محاور البُعد الأخروي في فكر النورسي

لا يخفى أن الناس المخاطَبين يختلفون في استعداداتهم للقَبول، لاختلاف طبائعهم أو ثقافاتهم أو أزمانهم، فيكون لكلّ مدخل يدخل منه اليقين، وتلك هي الداعية التي دعت النورسي إلى التنويع في مسالك الاستدلال على عقيدة البعث، ومن أهم تلك المسالك نورد ما يلي:

1- مسلك الأنفس

استجابة للدعوة القرآنية التي توجه إلى أن تكون النفس الإنسانية منطلقا للاستدلال على حقائق العقيدة، فإن النورسي كان دائم الرجوع إلى هذه النفس للتأمل فيها، والتعمق في أغوارها، ليتخذ من مشاهدها مقدمات استدلالية على حقيقة البعث، مستضيئا في ذلك بالبيانات القرآنية في حقيقة النفس الإنسانية حينا، ومستعينا حينا آخر بالمكتشفات العلمية المسجلة في علم النفس، ومستكشفا حينا ثالثا أحوال النفس بتجربة استبطان ذاتي، وهو في كل ذلك يسلك مسلكا واحدا يبتغي فيه إثبات عقيدة البعث، وهو مسلك الأنفس كما جاء في التعبير القرآني. ومما بناه من الأدلة في سلوكه هذا المسلك ما يلي:
أ-دليل الاستعدادات الإنسانية
إن المتأمل في البنية النفسية للإنسان يجد أنه وإن كان هذا الكائن محدودا في طاقاته وقدراته الجسمية، إلا أنه في طاقاته واستعداداته النفسية غير محدود، فهو يحمل من الآمال والتصورات ومن الميول والرغبات ومن القدرات والاستعدادات أقدارا غير متناهية، وفي ذلك يقول النورسي: “يرى العلماء المحققون أن أفكار البشر وتصوراته الإنسانية التي لا تتناهى، المتولدة من آماله غير المتناهية، الحاصلة من ميوله التي لا تحد، الناشئة من قابلياته غير المحدودة، المدرجة في جوهر روحه كل منها تمد أصابعها فتشير وتحدق ببصرها فتتوجه إلى عالم السعادة الأبدية وراء عالم الشهادة هذا”. وما ذلك إلا لأن هذه الحياة الدنيا القصيرة المدى غير كافية لأن تتحقق فيها تلك الميول والآمال والرغبات، وغير كافية لأن تمتد فيها تلك القدرات والاستعدادات لتنفيذ متطلباتها، إذ “جميع لذائذ الدنيا لا تشبع الخيال الذي هو أحد خدام الماهية الإنسانية”. وإذ قد تبين بالدرس أن الكون كله خلق على غير إسراف، فما من موجود كوني إلا وقدرت طاقاته بما يستوفيها في حياته، وهذا القانون الكوني قانون “عدم الإسراف” الثابتَ -حسب علم وظائف الأعضاء- في الفطرة جميعِها ومنها الإنسان لَيبين لنا أنه لا يمكن أن تذهب هباء فيكونَ إسرافا جميعُ الاستعدادات المعنوية والاستعدادات غير النهائية والأفكار والميول؛ ولذلك فإن هذه الآمال والطاقات الإنسانية التي لا يمكن أن تتحقق في الحياة الدنيا لابد أنه قد هُيئ لها وجود آخر تستكمل فيه آمالَها واستعداداتها توافقا مع قانون عدم الإسراف، وتلك هي الدار الآخرة التي تتحقق فيها كل آمال الإنسان وقدراته واستعداداته ورغباته.
بـ-دليل الشوق إلى الأبدية
في فطرة الإنسان حب شديد للبقاء، وشوق جارف إلى السعادة الأبدية “حتى إنه يتوهم نوعا من البقاء في كل ما يحبه، بل لا يحب شيئا إلا بعد توهمه البقاء فيه، ولولا توهم البقاء لما أحب الإنسان شيئا”. وكل فطرة إنسانية يقابلها واقع موجود؛ ففطرة الجوع والعطش يقابلها وجود الطعام والماء، وفطرة الخوف يقابلها وجود الأعداء، وفطرة المحبة يقابلها وجود من يُحب، ولو لم يكن الماء موجودا ما وجدت في الإنسان فطرة العطش، وكذلك الأمر في كل مكونات الفطرة الإنسانية. فهل يكون الأمر كذلك في كل مكونات هذه الفطرة، ويتخلف في فطرةِ حب البقاء وعشق الأبدية؟
إن الاستنتاج العقلي يقضي بأن ذلك غير ممكن، وأنه إذا امتدت كل فطرة في الإنسان إلى ما يقابلها في الوجود، فإن فطرة حب البقاء يقابلها أيضا امتدادُ الإنسان في البقاء في حياةٍ أخرى بعد هذه الحياة، وأن في ذلك الامتداد تُشبع الأشواق إلى السعادة الأبدية، وهو ما عبر عنه النورسي في قوله: “الفطرة التي لا تَكذب أبدا والتي فيها ما فيها من ميل شديد قطعي لا يتزحزح إلى السعادة الأخروية الخالدة، تعطي للوجدان حدسا قطعيا على تحقق الحياة الأخرى، والسعادة الأبدية”، وهو ما عبر عنه أيضا في موضع آخر بقوله: “إن دار الدنيا القصيرة هذه لا تكفي -كما أنها ليست ظرفا- لإظهار ما لا يحد من الاستعدادات المندمجة في روح الإنسان وإثمارها، فلابد أن يرسَل هذا الإنسان إلى عالم آخر. نعم، إن جوهر الإنسان عظيم، لذا فهو رمز للأبدية ومرشح لها”. لقد كانت الأنفُس مسلكا للاستدلال على حقائق العقيدة عند علماء العقيدة، وهو ما تضمنته مؤلفاتهم عبر العصور، استجابةً في ذلك للقرآن الكريم. ولكن الاستدلالات في هذا الخصوص كان معظمها يتعلق بالاستدلال على الألوهية، ولكن الاستدلال بالأنفس لإثبات المعاد لم يكن له رواج في التراث العقدي إلا أن تكون إشارات متناثرة واردة في سياقات مختلفة. أما النورسي فقد أورد الاستدلال بالأنفس على المعاد في مواضع عديدة من مؤلفاته، حتى غدا ذلك مسلكا أساسيا من مسالك استدلاله على عقيدة الآخرة.

2- مسلك الآفاق

لعل هذا المسلك في الاستدلال على البعث هو أوسع المسالك التي دخل منها النورسي ليثبت هذه العقيدة، وليوجه المخاطَبين إليها كي تكون مداخل اليقين بالآخرة إليهم. وبالإضافة إلى أدلة كثيرة بناها بصفة أساسية على مشاهد الآفاق، فإن أدلة كثيرة مما أدرجه ضمن مسالك أخرى كانت لها صلة على نحو أو آخر بآفاق الكون. وقد أدرج النورسي ضمن هذا المسار جملة كبيرة من الأدلة نذكر منها على سبيل التمثيل ما يلي:
أ-دليل الانهيار الكوني
إنما يتم البعث بعد انهيار هذا النظام الكوني الذي يحيا فيه الإنسان الحياة الدنيا، فهذا الانهيار هو إذن مقدمة من مقدمات الحياة الأخرى، أو هو جزء من أجزائها؛ ولذلك فإن الاستدلال على عقيدة الآخرة يتوقف بالضرورة على ثبوت أن هذا النظام الكوني آيل إلى الزوال، وإن لم يثبت ذلك أو ثبت عكسه فإن كل الاستدلالات على عقيدة الآخرة سوف لن يكون لها معنى.
وإذا كانت نصوص الوحي تخبر بأن نظام الكون آيل إلى انهيار كما في قوله تعالى: ﴿إِذَا الشَمْسُ كُوِرَتْ * وَإِذَا النُجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِرَتْ﴾(التكوير:1-3)، فإن هذه النصوص لا تقنع إلا مؤمنا، أما غير المؤمن فيحتاج إلى أدلة أخرى من العقل الفلسفي أو من القوانين العلمية، وهو ما سعى فيه النورسي ببيان أن الموجودات الكونية إذا نُظر إليها أفرادا، وجد كل فرد منها مفطورا على عمر مقدر ينتهي بعده إلى زوال في نظامه الذي يكون عليه. فالكون في جملته يكون كذلك أيضا، وتلك هي بداية اليوم الآخر. لقد شرح النورسي هذا المعنى في قوله: “هناك [في الكون] نشوء ونماء، وإن النشوء والنماء هذا يعني أن له عمرا فطريا في كل حالة، وإن العمر الفطري يعني أن له على كل حالة أجلا فطريا، وهذا يعني أن جميع الأشياء لا يمكن أن تنجو من الموت، وهذا ثابت بالاستقراء العام والتتبع الواسع. نعم، فكما أن الإنسان هو عالم مصغر لا خلاص له من الانهيار، كذلك العالم فإنه إنسان كبير لا فكاك له من قبضة الموت”. وإذا كان هذا الانهيار الكوني لم يحدث بعد فإنه بالحساب العلمي قادم لا محالة، وذلك ما شرحه في قوله: “لئن لم تحدث للدنيا قبل أجلها الفطري وبإذن إلهيٍّ حادثةٌ مدمرة أو مرض خارجي، أو لم يخلّ بنظامها خالقُها الحكيم، فلا شك بحساب علمي أن سيأتي يوم يتردد فيه صدَى ﴿إِذَا الشَمْسُ كُوِرَتْ﴾، عندئذ تظهر معاني هذه الآيات وأسرارها”.
بـ-دليل الاستمرار
إذا كان البعث تستصعِب تصوّرَه بعضُ العقول، فإن ذلك إنما هو بسبب ما يستصعبه العقل من استمرارية بقاء الإنسان حيا بعد موته المشهود للعيان، وذلك من أجل أن يتم حسابه ثم جزاؤه، فهذه الاستمرارية في حقيقة الإنسان -التي سيتم في مرحلتها الثانية الحساب- بالرغم من زوال مظاهره هي التي كانت مناط الإنكار من قِبل أكثر المنكرين للبعث؛ ولذلك فقد كرس النورسي جهدا كبيرا للاستدلال على أن استمرارية الحقائق مع زوال المظاهر أمر ممكن تشهد به مظاهر كثيرة من مشاهد الكون.
إن موجودات كثيرة من موجودات الكون تقضي مدة من وجودها لتقوم بدورها على كيفية مشهودة، ثم تختفي ليُظن أنها قد انقطعت عن الوجود وعن القيام بأي دور، ولكنها في الحقيقه وإن تكن قد اختفت في الظاهر فما زال لها نوع من البقاء تقوم فيه بدور وإن يكن دورا غير ظاهر للعيان، ولكنه مؤثر في الواقع، دال على استمرارية البقاء في حياة من نوع آخر غير نوع الحياة الأولى، وإذا كان ذلك ممكنا بل واقعا في هذه المشاهد الكونية، فإن استمرارية الإنسان في حياة أخرى بعد هذه الحياة ليقوم بدور آخر غير الدور الذي يقوم به في هذه المرحلة من الحياة الدنيا هو أمر ممكن أيضا.
ولشرح ذلك، ولبيان كيف أن الشيء يفنى من جهة إلا أنه يبقى من جهات كثيرة يقول النورسي: “تأمل في هذه الزهرة وهي كلمة من كلمات القدرة الإلهية، إنها تنظر إلينا مبتسمة لنا في فترة قصيرة، ثم تختفي وراء ستار الفناء، فهي كالكلمة التي نتفوه بها، التي تودع آلافا من مثيلاتها في الآذان، وتبقى معانيها بعدد العقول المنصتة لها، وتمضي بعد أن أدت وظيفتها وهي إفادة المعنى، فالزهرة أيضا ترحل بعد أن تودِع في ذاكرة كلِّ مَن شاهَد صورتها الظاهرة، وبعد أن تودع في بذيراتها ماهيتَها المعنوية، فكأن كل ذاكرة وكل بذرة بمثابة صور فوتوغرافية لحفظ جمالها وصورتها وزينتها ومحل إدامة بقائها”، وإذن فإن الصورة قد تزول، ولكن نوعا من وجودها يكون له بقاء.
وليس نشر الأعمال للحساب في يوم آخر غيرِ هذا اليوم الدنيوي بأمر مستغرب، إذ شواهده قائمة في هذه الحياة الدنيا، وهي شواهد دالة على إمكانه، فلو تأملت في هذا الكون فإنك سوف تجد بقانون الوراثة نفسه أنه “لكل ثمر ولكل عشب ولكل شجر أعمال، وله أفعال وله وظائف وله عبودية وتسبيحات بالشكل الذي تظهر به الأسماء الإلهية الحسنى، فجميع هذه الأعمال مندرجة مع تاريخ حياته في بذوره ونواه كلها، وستظهر جميعها في ربيع آخر ومكان آخر، أي إنه كما يذكر بفصاحة بالغة أعمالَ أمهاته وأصوله بالصورة والشكل الظاهر فإنه ينشر كذلك صحائف أعماله بنشر الأغصان وتفتح الأوراق والإثمار”. وكذلك الأمر بالنسبة للإنسان، فإنه وإن قد زالت صورته الظاهرة فسيكون له يوم تنشر فيه أعماله كما نشرت أعمال النبتة بفعل بذرة البقاء.

3- مسلك الإيمان بالله

أشرنا سابقا إلى أن النورسي كان منهجه في الاستدلال على العقيدة هو منهج الوصل بين الأدلة على مفرداتها المختلفة؛ ولذلك فإننا نجده في الاستدلال على حقيقة البعث كثيرا ما يستثمر أدلة قد تقررت في مفردات عقدية أخرى، وخاصة منها تلك الأدلة التي انتهت إلى إثبات عقيدة الألوهية، وبالأخص منها ما تعلق بإثبات الصفات الإلهية، فانطلاقا من تلك الأدلة وما انتهت إليه من إثباتات في شأن تلك الصفات ينطلق لبناء أدلة تثبت حقيقة البعث، وقد تكرر ذلك كثيرا في مؤلفاته، وتحصلت منه جملة من الأدلة نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
أ-دليل القدرة الإلهية
ومقتضاه أن كل من يؤمن بإله يتصف بصفة القدرة، فإن إيمانه هذا من شأنه أن يقوم له مقام الدليل على إمكان البعث؛ ذلك لأن هذه القدرة التي تبدت آثارها جلية في المخلوقات الكونية العظيمة فإن بعث الإنسان حيا ليُحاسَب ويجازى ثوابا أو عقابا سيكون داخلا في مجال تلك القدرة، فيثبت إذن إمكان هذا البعث لوقوع ما هو أعظم منه بفعل القدرة الإلهية.
وعلى سبيل المثال فإن قدرة الله تعالى خلقت الإنسان خلقا ابتدائيا، وهو الأمر المسلّم به، وذاتُ هذه القدرة يمكن بها إعادة الإنسان بعد موته، بل ذلك أهون كما جاء في القرآن الكريم: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾(الأنبياء:104)، “وحيث إنه ليست هناك مراتب قط في القدرة الإلهية الأزلية، لذا فالمقدرات هي حتما واحدة بالنسبة إلى تلك القدرة، فيتساوى العظيم جدا مع المتناهي في الصغر، وتتماثل النجوم مع الذرات، وحشر جميع البشر كبعث نفس واحدة، وكذا خلق الربيع كخلق زهرة واحدة سهل هين أمام تلك القدرة”.
وإذا كانت هذه القدرة الإلهية في هذا العالم المشهود تَصنع النقيض من نقيضه كما جاء في قوله تعالى: ﴿الَذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا﴾(يس:80)، فإنها يمكن أن تصنع من الموت حياة فيكون البعث. وبهذا المعنى يقول النورسي للمخاطَبين لإقناعهم بإمكان البعث: “إنكم ترون إحياءَ واخضرار الأشجار الميتة، فكيف تستبعدون اكتساب العظام الشبيهة بالحطب للحياة ولا تقيسون عليها؟”. إن من يؤمن بقدرة الله إذن يترتب عليه أن يؤمن بإمكان بعث الأموات أحياء، كما يرى بشهادة الحواس أن القدرة الإلهية تحيي الإنسان ابتداء، وتخرج الحي من الميت والميت من الحي.
بـ-دليل الحكمة والعدل
لقد خلق الله تعالى هذا الكون على أساس من العدل والحكمة، فكل شيء فيه قائم على حكمة، ومبني على توازن، وهي حكمة لا يشوبها خلل، وتوازن لا يداخله تفاوت، وهذا النظام البديع في الكون شاهد على ذلك، سواء في تركيب الموجودات أو في حركاتها أو في علاقاتها ببعضها، وما زالت العلوم الكونية تكشف عن ذلك يوما بعد يوم، حتى أصبح هذا الأمر أمرا مسلّما من قِبل جميع الناس، بل إن هذه المَظاهر من الحكمة والعدل التي يتقوم بها الوجود الكوني من أصغر الموجودات إلى أعظمها ما زالت يوما بعد يوم تجتذب العلماء المحققين في أسرار الطبيعة إلى دائرة الإيمان بالله تعالى، وذلك من خلال الوقوف على مظاهر حكمته وعدله.
ولكن بالنسبة للإنسان الذي خُلق على حرية في الاختيار وحُمّل أمانةَ التكليف، فإننا نرى حياته بمقتضى هذه الحرية لا يتحقق فيها العدل والحكمة، إذ كثيرا ما نرى ظالمين مجرمين يعيشون في الدنيا عيشة هنيئة ولا يلقون في حياتهم عقابا على ظلمهم وإجرامهم، ونرى آخرين مظلومين ومحسنين ولكنهم يعيشون حياة صعبة ويتعرضون لابتلاءات شديدة، ولا ينالون في مقابل إحسانهم جزاءً ولا مقابلَ مظلوميتهم عدلا، وذلك ما هو مُشاهَد في الحياة الاجتماعية.
ولو انتهى أمر الحياة على هذا النحو، فيذهب الظالم بظلمه دون عقاب ويذهب المحسن بإحسانه دون ثواب، لكان ذلك خرقا لما بُني عليه الكون من الحكمة والعدل، ولمَاَ كان الله تعالى متصفا بهما، والحال أن ألوهيته تقتضي الاتصاف بهذه الصفات، فالإيمان بهذه الصفات يقتضي إذن أن تكون حياة الإنسان ممتدة إلى مدى أبعدَ من هذا المدى الدنيوي، وهو مدى أخروي يتم فيه العقاب للظالم المعتدي والثوابُ للمحسن المظلوم، وحينئذ يتم التوازن والعدل وتتحقق الحكمة.
لقد ردد النورسي هذه المعاني في مواقع متعددة، ومن ذلك قوله: “يظل الإنسان دون جزاء في هذه الدنيا لما يرتكبه من وقائعِ الظلم وما يقترفه من إنكار وكفر وعصيان تجاه مولاه الذي أنعم عليه ورباه برأفة كاملة وشفقة تامة، مما ينافي نظام الكون المنسق ويخالف العدالة والموازنة الكاملة التي فيها ويخالف جماله وحسنه، إذ يقضي الظالم القاسي حياته براحة، بينما المظلوم البائس يقضيها بشظف من العيش، فلا شك أن ماهية تلك العدالة المطلقة التي يُشاهَد آثارُها في الكائنات لا تَقبل أبدا ولا ترضى مطلقا بعدم بعث الظالمين العتاة مع المظلومين البائسين الذين يتساوون معا أمام الموت”، وإذن فإن الإيمان بعدالة الله تعالى وحكمته يمكن أن يُستدل بها على ضرورة البعث في اليوم الآخر.

4- مسلك المنفعة

كثيرا ما كان القرآن الكريم يعرض العقيدة الإسلامية في سياق الدعوة إلى الإيمان بها عرضا استدلاليا ببيان ما تحقِّقه تلك العقيدة للإنسان من نفع في حياته الدنيا قبل حياته الأخرى، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُ الْقُلُوبُ﴾(الرعد:28)، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾(طه:124)، ففي الآيتين دعوة إلى الإيمان بالله في سياق استدلالي ببيان ما يؤدي إليه ذلك الإيمان من منفعةِ اطمئنان القلوب، وما يؤدي إليه عدم الإيمان من شقاء المعيشة، ولا غرو فإن الدين كله -والعقيدة على رأسه- لم يكن إلا من أجل تحقيق النفع للإنسان.
وقد كان النورسي متقفيا لهذا المنهج القرآني في استدلاله على الآخرة، إذ كثيرا ما كان يعرض هذه العقيدة لإقناع المخاطَبين في سياق الاستدلال عليها بما تحققه من نفع دنيوي، فاتخَذَ إذن من المنفعة الحاصلة من الإيمان بالبعث دليلا على أن هذه العقيدة جدير بالإنسان أن يؤمن بها، وإذا كان هذا الضرب من الاستدلال يتجه إلى إقناع المخاطَب بالإيمان بالبعث بما هو خارج عن حقيقته الذاتية وهو المنفعة التي تحصل منه، وليس بما هو متعلق بذات تلك الحقيقة، فإنه استدلال مشروع، لأنه يفضي إلى ذات النتيجة، إذ ما تتحقق به منفعة حقيقية للإنسان لا يمكن أن يكون إلا حقا في ذاته، فتثبت إذن أحقيتُه الذاتية من خلال نتائجه؛ ولذلك فقد صاغ النورسي جملة من الأدلة على عقيدة البعث من خلال ما تُحققه من منافع. ومن تلك الأدلة ما يلي:
أ-دليل المنفعة الفردية
بيّن النورسي في مقامات عديدة من مؤلفاته كيف أن الإيمان باليوم الآخر تترتب عليه منفعة نفسية بالغة الأهمية، وتنبثق منه للمؤمن سعادة غامرة، وتكسبه صفات حميدة ترشد أداءه فيما قُدر له من وظيفة خُلق من أجلها، وكذلك تزول به أمراض كثيرة تغشى النفوس وتسبب لها آلاما قد تبلغ بها مبلغ اليأس والقنوط، بل قد تبلغ درجة السعي للتخلص من الحياة، أو تُحْدث فيها قصورا وعاهات تقعد بها عن أداء المهام المطلوب من الإنسان أداؤها في مجمل حياته أو في تصرفاته اليومية.
ومن ذلك على سبيل المثال أن “ما يقلق الإنسان دوما وينغص حياته هو تفكيره الدائم في مصيره وكيفيةِ دخوله القبر، مثلما انتهى إليه مصير أحبته وأقاربه. فتوهُّمُ الإنسانِ أن آلافا بل ملايينَ الملايين من إخوانه البشر ينتهون إلى العدم بالموت ذلك الفراقِ الأبدي الذي لا لقاء بعده سيذيقه هذا التصور ألما شديدا [ولكن حينما يؤمن بالآخرة فإنه] يكسب لذة روحية عميقة تنبئ بلذة الجنة، بما يشاهده من نجاة أحبته وخلاصهم جميعا من الموت النهائي والفناء والبلى والاندثار، ومن بقائهم خالدين في عالم النور الأبدي منتظرين قدومه إليهم”. إن عقيدةً تُحقِق هذه المنفعة العظيمة لا يمكن إلا أن تكون حقا جديرة بأن يؤمن بها الإنسان.
وعلى سبيل المثال أيضا: فإن الإنسان في خريف العمر -وقد وهنت قواه وانقطع عطاؤه- قد يشيع فيه ذلك الشعور بأنه أصبح عالة على أهله ومجتمعه، وبأن حياته قد استنفدت أغراضها، وذلك ما من شأنه أن يجعله في حال من اليأس والقنوط والقلق النفسي البالغ، فتضيق عليه الدنيا بما رحبت، وتنقلب الحياة إلى عذاب أليم، وليس من منقذ من ذلك سوى الإيمان باليوم الآخر الذي يجعله يشعر بأنه مقبل قريبا على سعادة أبدية ولقاء بالأحبة، وكلما تقدم به العمر اقترب من ذلك المصير السعيد، فتزداد نفسه قوة يغذيها الأمل، وسعادةً يصنعها الشوق إلى المصير السعيد.
من ثمرات الإيمان بالآخرة
ومما يثمره الإيمان بالآخرة من منفعة ما يحدثه هذا الإيمان في النفس من الصبر وقوة التحمل، إذ لما تصيب الإنسان المصائب، فإن الإيمان بالآخرة هو الذي يقوي من عزمه، ويشد من أزره، إذ يعتقد أن ما أصابه يمكن أن يكون له ذخرا في دار الجزاء، ولا يمكن بحال أن يذهب سدى. وفي هذا الصدد يضرب النورسي مثلا بتجربته الشخصية فيما حصل له من مصائب بتعرضه للسجن والقهر والإهانة والاعتداء على ممتلكاته وبالأخص منها مؤلفاته، ويقول في ذلك: “أتحمل كل هذا الحزن والأسى بذلك الإيمان بالآخرة، رغم أنني ما كنت أتحمل أية إهانة وتحكّم من أي أحد مهما كان؛ إن نور الإيمان بالآخرة وقوّته قد منحني صبرا وجلدا وعزاء وتسلية وصلابة وشوقا للفوز بثواب جهاد عظيم”، ومثل هذا يحصل بالنسبة لكل مكروب وكل مضطهد ومظلوم وكل مصاب بإحدى مصائب الدنيا، فهؤلاء جميعا “ما إن يمدهم الإيمان بالآخرة بالعزاء والسلوان إلا وينشرحون فورا ويتنفسون الصعداء لما يزيل عنهم من الضيق واليأس والقلق والاضطراب”.
بـ-دليل المنفعة الاجتماعية
إن أول ما يثمره الإيمان بالمعاد من منفعة اجتماعية هو ما يتمثل في ترشيد العلاقات الأسرية، فهذه العلاقات كثيرا ما تتعرض إلى توترات شديدة بسبب التنازع على المكاسب الدنيوية، ورغبةِ كل طرف في الاستئثار بالمنافع على حساب الأطراف الأخرى، وذلك واقع مشهود عبر الزمن، فإذا ما استنار أفراد الأسرة بنور الإيمان بالمعاد والحساب فإن ذلك ما إن يحل بالبيت الأسري “حتى ينور أرجاءه مباشرة ويستضيء؛ لأن علاقة القربى والرأفة والمحبة التي تربطهم لا تقاس عندئذ ضمن زمن قصير جدا، بل تقاس على وفق علاقات تمتد إلى خلودهم وبقائهم في دار الآخرة والسعادة الأبدية، فيقوم عندئذ كل فرد باحترام خالص تجاه الآخرين”.
وعلى نفس هذا النحو يفعل الإيمان بالآخرة فعله في العلاقات الاجتماعية العامة، سواء تلك العلاقات بين أبناء المدينة الواحدة، أو العلاقات بين أبناء البلد بأكمله، أو العلاقات بين الإنسانية جمعاء، “فإن كل مدينة هي بحد ذاتها بيت واسع لسكنتها، فإن لم يكن الإيمان بالآخرة مسيطرا على أفراد هذه العائلة الكبيرة، فسيستولي عليهم الحقد والمنافع الشخصية والاحتيال والأنانية والتكلف والرياء والرشوة والخداع بدلا من أسس الأخلاق الحميدة التي هي الإخلاص والمروءة والفضيلة والمحبة والتضحية”.
والبلاد بأكملها ليست إلا بيتا واسعا جدا، والوطن بأكمله هو بيت عائلة الأمة، فإذا ما شاع فيها الإيمان بالآخرة، فإن ذلك الإيمان سيفعل فعله الذي فعله في العلاقات الأسرية، وإلا طغت الأنانية التي تزن الأشياء بميزان دنيوي قصير، فتكون معاني الإرهاب والفوضى والوحشية حاكمة ومسيطرة تحت اسم النظام والأمن والإنسانية، وحينئذ تتسمم الحياة الاجتماعية، فيتصف الأطفال بالوقاحة والإهمال، والشباب بالسكر والعربدة، والأقوياء بالظلم والتجاوز، وتصبح حياة الجماعة حياة مضطربة بائرة، ولو وُزنت الأشياء بميزان أخروي طويل لكان لهذه العلاقات الاجتماعية شأن آخر من الاستقرار والإثمار.
ولا شك أن هذا المنهج الذي ارتآه النورسي في الاستدلال يستوجب على الدارس من العدل ما يجعله لا يقتصر في التقييم على القياس بمقاييس العقل المجرد الصارم في موازينه المنطقية، إذ هو قد وسع الاستدلال ليشمل مناطق القوى الروحية أيضا، وإلا فإننا قد نجد في استدلالات النورسي ما يستحق التعقيب والمراجعة، وكفى هذا المنهج حكمة أن يجد فيه كل مسلم طلبته مهما كان حظه من العلوم العقلية والمنطقية، وليس الأمر كذلك في الكثير إن لم يكن في الأكثر مما أُلف في العقائد الإسلامية.
ــــــــــــ
المصادر
(1) الكلمات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(2) المكتوبات، بديع الزمان سعيد النورسي، ت: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(3) الشعاعات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(4) اللمعات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(5) عبد المجيد عمر النجار، دار الغرب الإسلامي الإيمان بالله وأثره في الحياة، 1997.
(6) العلم يدعو للإيمان ـ مجموعة من المؤلفين، دار الكتاب العربي.