مجلة “حراء” تعقد مؤتمرها الثاني في إسطنبول للقرآن والحقائق العلمية

في يومي السبت والأحد الموافقين للرابع عشر والخامس عشر من شهر مايو/أيار لعام 2011، تلألأت سماء إسطنبول بنور القرآن الكريم حين احتضنت أرضها ورثة الأنبياء علماء الأمة الإسلامية؛ من تركيا والسعودية، موريتانيا والمغرب، سورية ومصر، الجزائر وماليزيا، تونس والصومال، كينيا والسنغال، أوغندا والكونغو، جنوب إفريقيا وإثيوبيا، ومن سائر الأصقاع التي تتحدث بلسان عربي مبين أو تعشق لغة القرآن الكريم…

فقد التقى في هذين اليومين على أرض إسطنبول كوكبة عظيمة من العلماء للمشاركة في “المؤتمر الدولي الثاني للقرآن والحقائق العلمية” تلبية لدعوة من مجلة “حراء” التي نظمت المؤتمر بالتعاون مع شقيقتيها التركيتين مجلة “سيزنتي” (Sızıntı) ومجلة “يني أميت” (Yeni Ümit).
شارك في جلسات المؤتمر التي امتدت ليومين ما يزيد عن ألفي مشارك من الأكاديميين، والأساتذة الجامعيين، والمشايخ، ورواد الفكر، ومرشدي الأمة، والشباب.. ولقي المؤتمر تغطية واسعة من وسائل الإعلام المختلفة، لا سيما محطات التلفزة التركية التي قامت بالبث المباشر لفعالياته.
افتتح المؤتمر جلساته العلمية بتلاوة آيات من الذكر الحكيم أعقبها كلمة من الدكتور “أرجون جابان” رئيس تحرير مجلة “يني أميت” التركية، رحب فيها بجموع الحاضرين وشكرهم على قبول دعوته ودعوة إخوانه، لافتًا إلى ضرورة الدخول في مسلك القرآن الكريم الذي هو كتاب هداية وكتاب حقائق يقينية يجب على المسلم أن يبحث عنها ويستشفها. كما شدد على أن الإنسانية في أمس الحاجة إلى القرآن، و”القرآن في أمس الحاجة إلى من يمثله بحق”.
ثم حيّا الأستاذ نوزاد صواش المشرف العام لمجلة حراء، في مداخلته الحضور وعلماء الأمة الذين شرّفوا بالحضور إلى هذا المؤتمر من داخل الوطن التركي وخارجه قبل أن تتوالى الكلمات الافتتاحية لكل من الأستاذ الدكتور حمزة أكتان رئيس اللجنة العليا للشؤون الدينية في تركيا، والأستاذ الدكتور عدنان يوكسل رئيس جامعة “بزم عالم”، والأستاذ الدكتور شريف علي تك آلان رئيس جامعة الفاتح في تركيا، وأخيرًا الأستاذ الدكتور محمد كورماز رئيس إدارة الشؤون الدينية في تركيا، والذي أشار في كلمته إلى التآلف والترابط الشديد بين القرآن والإنسان والكون، داعيًا الإنسان المسلم إلى أن يتقن قراءة هذه الكتب الثلاثة حتى يستعيد مكانته العلمية على خشبة المسرح العالمي.
وإذا كان الأستاذ المفكر الكبير “محمد فتح الله كولن” قد غاب عن المؤتمر بجسده، فقد حضر بقلبه وروحه وفكره من خلال كلمته التي ألقاها نيابة عنه مقدم البرنامج. وقدم “كولن” في كلمته خالص الشكر والامتنان لعلماء الأمة المشاركين في هذا المؤتمر، مذكرًا بأن القرآن الكريم هو خطاب الله للبشرية جمعاء إلى يوم القيامة، وأنه أعظم معجزة أهديت إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: “إن القرآن الكريم هو أعظم معجزة أهديت إلى الرسول الكريم -عليه أكمل التحايا وأدْومها- من ضمن مئات من المعجزات تحققت على يديه.. فكما أن هذه المعجزة تتجلى من خلال روعة بيانه وإعجاز نظمه ودقة تعبيراته وجمال أسلوبه، فإنها تتجلى أيضًا من خلال مبادئه الاجتماعية، وأصوله الحقوقية، وقواعده التربوية، وتأويلاته حول الإنسان والوجود والكائنات، وتناوله جُلّ أسس العلوم إما إشارةً أو رمزًا أو إيماءً أحيانًا وإما صراحةً أحيانًا أخرى…”.
وأكد كولن في موضع آخر من كلمته أن القرآن هو بيانٌ وإيضاحٌ للأوامر التكوينية، وهو مصدرٌ -متين لا يتغير- للمبادئ والقواعد التشريعية قائلاً: “إنه كتابٌ محكَم يحتوي على أوثق مقاييس قراءة الوجود والكون والإنسان قراءةً صحيحةً، وليس هناك أيّ مشكلة معضلة لا يقْدر على حلها. ومن هنا فإنه يصدح بأعلى صوته معلنًا بأنه منـزل من علم ذاتٍ إلهية مطلعة ومهيمنة على جميع الأمور والأشياء بأسبابها ونتائجها…”.
وفي محاضرته الافتتاحية التي جاءت بعنوان “ضوابط البحث في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة”، أكد من جهته الأستاذ الدكتور عبد الله بن عبد العزيز المصلح الأمين العام للهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة بالمملكة العربية السعودية، على ضرورة حث العقل البشري على المقارنة بين الآية المنظورة في الكون والحياة والإنسان، والآية المسطورة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وذلك لترسيخ القناعة في الوجدان الإنساني بالبرهان العلمي الواضح على أن مَن خلق الأكوان هو مَن أوحى إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، مضيفًا أن القرآن الكريم هو كتاب الهداية الذي يتضمن حقائق يجب أن يبحث عنها المسلمون ليخدموا دينهم جميعًا دون استثناء.
وشهدت جلسات المؤتمر استعراض العديد من البحوث والدراسات العلمية من قبل متخصصين في علوم مختلفة، تمحورت حول ضوابط البحث عن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ومن بينها بحث “خلق الإنسان بين الطب والقرآن” الذي قدمه الأستاذ الدكتور محمد علي البار من السعودية، وبحث آخر عن “الإعجاز العلمي في زيت الزيتون” قدمه الأستاذ الدكتور حسان شمسي باشا من سوريا.
وفي بحث بعنوان “حقائق الخلق في القرآن”، أوضح الأستاذ الدكتور حسني حمدان الدسوقي” من مصر، أنه سعى إلى توضيح الرؤى العلمية الثاقبة لمفسري القرآن الكريم والتي يجدر بعلماء الكون أن يستفيدوا منها في استشراف آفاق العلم، مؤكدًا أن قمة الرسوخ في علوم الكون تستلزم استخدام نفس المصطلح القرآني…وفي اليوم التالي من المؤتمر، قدم الأستاذ الدكتور قمر الدين بن محمد يوسف من ماليزيا بحثه المعنون بـ”آيات الشفاء في العسل”، فيما عرض الأستاذ الدكتور حامد عطية محمد من مصر، في بحثه المعنون بـ”آيات الرحمن في تكوين لبن الأنعام”، لمراحل تكوين اللبن في بطون الأنعام خالصًا سائغًا للشاربين مستشهدًا في ذلك بالآية الكريمة: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾(النحل:66)، كما لفت الأنظار بحث الأستاذ الدكتور عبد المجيد بلعابد من المغرب والذي عنونه بـ”من الإنبات إلى النبات آية للثبات”… وقدم علماء متخصصون من مناطق مختلفة في تركيا بحوثًا علمية أخرى ذات أهمية بالغة نعتذر من عدم ذكرها كلها في هذا المقام.
وفي الجلسة الختامية، قام الأساتذة المشاركون بتقييم أعمال المؤتمر، ومن ذلك ما ذكره الأستاذ الدكتور سعاد يلدريم من تركيا قائلا: “إن هذا المؤتمر قد اضطلع بمهمة قراءة كتاب الكائنات في ضوء القرآن”.
أما فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الله بن عبد العزيز المصلح، فقد أوصى في كلمته العلماء الشرعيين واللغويين بوصيتين.. وبين وصيته الأولى قائلا: “إن القرآن هو كتاب الهداية وهو الطريق الواصل إلى الله، لكنه كذلك يحوي حقائق يجب أن نفتح بصيرتنا وأبصارنا وعقولنا، لكي نتأملها، ولكي نفاخر بها، ولكي نحرك الطاقات الكامنة في هذه الأمة لتبدع وتبتكر وتعود لها ريادتها في مجال العلوم والقيم والأخلاق ودلالة البشرية إلى سعادة الإنسان قبل سعادة الآخرة”.
ثم عرض “المصلح” لوصيته الثانية فشدد على ضرورة فصم العقدة بين علماء الشريعة والعلماء التقنيين قائلاً: “إن القرآن قد أمرنا أن يلتقي عالم التفسير وعالم اللغة العربية وعالم أصول الفقه مع أستاذ الفيزياء، الكيمياء، وعلوم البحار، وعلوم الأرض، وعلوم الفلك… وإذا التقينا تآخينا وتعاونا وأظهرنا هذه الحقائق… آن الأوان لكي نعود إلى هذا التلاقي والتلاحم في هذا الجسم…”.
وإجمالاً، فقد أزاح لنا المؤتمر -الذي كانت دورته الأولى قد عقدت في صيف 2010 تحت عنوان “القرآن والحقائق العلمية- مرة أخرى الستار عن الحقائق العلمية القرآنية، وجلى لنا بُعدًا آخر من الأبعاد المعجزة لهذا الكتاب العظيم، بالإضافة إلى تأكيده من خلال الأمثلة والنتائج الهامة التي كشف عنها العلماء المشاركون، على التوافق بين القرآن الكريم والحقائق العلمية، وهو التوافق الذي يثبت بحق أن القرآن الكريم هو مصدر ومنبع الحقائق العلمية، وأن التطورات العلمية التي تحدث في عصرنا هذا، ما هي إلا تأييد لكلام الله العزيز القائل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(فصلت:53).