محادثة مع إبليس

اختلف زيد مع عمرو يومًا، واحتدّا حتى تشاجرا، فحُسمت القضية على يد قاضٍ حصيف من حمَلة هموم الناس والقلم. وفي مدينة أخرى تخاصم فلان مع علاّن، وكان بينهما ما كان، ثم فصل بينهما قاضٍ حصيف آخر من حمَلة هموم الناس والقلم.
ومن بعيد على رابية تُطل على المدينتين، جلس “الغازي” يتجرع نجس خمرته ويتأمل. ظن أن عبقرية الفكر الآتي صوتها من أعماقه تنبع منه وحده. إلا أن “إبليس” كان يضحك من خفّة عقل الطاغية، إذ كانت ثلاثة أرباع المقترحات تأتي منه (من إبليس) لا من الغازي الغبي.
وعادت عيون الغازي بالأخبار، من “ألف”: ضرب زيد ابن عمرو، إلى “ياء”: تحرّش فلان بأخت علاّن، إلى ما بين هذا وذاك من حيثيات حُكم القاضي الحصيف الأول ومذهبه، إلى اعتبارات حُكم القاضي الحصيف الثاني ومَسربه.
تمتم الغازي: سأرسل مزيدًا من عيوني -أحفادَ شايلوك- يُذكّون نارَ الخلاف بين زيد وعمرو من العامة، حتى لا يعود القضاة يجدون وقتًا لا لفكر ولا لقلم، بل إنهم ربما نسوا علمهم إلا ما تعلّق منه بالخلافيات، ثم أدخل ماشيًا فوق هامات كبرائهم وأستحي نساءهم.
أجاب إبليس: لا، ما هذا عندي برأي، لأنكَ -والحالة هذه- ستنتظر طويلاً. فأولئك القوم إنْ تسنّى لأحدهم أن ينام ساعة، نفض لحافه وقام ليجعلها إمّا في سجود أو في استزادة من علم. وكلما زادت مسؤولياتهم زاد التزامهم.
تساءل الغازي: وما ترى؟
أجاب إبليس بخبث: انتظر اختلاف القضاة أنفسهم.
القضاةُ؟! قال الغازي.
نعم، قال إبليس. فأولئك قادة فكر يصنعون الأمم، فإن اختلفوا فاحتدّوا فتلاعنوا، انتقلت عدوى الشحناء إلى أنصار لهم من العامة ممن لا يفهمون رأي هذا ولا ذاك، فتزيد الغوغائية حتى يتحصل لك مرادك، فانتظر.
سأل الغازي الغبي: وإذا لم يتشاجروا، عنيتُ القضاة وأرباب القلم؟
قال إبليس: يا تعيس، لي أكثر من ألف وأربعمائة عام أزرع فيروسات التوالد الذاتي للخلاف على الجزئيات في أذهان أولئك وأتعهّدها بالرعاية والسقيا حتى نبتت شجرة من غَرْقَد في كيان فكرهم لا يقطعها إلا شجاع، وشجاعتهم إلى تراجع.
الغازي: فيروسات! إلى تراجع! ما؟
إبليس: صه، وانتظر يا جاهل، كل من ساس القلم ومكّنته الفِكَرُ من نفسها أصابه شيء من عجب أو كبر. وما لم يجاهد نفسه لكبحهما، أثار في داخله جوعًا لقطف ثمار شجرة الغرقد إياها، فإن أكل زاد جوعه وتاه. وترى أحدهم إذا ما توهّم أنه بزَّ أخاه في مناظرة يعلو ويتيه، فتنتقل عدواه إلى أخيه المتوهّم هو الآخر حتى ليذكّرني الاثنان بأيام كنت فيها ألهو في أهل بيزنطة.
الغازي (متحديًّا): وما شواهد ما تقول؟
إبليس: خمسون عامًا من كلامهم في حقوق نسائهم التي ليس لها مثيل في العالم أجمع، ودينهم قد حفظها، ومائة عامٍ أو يزيد قضوها في البحث عن أنموذج من أمم غيرهم كي يقتدوا بها وهم -إن اتبعوا دينهم بعقل- أحقّ أن يقتدى بهم. ومئات من السنين من مداولاتهم حول الأخذ بظاهر النصّ أو باطنه، وكلاهما -إنْ أُحسنتْ قراءته- خير عميم. وآلاف آلاف الصفحات حول الصلاة بضمّ اليدين إلى الصدر أو إلى ما فوق السرّة أو إسبالهما، وحداثة تافهة وما بعدها أتفه. وسريالية وانطباعية، وواقعية ورومانسية، ومتقدمون ومتأخرون، وسلف وخلف، وسقيفة وخلافة… وهل صوت المرأة عورة أم غير ذلك… وهل تقود المرأة الهودج أم لا تقود… وهل لها في الشورى كما فعل عمر أم ليس لها… وهل مُعْمِلُ عقله كافر بالإجماع ويجب أن يُستتاب أم أن الغبي المتواكل أفضل منه…
الغازي: ولم بذلت كل هذا الجهد؟
إبليس: إنه الاقتصاد يا غبي، وأهمّ عنصر في بند الإنفاق الاستهلاكي في عالم الاقتصاد، إنما هو أخطر عدوّ لهم ولبني الإنسان كلهم. أتعرف ما هو؟
الغازي: الخلاف؟
إبليس: لا… بل هو الوقت الذي ينفقونه على الخلاف بغبائهم؛ الوقت الذي يعمل فيه غيرهم فيخترعون ويطوّرون ويعمّرون، ويحسّنون سلاحك هذا الذي ستغزو به.
الغازي: إذن أنتظر؟
إبليس: نعم، انتظر.