مفتاح العلوم اللغوية

لا يمكن للبحث اللغوي أن يتخذ اسم علم، إلا إذا كانت نتائجه مرتبطة باستقراء يقوم عليه قانون عام أو نظرية.. ولهذا السبب، لم يتميز فقه اللغة من حيث هو علم يدرِّس الوثائق المكتوبة ولغتها من علم اللغة الذي يتخذ دراسة اللغة في ذاتها موضوعًا له، إلا في مؤلفات القرن العشرين المتأخرة، بعد ظهوره في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر.

وقد بدأ الدراسة اللغوية المستفيضة عالمٌ جليل في القرن الثاني، ووضع أسسها العلمية في كتاب “العين”؛ فكان الخليل بن أحمد الفراهيدي أول من وضع معجمًا لغويًّا، فكان بحق منشئ هذا العلم الذي يعد الجامع الأوفى لعلوم اللغة، والعلم المستفيض المتنوع الذي ربط بالأصول اللفظية كل البحوث اللغوية.

وقد يتبادر لذهن بعض الباحثين، أن اليونان قد وضعوا هذا العلم في عهد سبق عهد الخليل قبل القرن الثاني الهجري، إلا أن الوثيقة التاريخية التي تثبت لنا الأولوية في هذا العلم، هي ما يفتقد إليها الآخرون ونحظى بها مجسدة بين أيدينا.

ولا يظنن أحد أن كتاب “العين” من نوع المعجمات التي بين أيدينا الآن كالقاموس المحيط، أو المنجد، وما سار من التآليف المعجمية في العصر الحاضر على غرار التصنيف المعجمي في اللغات الأوربية، ذاك الذي تطغى عليه سمة الجمع والترتيب على حسب الكلمات المفردة المشتت للجذر الدلالي.

وإنما كان الترتيب الذي اتبعه، يشيع العلم اللغوي في ثناياه. والمتبصر في الترتيب المعجمي المتبع في كتاب “العين”، يعلم إلى أي حد راعى المؤلف تقلبات الأصل الواحد الصوتية، حيث يرينا من خلال التقليب الصوتي، المعنى المشترك بين الألفاظ التي تنتسب إلى جذور صوتية واحدة، والمعاني التي تنضم إلى المعنى الجامع بين الأصوات متوافقة مع الزيادات الصوتية، وتتغير الصيغ والبنية، وهذا بلا شك، علم لغوي يجمع بحصافة وبفكر ثاقب أريب بين علم البنية، وعلم الدلالة وعلمي النحو والصرف، وعلم الأصوات الذي قد نظن أننا أخذنا مبادئه وعلمه عن اللغات الأجنبية، دون أن نعي جذوره الأصيلة في دراسات اللغويين العرب القدامى.

الثقافة الإسلامية ثقافة جامعة

وحين ننشد التقصي التاريخي لظاهرة العلوم اللغوية لدى المسلمين، نجد أن القرن الأول الهجري كان قرن افتجار فكري رائع، ظهرت فيه الدراسـات اللغوية المتعددة للغة العربية الفصحى، حين بوركت بحوثها بعلوم لغوية تلقفها المسلمون مع القرآن الكريم، فكانت لهم حافزًا دينيًّا لغويًّا يدفعهم إلى البحث والاستقصاء، ويستحثهم على الإمعان والتفكر والتدبر.

ولئن قلت إن الثقافة الإسلامية التي أشاعها القرآن الكريم كانت ثقافة جامعة على أعلى مستوى من البحث الدقيق العميق، فلن أكون مبالغًا ولا ممتريًا، لأن من يدرس افتجار الحضارات دراسة وثائقية بعيدة عن التعصب والتحيز، ليرى عجبًا، ليس في الفكر الحصيف النزيه العدل الأريب الذي أوجدته آي القرآن وسوره فحسب، إنما في الطريقة العلمية التي استحثت كل من آمن بمبادئ هذا الدين على أن يسير عليها. إنها آيات بينات أوجدت الفكر العلمي الذي تتراءى له الحقيقة، متكشفة للعيان دون شوائب تشوهها ودون ظلال تغيب حقيقة ماهيتها: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً)(الإسراء:36).

هذا المنهج العلمي -في تقصي الحقائق باستعمال الحواس الدقيقة، تتلمس حقيقة الأمور، وتردها إلى العقل يناقشها ويسجلها، ويدرسها في وسائل فكرية متعددة، ليستقرئ قاعدة يركن إليها، أو ليكتشف حقيقة يكون السمع والبصر شاهدًا عليها ورقيبًا ومعيارًا لها- لم يكن معروفًا قبل هدي القرآن الكريم، وقبل الرسالة المحمدية، وطغيان الأهواء الفردية في الأحكام الاجتماعية والدينية المعروفة قبل البعثة النبوية، مصداق ذلك.

ولن يكون موضع التدبر والإعجاب، ما ذهبت إليه، لو كان هذا المنهج الراقي في النظر إلى الأمور جميعًا -اجتماعية كانت أم علمية- على سنة هذه حقيقتها، لو كان الأمر مقتصرًا على العلماء فحسب -لأننا الآن نجد عددًا من العلماء يلتزمون هذا المنهج النزيه من الحكم ويعملون به- وإنما المدهش في الأمر، أن هذا الفرض الديني امتزج بالحياة العامة اليومية في التعامل على الصعيدين الرسمي الحكومي والشعبي اليومي، يخضع له العالِم كما يخضع له العامي، فانمحت إثره -أو غابت- المغالطات الفكرية والظنون الذهنية، وخاب إزاءها المرجفون، كما خاب المستغلون والمفسدون.

التربية الفكرية

ولا بد لكل حضارة من فكر ثاقب تنبثق عنه، ومن بحث علمي تنتهجه على أرقى المستويات، وأكثرها اعتمادًا على الملاحظة الدقيقة والتعليل والاستقراء والاستنباط.. لذلك، كان القرآن الكريم، المربي العظيم للفكر العلمي في الأمة الإسلامية التي أوجدت أعظم الحضارات، وأكثرها ضمانًا لكرامة الإنسان ومكامن طموحه ومرتجى سعادته وهنائه.

فلنتابع هذا التدريب التربوي الذي نحتته الآيات في تفتيق الملاحظة الخيرة، وإذكاء روح النزاهة، وحب المعرفة والشغف بالاستدلال والكشف والاستبيان والتدبر: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(النمل:69)، (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا)(ق:6).

إنها التربية الفكرية عن طريق الحواس، عن طريق الاعتبار بحالات سابقة وبتجارب مماثلة: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ)(ق:9).

إنها الحياة اليومية في موادها الرئيسية، وفي التجربة المتكررة الممارسة على أوسع نطاق، تستدعي كل فكر إلى العمل الذهني، إلى ربط الأسباب بالنتائج، إلى التوصل بالفكر للمنطلقات الأولى للنعم، ولمعرفة الأيدي المنعمة، وماهية النعم: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(محمد:24).

إنها التربية العميقة المستقصية، التي لا ترضى بالمعرفة المادية السطحية فحسب، وإنما ترتجي إبداع هذه الطاقة الذهنية الهائلة، التي منحتها للإنسان وحده من دون المخلوقات جميعًا، وباهت بها الملائكة.. إنها التربية الربانية التي تريد من الإنسان ألا يدخر وسعًا في إذكاء طاقاته الذهنية ومواهبه العقلية وممارساته الدقيقة في التدبر والتفكر.

لقد تعرّف المسلم على كل ما سبق، ووعى الهدف من وجوده في هذا العالم، وأدرك بالتالي كيف يكون وجوده الأمثل، فجعل الذات المثلى في النبي الهادي أسوته ومنهجه، فسار على هدي الآية: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)(التوبة:111).

من هنا كان منطلق الحضارة الإسلامية، مؤمنون رُبِّيت نفوسهم على أرقى نهج تربوي، مارست العمل المجدي المثمر لا تنفك عنه. أيقنت بالعمل الذي يرضى عنه الله تعالى، وترقى به المواهب، فباعوا نفوسهم لله، وعملوا على مرضاته في الخير العام، خير البشرية قاطبة.. ولم يكن البحث العلمي إلا نقطة البدء، فكان القرآن الكريم المنطلق الأول للازدهار والخير والنماء.. فاجتمع حوله المؤمنون ينهلون من ينابيعه التي تفجرت بالهدى والمعرفة، بالإبداع المعجز، فكان في كل عقل منه سنا وقبس من نور الله تعالى.. لذلك كان القرن الأول الهجري، فاتحة كل حضارة سليمة من الشوائب والانحراف، وبداية البحث العلمي الدقيق العميق الناجح، وكانت العلوم اللغوية على رأس العلوم الأخرى المتنوعة المجالات والمناهج.

علم الأصوات

ويكاد يكون أول علم تلقنه القراء مع القراءات، علم الأصوات الذي لم يكن يعرفه أحد من قبل. فكان النبي محمد بن عبد الله  يلقن القارئ -إلى جانب اللفظ- أصوات اللغة المختلفة التي تزيد عن عدد حروف اللغة العربية، ويوضح للقارئ اللام الرقيقة من اللام الثقيلة، والراء الرقيقة، والإدغام بغنة، ودرجات المد وما إليها.. وبقي هذا العلم متواترًا متداولاً حتى قيّض الله له مَن سجله بمؤلف بقي بين أيدينا وعلى أفواهنا برهانًا على أن هذا العلم من وحي الله U، وليس لمدّع أن ينسبه إلى اللغة السنكريتية كما يعمل الآن بعض الذين ترجموا هذا العلم عن بعض اللغات الأجنبية.

فما قام عليه علم “التجويد الصوتي” من مقاييس صوتية وقواعد وقوانين، لم يكن يعتمد بالدرجة الأولى إلا على الوحي والحس اللغوي النامي، الذي استطاع ضبط هذه المعايير الصوتية. فالدراسات الصوتية التي وصلتنا في التجويد، وكتاب “مفتاح العلوم” “للسكاكي”، لا تختلف عما توصل إليه اللغويون في العصر الحديث، حيث ضبطت هذه المعايير على أحدث الأجهزة الصوتية وأدقها.

ولا يمكن لامرئ تعمق في دراسة علوم العربية، إلا أن يرى المستوى الحضاري الذي توصلت إليه العربية في ارتقاء المقاييس، ودقة القواعد، والتناسب المدهش بين الصوت والدلالة، مما يحدوه حتمًا إلى القول إن العربية قديمة في وجودها قدمًا يسمح لتكوينها على مثل هذا المستوى الرفيع، وإنها توقيفية إلهامية، ليست من صنع البشر كما أشار اللغويون القدامى إلى نشأتها، أمثال أبي علي الفارسي، وأبي الفتح بن جني، إبان دراساتهم اللغوية. فـ”أبو الفتح” في خصائصه يقول: “واعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث عن هذا الموضع (يعني النشأة)، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي مختلفة جهات التغول على فكري، وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة، ما يملك جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله”.

لقد ظهرت علوم العربية مع إطلالة نور الهدى، فكان القرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة، حافزًا قدسيًّا شحذ الهمم، وأنار البصائر، فانبثقت عنه علوم العربية، ووضعت لفهمه العلوم في موضعها التقعيدي والقياسي.

القرآن الكريم مفتاح العلوم

فقد وضع أبو الأسود الدؤلي في خلافة علي  بأمر منه، قواعد النحو؛ صيانة لسلامة النطق وضبطًا للقرآن الكريم، وتعتبر هذه الانطلاقة بدءًا لعلم إعراب القرآن بخاصة وعلم النحو بعامة.

كما أن بلاغة القرآن الكريم المعجزة، هيأت العقول النيرة لكشف هذه البلاغة فاتحدت فيهما حوافز الملاحظة والموازنة بين فروع هذا العلم المتعدد، ونشأ عنها علم الأساليب الذي ألف فيه الجاحظ “البيان والتبيين”، وأتى بعده عبد القاهر الجرجاني يتم ما بدأه الجاحظ بنظرية النظم المعروفة.

ونشأ علم الكلام المقترن بعلم الاستدلال والمنطق والفلسفة، وصولاً إلى فهم آي القرآن الكريم، ومنطلقًا لإيضاح ما استغلق على أفكار الشعوبية والشانئين.

ولقد وصلت العلوم اللغوية في القرن السادس الهجري إلى ثمانية علوم، واتضح في كتاب “مفتاح العلوم” للسكاكي هذا العدد من العلوم اللغوية في عداد علمي النحو والصرف، وعلوم البلاغة الثلاثة، وعلم الاستدلال، وعلم العروض، وعلم القوافي، فضلاً عما ذكرت سابقًا من علوم أخرى، يضاف إليها ما أتى به أحمد بن فارس من علم عرف حديثًا باسم “علم البنية”، وصنفه أحمد بن فارس تحت اسم “المقاييس”، يريد به مقاييس للأصول اللغوية، وما أتى به علماء آخرون من معاجم الدلالة كـ”المخصص” لابن سيده مثلاً.

ومن وراء العلوم اللغوية، علوم جمة كان للقرآن الكريم الفضل الأول في ظهورها، ومن وراء العلوم جميعًا علوم تريد أن ترى النور، إلا أنها لا تنشأ وتزدهر إلا في ظل جمعيات لغوية، ومدارس لعلماء مختصين متفرغين يبحث كل عالم منهم في زاوية منها، وتلتقي آراؤهم في قواعد ثابتة مدروسة.. ولن تتاح لمثل هذه العلوم فرصة الظهور، إلا في دارات للبحث العلمي في دور علماء متفرغين، يعيدون للأذهان مجدًا لنا عريقًا في البحث العلمي، ظهر في زمن المأمون ومن وليه من الخلفاء.. فكانت دار الحكمة دارًا مزدهرة تضم في دارات متعددة أنواع الاختصاص العلمي، وتفرد فيها علماء أجلاء، تفرغوا من كل أعباء الحياة وأعراضها إلى اختصاصهم، يبدعون فيه ويخترعون.. وآخرون ناسخون تقوم دور النشر الخاصة بالإبداع العلمي مقامهم في العصر الحديث.

فالآداب المقارنة -مثلاً- لا يمكن أن تزدهر إلا في ظل جمعية مؤلفين، ومزايا اللغة العربية فيها لا يمكن أن تستبين إلا بعمل جاد جماعي. فالعروض الذي تنفرد فيه لغتنا من دون اللغات وعمود الشعر ونهج القصيد، والالتزامات التي ينبغي أن يتقيد بها الشعراء الحديثون.. كل هذه القواعد البانية للأدب على مناهج مرعية، لن تكون إلا في ظل مدرسة حديثة للشعر والنثر.

فعلم اللغة العام، وعلم اللغة المقارن، لن ينضما إلى صرحنا اللغوي الكبير، إلا بعد جهد جماعي مخلص في شتى المجالات، في البحث والدرس والتأليف والنشر.. وليس هذا على من طبعوا على الحكمة والأصالة ببعيد.

 

(*) كاتب وباحث مصري.