إن التعليم هو أساس الثقافة والمكوِّن الرئيس للفكر، وعلى ضوء نوع التعليم يتحدد نوع الثقافة والفكر ومن ثم السلوك بل وهوية المجتمع. وهناك نوعان من التعليم؛ أحدهما صالح يقود إلى سعادة الدنيا والآخرة، وآخر يقود إلى الفساد والدمار المادي والمعنوي.

فتح الله كولن في ميدان التطبيق
يبرز الأستاذ فتح الله كولن كواحد من أبرز الداعين إلى إصلاح المجتمع من خلال التعليم، ولكنه يتميز بصدارة التطبيق العملي لهذه الدعوة والنجاح الباهر في نتاجها. فقد آمن الأستاذ فتح الله كولن مبكرًا بأن أعداء الأمة الحقيقيين ثلاث آفات؛ هي الجهل، والفقر، والفُرقة. فنذر حياته لمحاربة هذا التالوث الذي يفتك بالأمة، جاعلاً من محاربة الجهل أولويته الأولى باعتباره من أهم العقبات أمام بناء الإنسان الصالح ومن ثم المجتمع الصالح النظيف المنتج، فوضع نصب عينيه هدفًا لا يحيد عنه هو بناء جيل جديد، مستلهمًا بذلك السيرة النبوية ودَوْر دار الأرقم بن أبي الأرقم التي علَّمت وربَّت ذلك الجيل القرآني الفريد.
سعى الأستاذ فتح الله كولن إلى بناء منظومة تعليمية تربوية متكاملة، تبدأ من رياض الأطفال وصولاً إلى الجامعة. وبفضل إصراره حققت حركة الخدمة نجاحات كبيرة في بناء هذه المنظومة؛ إذ صار الآن لدى المشروع الآلاف من المدارس في مختلف المراحل منتشرة في تركيا(1)، وعلى امتداد جغرافيا العالم تأخذ على عاتقها مسؤولية تعليم أبناء المجتمعات الموجودين فيها.

نذر فتح الله كولن حياته لمحاربة الجهل والفقر والفرقة الذي يفتك بالأمة، جاعلاً من محاربة الجهل أولويته الأولى، باعتباره من أهم العقبات أمام بناء الإنسان.

فلسفة التعليم في مشروع الخدمة
تُترجم المؤسسات التعليمية لمشروع الخدمة فلسفةَ التعليم التي وضعها الأستاذ فتح الله كولن. فالمتمعن في هذه الفلسفة يلمس أنها تجسّد شخصية الأستاذ وروحه المستندة إلى فهمه للإسلام؛ وأولها الانفتاح على ثقافات العالم وعلومه وأجناسه ودياناته. لذلك لا غرابة في أن تجد في مدارس الخدمة وجامعاتها أبناء كل الثقافات والأجناس والأديان، وهذا تجسيد لمفهوم عالمية الإسلام، باعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث لكل الناس، مثلما أنه تطبيق عملي لقوله تعالى: (لِتَعَارَفُوا).
لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل الناس، ولذلك فالإسلام دين جاء لخيرَي الدنيا والآخرة؛ من هنا تجمع فلسفة التعليم التي وضعها الأستاذ كولن لمؤسسات الحركة التعليمية بين علوم الدين وعلوم الدنيا، كما تمزج بين العلم والإيمان المبني على الأخلاق، من خلال المعلم القدوة في السلوك والالتزام الذي يهدف إلى بناء الإنسان على قواعد السلوك الإنساني القويم، ويبني لديه منظومة قيمية متكاملة، من خلال التفاني والإخلاص والشفقة والمتابعة والدقة والأناقة والنظافة التي هي عنوان المسلم بعيدًا عن مفهوم المعلم الموظف.
وهذه الفلسفة التعليمية التربوية مبنية على التعليم بالحب من خلال نيل حب وثقة الطالب وأهله، لبناء عملية تربوية تعليمية متكاملة تشارك فيها الأسرة والمدرسة؛ لإنقاذ الطالب من مخاطر الانفصام بين المدرسة والأسرة التي تعاني منها جلُّ المدارس في هذا العصر. وهذا النوع من التعليم يخرج إنسانًا محبًّا لعائلته ومدرسته ووطنه وأمته، يتمتع بحسّ وطني وتاريخي ويعمل لخدمة مجتمعه. وتبرز أهمية ذلك أنه يتم في زمن مادي تُخرِّج فيه جلُّ المؤسسات التعليمية إنسانًا يتقن فَنَّ الأخذ ولا علاقة له بروح البذل والعطاء.
كذلك فإن المتأمل في فلسفة التعليم -كما تطبقها مدارس الخدمة- يلمس بوضوح مفهوم التعليم المستمر؛ أولاً من خلال الكم الهائل من النشاطات -خارج إطار المنهج الدراسي- التي تطبقها هذه المدارس بهدف بناء شخصية متكاملة متوازنة للطالب بعيدًا عن التلقين والحشو.. وتساهم في هذا البناء نوادي الأنشطة التي تُقام للطلاب، وكذلك المعسكرات الصيفية، بالإضافة إلى مساهمتهم في أنشطة أخرى. فالفلسفة التعليمية للخدمة كما وضعها الأستاذ، تهدف إلى تنمية الإبداع في مختلف المجالات بهدف بناء شخصية متكاملة لدى طالبها.
ويبرز مفهوم التعليم المستمر في فلسفة التربية والتعليم التي وضعها الأستاذ لمؤسسات التعليم في الخدمة، في أنَّ علاقة الطالب لا تنقطع مع مدرسته وجامعته مدى الحياة عبر العديد من القنوات؛ وهي فلسفة مستمدة من مفهوم دار الأرقم التي بنت الإنسان على المثال الذي يريده خالقه، وكما جاء بها الإسلام، والتي تحييها الآن فلسفة التربية والتعليم التي وضعها الأستاذ فتح الله كولن، وآتت أكلها في إصلاح الكثير من المجتمعات، وقدمت برهانًا عمليًّا على أن التعليم هو أساس الإصلاح، فعندما تُربّي إنسانًا صالحًا، فإنك تُربّي سياسيًّا صالحًا، واقتصاديًّا صالحًا، ومثقفًا صالحًا، ومن ثم مجتمعًا صالحًا.

إن المتأمل في فلسفة التعليم يلمس بوضوح مفهوم التعليم المستمر؛ أولاً من خلال الكم الهائل من النشاطات التي تطبقها هذه المدارس بهدف بناء شخصية متكاملة متوازنة للطالب بعيدًا عن التلقين والحشو.

محضن غير تقليدي
لم تقتصر جهود الأستاذ فتح الله كولن لإصلاح المجتمع من خلال التعليم عند حدود المؤسسات التقليدية للتعليم، فقد انطلقت مسيرته في مجتمع شديد المحافظة، حيث كانت الأسر التركية المحافظة تمتنع عن إرسال بناتها إلى المدارس خوفًا عليهن من الانحلال والإلحاد. مثلما لم تكن ترسل أبناءها الذكور إلى الجامعات لنفس السبب، مما يعني تفشي الجهل والتخلف وهما الأرضية الخصبة للفساد، الذي تصدى له الأستاذ فتح الله بإقامة المؤسسات التعليمية التي يطمئن إليها الناس، فاستلهم من سيرة رسول الله  تجربة دار الأرقم بن أبي الأرقم، فبدأ بتأسيس بيت للطلبة، حيث كان الطالب فيه يخضع لبرنامج محدد في التعلّم والتربية والسلوك.
وقد أعاد هذا البرنامج صياغة شخصية الطلاب الذين التحقوا به، مما يؤكد أن التعليم المشبع بالثقافة والفكر، هو أساس إصلاح الإنسان ومن ثم مجتمعه، حيث لمست أسر هؤلاء الطلاب حجم التغيير في سلوك أبنائها وانضباطهم، وإيجابيتهم نحو مجتمعهم، واحترامهم لمن هو أكبر منهم، وتفوقهم الدراسي ونشاطهم الاجتماعي، مما ساعد على انتشار فكرة بيوت الطلبة التي أسستها الخدمة في كل أنحاء تركيا.
وقد أسهمت هذه البيوت في تحقيق الهدف الذي سعى إليه مؤسسها، وهو بناء جيل جديد من الشباب المؤمن بدينه وأمته. كما أسهمت هذه البيوت في إنقاذ الجامعات التركية من الفكرَين الماركسي والقومي المتعصبين، وهي نتيجة تؤكد ما ذهبنا إليه عن دور التعليم المشبع بالثقافة والفكر. كل ذلك من خلال العمل الجاد الصامت الذي يقدم نموذجًا عمليًّا عن دور التعليم في إحداث الإصلاح الحقيقي للمجتمع ولواقع الناس، من خلال تغيير نفوسهم بعيدًا عن الاستفزاز وعن الخطابة والموعظة الخشنة.
الإعلام والتعليم
أدرك الأستاذ مبكرًا، وبحكم تجربته التي مكنته من معرفة عوامل التأثير في المجتمع وتفهمه لقضايا مجتمعه ومشكلاته، أن الأسرة والمدرسة لم تعودا وحدهما عنصري التربية والتعليم الرئيسيين. فقد صار الإعلام هو الآخر، شريكًا أساسًا في تعليم الإنسان وفي صياغة مفاهيمه وقناعاته وسلوكه، مثلما صار وسيلة أساسية من وسائل نشر الفكر والدعوة. ولأن الأستاذ فتح الله كولن داعية حريص على نشر دعوته مثلما هو ابن عصره، كان لا بد له من أن يوجه تلاميذه إلى امتلاك أدوات العصر، من هنا كان التوجه بأن يكون للخدمة وسائلها الإعلامية التي تسهم في تعليم الناس عبر تزويدهم بحقائق واقعهم، فترشدهم إلى السلوك القويم نحوها.
صحيح أن إعلام التجربة بدأ بدايات متواضعة تمثلت في مجلة “سيزينتي” (الرشحة)، لكنها بداية كانت تملك الإيمان والإصرار والوضوح، لذلك نجحت الحركة في بناء منظومة إعلامية متكاملة، من بينها مجموعة “زمان” أكبر الصحف التركية وأكثرها انتشارًا، حيث كانت توزع يوميًّا حوالي مليون نسخة، و”زمان” لم تكن صحيفة تقليدية كالصحف التي نعرفها، لكنها كانت صحيفة ذات رسالة، لذلك تختلف حتى في طريقة توزيعها، حيث يتم تسويقها على قاعدة الاشتراك، بهدف بناء علاقة حميمة مع الأسرة، تحقيقًا لهدفها الرئيس وهو تقديم حلول ناجعة للمشاكل التي يواجهها المجتمع. كما تقوم بإصدار ملاحق دراسية للطلبة تعزيزًا لدور الخدمة في التعليم؛ ويأتي ذلك كله انسجامًا مع فلسفة نموذج الخدمة في الإصلاح من خلال العمل، وأوله العلم النافع وفق رؤية الإسلام التي استقى منها الأستاذ فتح الله كولن.
لا يتوقف التعليم عبر إعلام تجربة الخدمة عند مجموعة “زمان”، فهناك أيضًا مجموعة “كايناك” للنشر التي هي بدورها منظومة فكرية متكاملة، تؤدي دورها في تعليم المجتمع وتنويره؛ بدأت بمجلة “سيزينتي” التي صدرت بهدف تربية جيل على أساس علمي إيماني، باعتبار أن كل ما في الكون آية من آيات الله في العلوم، وقد صار لهذه المجلة أكثر من ثلاثين أختًا، هي مجلات تصدر بعدد من اللغات من بينها مجلات متخصصة بالطفل والمرأة.. إلخ. وتقف في طليعة هذه المجلات مجلة “حراء” التي تصدر باللغة العربية، والتي لم تعد مجرد مجلة، لكنها تحولت إلى جسر للتواصل بين أبناء الحضارة الإسلامية وثقافتها وأهل الفكر فيها.
بالإضافة إلى مجموعة المجلات التي تصدرها مجموعة “كايناك”. فإنها تمتلك دورًا للنشر، تصدر كتبًا بلغات مختلفة منها العربية، كما تمتلك المجموعة موقعًا إلكترونيًّا بلغات مختلفة، وتصدر كتبًا مدرسية متطورة، وكل هذه المطبوعات من مجلات وكتب لا تأتي عفو الخاطر ولا تصدر منبتَّة عن بعضها، لكنها تشكل عِقْدًا متكاملاً تقف وراءَها عقول مستنيرة يواصل أصحابها من محبِّي الأستاذ كلالة الليل بكلالة النهار، ليقدموا للأمة بل وللعالم خلاصة ما يصل إليه العقل المؤمن المستنير، وأولئك هم مجموعة “الأكاديمية” ذات الدور المتميز في التعليم الذي يصلح العقول لتصلح البيئة التي يصل إليها نتاج هذه العقول كما علمهم الأستاذ فتح الله.
إضافة للإعلام المكتوب والإلكتروني، فقد نجحت حركة الخدمة في تأسيس منظومة إعلام مرئي ومسموع، تجسده مجموعة “سمان يولو” (Samanyolu) التي تمتلك العديد من القنوات التلفزيونية والإذاعات المسموعة. وهذه المجموعة بدورها تتحدث بلغات مختلفة، ولديها قنوات متخصصة، مثلما أنها نجحت في اقتحام مجال الدراما، فأنتجت العديد من المسلسلات الهادفة. غير أن التحدي الكبير الذي نجحت فيه هذه المجموعة التي انطلقت وهي تفتقر إلى الكوادر البشرية المدربة، أنها وبعد خمس سنوات من انطلاقتها صارت ترفد السوق التركي بالكوادر الفنية المدربة. وكل هذه الإنجازات تعطينا الدليل تلو الآخر على دور التعليم بوسائله المختلفة في إحداث الإصلاح المطلوب، خاصة في نفس الإنسان؛ وقد تجلى هذا الأثر أثناء الأزمة الاقتصادية التي مرت بها تركيا عام 1995، حيث برزت روح التضحية لدى العاملين في المجموعة، حفاظًا على المشروع الرسالي الذي آمنوا به. أما في أزمة عام 2000 الاقتصادية، والتي هددت المشروع بالإغلاق، فقد تدافع الناس للتبرع بما يملكون للمحافظة على مشروعهم الرسالي، حتى لقد تبرعت النساء بمصاغهن للحفاظ على استمرارية المشروع، وهذا السلوك يعكس أثر المصلح وأسلوبه في التعليم على المحيط.

قد استوعب الأستاذ تجربة عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في تسخير أموالهما لخدمة دعوة الله سبحانه وتعالى، فجعلهما وغيرهما من الصحابة نموذجًا يَقتدي به محبُّوه من رجال الأعمال الذين علّمهم كيف يسخّرون أموالهم ويطهرونها عبر الخدمة

بالإضافة إلى المؤسسات الإعلامية المهنية المرتبطة بحركة الخدمة، فقد أقامت الحركة وَقفًا للصحفيين والكتاب يعتبر واحدًا من أنشط الأطر الصحفية والإعلامية والفكرية في تركيا. مثلما يتعاون الوَقْف مع النقابات والجمعيات الصحفية والأدبية في العالم، من خلال المؤتمرات والندوات في مجال حوار الثقافات والأديان وغيرها من المناشط الثقافية والفكرية. كل ذلك لأن الأستاذ فتح الله يؤمن بأن الحوار هو من أهم وسائل التعليم وإيصال الحقيقة للناس والتأثير في قناعاتهم ومواقفهم وسلوكهم.

وسائل الدعم المادي
قد يتساءل البعض، كيف استطاعت حركة الخدمة أن تُقيم كل هذه المؤسسات؟ والجواب عن هذا السؤال يقودك إلى أثر من آثار التعليم النافع ودوره في إصلاح نفوس الناس، ومن ثم إصلاح واقعهم. ذلك أن الأستاذ فتح الله كولن -وهو الذي قرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعاها وعيًا كاملاً- هو نفسه ابن عصره الذي صار فيه المال عصب الحياة كما هو في سائر العصور، لكن تَميُّز الناس يكمن في كيفية استخدام المال وتوظيفه.
وقد استوعب الأستاذ تجربة عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في تسخير أموالهما لخدمة دعوة الله سبحانه وتعالى، فجعلهما وغيرهما من الصحابة نموذجًا يَقتدي به محبُّوه من رجال الأعمال الذين علّمهم كيف يسخّرون أموالهم ويطهرونها عبر الخدمة، وهكذا كان؛ فمنذ البداية الأولى سعى رجال الأعمال المؤمنون الذين اقتنعوا بأفكار الأستاذ ومشروعه، إلى تسخير إمكانياتهم لخدمة الدعوة، ابتداء من أول بيت للطلبة أقامه الأستاذ فتح الله كولن، وصولاً إلى كل المؤسسات التي أقامها أبناء الخدمة، وجلّ ذلك يجري من خلال اتحاد رجال الأعمال “توسكون” الذي يضم آلافًا من رجال الأعمال المؤمنين بأفكار الخدمة التي يبذلون في سبيلها مالهم ووقتهم وجهدهم، علمًا بأن نسبة عالية من هؤلاء شباب، ساروا على هذا الدرب ليقدموا الدليل العملي على دور التعليم في الإصلاح.

(*) رئيس تحرير جريدة “اللواء” الأردنية / الأردن.

الهوامش
(1) أغلق الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) في تركيا كافة المؤسسات التربوية والتعليمية المذكورة في المقال من مدارس وجامعات ومعاهد، ومؤسسات ثقافية وتجارية وإعلامية وإغاثية للخدمة بعد الانقلاب المزعوم في 15 يوليو/تموز 2016م، دون أيّ مبرر قانوني، وشردت مئات الآلاف من العاملين في هذه المؤسسات. (المحرر)