا يستسلم للعوائق ويمضي قدمًا رغم العقبات الكؤودة والجمرات المتقدة حتى يعانقا الموت، وتتحقق المأساة بأبشع وجهها فثمت تبقى روح الحب مؤبدة تسكر العشاق بنشوتها الأثيرة لتجعلهم واقفين على جمرة الحب المشتعلة.

يقول أحمد الخاني في بدايتها” سألبس كلا من هذين الحبيبين ثوبًا مطرزًا من بياني، ثم أرفعهما إلى أوج التاريخ، فليخدلهما وليخلد صدى زفراتهما مدى الدهر والحياة، ثم ليمر من أمامهما كل مستعرض وناظر، فليبك أناس حرمانهما واحتراقهما وليفتنن آخرون بلطف زين وجمالها”، يدفع الخاني عشاق الجمال إلى حالة من التوتر والارتباك ليقفوا ساعة على أطلال الحب ودياره.

وانبعثت خيوط الحادثة في جزيرة ابن عمر الواقعة على شاطئ دجلة حيث قصر أميرها زين الدين وشقيقتيه ستي وزين، وكان الأمير زين الدين يمتلك قلوب طبقات شعبه مما أذاع اسمه مقرونا بالهيبة والإجلال في أنحاء كردستان، وقد أجاد البوطي في وصف زخارف قصره الفضفاضة التي تبهر الناظرين منظره الجميل الخلاب. المتكون من القيعان والأبهاء الفاخرة، والأثاث الفخم مما جعل الأمير بطل القصص المنتشرة على أجنحة الركبان، برغم هذه الفخامة المذهلة المسحرة فإنها لا تداني جمال الفاتنتين المتوشحتين بوشاح الهلال الأنيق، وفي عيد الربيع حين ودع الناس يوم 20 مارس ليستقبلوا من وراءه سنة جديدة، وقد شهد في جزيرة بوطان نشاط جلي غير معهود وجميع أهالي كردستان يتهيئون ويستعدون للخروج إلى ظاهر المدينة ويقضون بياض نهارهم فوق المهاد الخضراء الوارفة على ضفاف دجلة، وفي سفوح تلك الجبال.

وفي ناحية القصر، تبقت الأميرتان “زين وستي” منحازتين إلى إحدى شرفاته، ترقبان ساعة الغروب وترنوان إلى الأصيل الذي أخذ يعكس إشراقًا ذهبيًا بديعًا، إلا أنهما كانتا تفكران بعمق، وأخذتا تتجاذبان أطراف الحديث، حالمتان بمستقبل كلتيهما، وهما لم يرا العالم بأكمل جماله، إذ هما محبوستان بين جدران القصر الهائل، محرومتان من مداعبة الأحلام التي تكن في صدورهما، أخوهما الأمير زين الدين يشدد الأمور عليهما ولا يتمتعا بالحرية التي لدى أقرانهما.

مخاطرة وهواجس

وفي نفس اليوم حين تم استعداد الموكب الملكي للخروج إلى الأودية لاستقبال العام الجديد فكرتا في أمر خطير، فخرجتا متنكرتين، بعيدتين عن ضجات المرح وملامح الوجوه المرسلة عيون الشك والتخمين، في ثياب شابين وسيمين، ومشتا غارقتين في الكلام والتفكير حتى فاجأهما في الطريق شابان جميلان أحدهما يدعى ممو والآخر يدعى تاج الدين، ثم تدور القصة عن تضاريس الهواجس التي اقتنصت خواطر ممو وستي، ويصبح هذا القلق والاضطراب الذي أصاب زهرتي القصر الأميري محط أنظار عجوز تقربهما ذا عين وقادة، وقلب نقاد، فتستطيع تشخيص الحال بوجه جميل، وبواسطتها يصل الخبر المأمول إلى ممو وتاج الدين الشابين، فبلغ بهما الضيق والحزن ما بلغ، ثم تصل القصة إلى المد والجزر الذي يضرب سواحل خواطرهم وأفكارهم، حيث يصنع فيهم الشوق واللهفة أفاعيل التهور والتجنن، ليتزوج تاج الدين وستي في زفاف جميل رائع، ولتكتمل لوحة سعادتهم، إلا أن سعادة “زين” و”ممو” تحولت إلى شقاء تام وهم قاتل بعد أن ظلت مخالب “بكر” الماكرة حاجب الأمير زين الدين تبحث في الأكاذيب والأقاويل حولهما

فقرر الأخ الأمير أن يحرمها من الزواج ويقوم بإلقاء ممو في السجن، وفي هذه الساعات المظلمة تمر الساعات في خاطر زين كجمرة من النار الحارقة، وفي الطرف الآخر يسعى تاج الدين القوي الأمين عند الأمير في بناء حوار هادئ بين الجانبين حتى إذا مل وأيس من الأمير غير فكرته لدرجة أنه أعلن الثورة ضد الأمير الذي كان يتكأ دائمًا على عضلاته وأكنافه الظليلة، وكان تاج الدين وإخوته يحتلون في قلب الأمير مكانة سامقة حتى لا يستهين بغضبهم وثورتهم التي ربما تطيح بعرشه وتذروها رياح الغضب العاتية، وحتى في هذه اللحظة المشؤومة يستند الأمير إلى بكر الماكر الذي هو ويستشير رأيه لفض هذه الفتنة الهائجة.

نهاية ملئية بالاستفهامات

وطيلة القصة يتراءى للقارئ حالة المجتمع الكردي الذي يترنح تحت نير التقاليد ويتجلى أمامه ثورة أحمد الخاني في إظهار صور مجتمعه وأوضاعه حتى يسترجع المجتمع الضمير ويستقرئه، وفي نهاية المطاف تحترق مشاعره عشقا، ويبدع أحمد الخاني في تصوير هذه الحالة المأساوية والحارقة للضمير، المزهقة للروح بأشجى التعبيرات، وأنكى الكلمات حتى يتوارى التراب على تلك الأسطورة التي أرقت بوطان والقراء معًا.

لا يتم إسدال الستار على القصة إلا والغموض يلتف القراء وتبقى أمامه الاستفهامات الخفية، مثلا كيف يعقل أن يتورط أمثال الأمير تاج الدين الذي يتفانى في خدمة الشعب ولا يقصر في أداء حقوقه في ورطة رجل تافه مثل “بكر” لحد أن تناسى عن حقوق شقيقته التي لم تبخل في الإخاء والوفاء وفعل بها ما فعل، وانتهت القصة وانطوت بين تلافيف القلوب الكاسفة وتجسدت في أوجه ومقلات تنطق بالحب الذي لا يذوب، في كل عصر وفي كل مصر، ويبقى الحب فوق هامات الزمان شامخا متألقا.

إن الطيور وإن قصصت جناحها  تسمو بفطرتها إلى الطيران