مركزية الإنسان بين الاستخلاف والعبادة وعمارة الأرض

إن مركزية الإنسان في الفكر الفلسفي الحديث تعني أن الإنسان هو المحور الأساسي لكل متغيرات الكون، وهذا ما يعرف بـ”النزعة الإنسانية أو الأنسنة”، وأصحاب هذه الرؤية جعلوا الأنسنة هي المخلص للعالم كله بشرط تحرير العقل من التقليد وفتح باب التأويل، ومن هنا تكون المركزية والمرجعية للإنسان وحده في تعامله مع النصوص الدينية، والكون من حوله.

وأما مركزية الإنسان في فكر بعض المتدينين فهي جعل الدين فقط محور التغيير في الكون، مهملين الدور الإنساني في هذا التغيير.

والحقيقية أن هناك خلطًا في مفهوم مركزية الإنسان، وهناك تفسير جزئي لهذه المركزية من قبل الطرفين (أصحاب النزعة الإنسانية، وأصحاب النزعة الدينية  القاصرة إن صح التعبير)، وسبب هذا الخلط -في المفهوم الذي سيؤدي بالطبع إلى خطأ في التطبيق- عدم ربط مركزية الإنسان بقضية الاستخلاف والعبادة وعمارة  الأرض، وهذا هو السبب الأول، والسبب الثاني هو الخلط بين ما يختص بعالم الشهادة (الكون، الطبيعة، الواقع ،الأحداث، التاريخ…) وعالم الغيب، فمركزية الإنسان تدور في فلك ونطاق عالم الشهادة، وليس عالم الغيب، والسبب الثالث هو الظن بوجود تعارض بين الاستخلاف وعمارة الأرض ومركزية الإنسان.

ومن هنا -ولفك هذا الاشتباك- يجب أن نرجع إلى الخطاب القرآني في حديثه عن المركزية الإنسانية، والأحاديث النبوية؛ لفهم هذه المركزية؛ وذلك لأنهما قد ربط بين مركزية الإنسان، ومركزية الاستخلاف، والتعبد والعمارة، وسيتم الحديث عن هذه المركزية من خلال ثلاثة نصوص قرآنية، وثلاثة أحاديث نبوية.

أولا: المركزية الإنسانية في الخطاب القرآني:

– الآية الأولى التي سنستشهد بها على المفهوم الصحيح لمركزية الإنسان: قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(البقرة:30). ومعنى الخلافة في الآية -والله أعلم- استخلاف الأجيال، والحضارات، والثقافة، والعلم، والتعمير، مما يساعد الإنسان أن يكون نقطة ارتكاز إصلاحية، يبنى إصلاحه على تعمير الدنيا والآخرة. وهذه نقطة المركزية الأولى للإنسان.

إن مركزية الإنسان في الفكر الفلسفي الحديث تعني أن الإنسان هو المحور الأساسي لكل متغيرات الكون، وهذا ما يعرف بـ”النزعة الإنسانية أو الأنسنة”،

– والآية الثانية” قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(البقرة:21). وهذه الآية تبين نقطة الارتكاز الثانية وهي الأمر بالعبادة، ولكن العبادة القائمة على الحرية وعدم الإكراه في ضوء قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(البقرة:256).

– والآية الثالثة: قوله تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(هود:61). وهذه الآية تبين المركزية الثالثة للإنسان وهي التعمير القائم على الإيثار وليس الأثرة، وتقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، ونفع الكون كله (الإنس، والجن، والجماد، والحيوان…).

إن من يتدبر الخطاب القرآني يلاحظ أن لفظة الإنسان أو الناس لها وجودًا مركزياً فيه، وهذه المركزية الإنسانية في الخطاب القرآني نجدها في الآيات المذكورة سابقًا وغيرها لكن هذه المركزية ليست مركزية المُشرع والمتحكم في الكون وإنما مركزية المستخلف، والمُتعبد والمعمر.

ثانيا: المركزية الإنسانية في الخطاب النبوي:

أما الأحاديث النبوية التي تركز على مركزية الإنسان بمفهومه الشامل الجامع بين الاستخلاف والتعبد والتعمير:

– فقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”. لم يقل -صلى الله عليه وسلم- إذا قامت الساعة فليصل أحدكم ركعتين، بل أمر بالتعمير حتى قيام الساعة.

– وقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.

صدق جارية (جانب التعبد)، علم ينتفع به (جانب التعبد مع التعمير)، وولد صالح (جانب الاستخلاف واستمرار الذرية والنسل البشري).

– وقوله صلى الله عليه وسلم” : بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش ، فوجد بئرًا ، فنزل فيها ، فشرب ، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني ، فنزل البئر فملأ خفه ، ثم أمسكه بفيه حتى رقي  فسقى الكلب ، فشكر الله له فغفر له ، فقالوا : يا رسول الله ! وإن لنا في البهائم لأجرا ؟ فقال: ” في كل ذات كبد رطبة أجر”. في هذا الحديث بيان واضح أن مركزية الإنسان في التعبد والتعمير لا تقتصر على الإنسان فقط، فالرجل يسقي كلبًا فيأخذ أجرًا، ويحافظ على الكلب من الموت، وفي هذا الحديث نظرة شمولية لمسألة التعبد القائم على الإعمار لكل دابة في الكون.

عوامل إنجاح المركزية الإنسانية

من أجل إنجاع هذه المركزية الإنسانية في ظل الاستخلاف والتعبد والتعمير هيأ المولى سبحانه للإنسان السبل ويسر له الوسائل، ومن هذه الوسائل:

إن من يتدبر الخطاب القرآني يلاحظ أن لفظة الإنسان أو الناس لها وجودًا مركزياً فيه، وهذه المركزية الإنسانية ليست مركزية المُشرع والمتحكم في الكون وإنما مركزية المستخلف، والمُتعبد والمعمر.

سخر الله -سبحانه- ما في السماوات وما في الأرض للإنسان، قال تعالي: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الجاثية:13). والتسخير لا يعنى أن الأرض تقدم نفسها هبها، وإنما تقدم نفسها للباحث عنها، ودليل ذلك أن الله عندما طلب منا عمارة الأرض طلب منا كذلك أن نبحث عن وسائل عمارتها فقال لنا: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ”(الملك:15). إن هذا التسخير القائم على البحث والسعي في أرض الله له قوانينه المطردة حتى على عالم الطير والحيوان، قال صلى الله عليه وسلم: “لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانًا”.

 منح الإنسان القدرة المادية والمعنوية لتحقيق هذه المركزية، قال تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ)(الملك:23).

– أرسل إليه الرسل برسالة الإيمان والتوحيد والقيم والأخلاق والتشريعات التي توافق وتتوافق وتتناسب مع الزمان والمكان والأشخاص، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا”(الفتح:28).

– منحه العقل وحذره من تعطيله أو استخدامه في غير موضعه؛ لأن تعطيل العقل واستخدامه في غير موضعه يسلب الإنسان إنسانيته، فيصبح كالأنعام بل أضل، قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)(الأعراف:179).

– رزقه فطرة نقيه إصلاحية خالية من الشرك، ووجدان وقلب سليم، قال صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”.

– المكافأة وحسن الأجر والثواب والنعيم الدائم الذي لا ينفد، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) (الكهف:107-108).

ومما سبق ومن خلال النظر إلى مركزية الإنسان في الخطاب القرآني والنبوي يتبين لنا أن مسألة الإنسان، تحتل مكانًا مركزيًّا في الخطاب القرآني والنبوي، وأن تفسيرات المفكرين والعلماء والمثقفين وغيرهم للمركزية الإنسانية لابد أن تكون تفسيرات شاملة وكاملة، كي نأتي بالمفهوم الصحيح لكل مصطلح، ومن ثم نطبقه تطبيقًا صحيحًا على أرض الواقع.