من الضروري الاتفاق على مبادئ مهمة قبل الإقدام على مشروع الزواج بشكل خاص، أو التربية وبناء الشخصية بشكل عام، بما في ذلك التوجيه والإرشاد النفسي والتأديب والمتابعة للرضع والأطفال والمراهقين، بل وحتى البالغين الذين يحتاجون إلى دعم نفسي أو توجيه مجتمعي. وقد اخترتُ سبع نقاط محورية أدندن حولها كمبادئ عامة لا بد من إدراكها جيدًا في سبيل الوصول إلى مجتمع ناجح وناضج ومنتِج ومتحمّل للمسؤولية، وهي على النحو التالي:

١- التحلي بالأخلاق العالية

يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: “إنما بُعثتُ لِأتمِّم مكارمَ الأخلاقِ” (رواه البخاري)، فالأصل في الرسالة المحمدية هو الأخلاق، وما لم يبنَ أيُّ تعامل على الأخلاق العالية فلن ينجح، ولذا، فإذا أراد الأب لابنه أن يكون صادقًا يجب عليه أن يتحلى بالصدق قولاً وعملاً؛ حتى يكتسب منه ابنه الصدق ويتشرَّبه، وإذا أراد الأبوان من ابنهما أن يكون هادئًا متزنًا عقلانيًّا، فعليهما أن يكونا هكذا مع ابنهما بالفعل، ليكتسب الطفلُ ذلك بالمشاهدة والحس والتعايش.. وهكذا باقي الخصال الحميدة والأخلاقيات المجتمعية.

٢- مطالعة أسباب انهيار الأمم السابقة

على الأبوين إذا أرادا نهضة الأمة أن يعرفا أسباب انهيار الأمم السابقة، فلكلِّ أمة اندثرت سببٌ خاص في الانهيار، ومعظمُ الانهيارات ترجع إلى قارض أخلاقي، وهذه القوارض الأخلاقية ترجع بصبغتها العامة إلى طيش الشباب أو استهتارهم، أو الرغبة في إحياء المشاعر البهيمية، أو الانغماس في الشهوات، وابتغاء الدنيا وجعلها هدفًا أسمى من الأهداف، وانجرار كل شيء إلى المادة.. وهنا لا بد لنا من توضيح سريع؛ فالحياة فيها جانبٌ مادي يمثّله الجسد وجانبٌ معنوي يمثّله الروح، فإذا ما أُعطي الجانب المادي أكبر من حجمه وأُغفِلَ الجانب المعنوي، فالنتيجة الحتمية لذلك هي الفشل المحقق وسقوط الأمة، وكذلك العكس.

والشواهد على ذلك من التاريخ كثيرة.. على سبيل المثال: فقصور الأندلس ما زالت في غرناطة وقرطبة وإشبيلية راسخة إلى الآن، وعلينا أن نفهم منها هذا الدرس التاريخي؛ فبعد أن ركن المسلمون إلى الدنيا وبنوا هناك حضارة أبهرت العيون في عصرها؛ انهار كلُّ شيء وانقلب رأسًا على عقب، وانتهى الأمر إلى خروج المسلمين من هذه الأراضي مع الأسف. وما ذاك إلا لأنهم ركنوا إلى الدنيا وأخلدوا إلى الدعة والخمول، واهتموا بالملذات والمتع الدنيوية، فأعطوا المادة أكبر من حجمها على حساب المعنى، إلى أن أكلهم هذا القارض الأخلاقي، وأخرجهم عن مسرح التاريخ.

وكذلك أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه عندما دخل قصور كسرى في بلاد فارس بعد أن تحطم جبروتها تحت سنابك خيله، خرّ ساجدًا وهو يردد الآية الكريمة: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ)(الدخان:٢٥-٢٧). لقد كان الفرس آنذاك قوة عظمى ضمن القوى العالمية، ولكن بطيشهم وجبروتهم وإهمالهم للمعنى ورفضهم لدعوة الحق، سحقوا أنفسهم بعد أن ظنوا أن المادية تكفل ديمومتهم.

وكذلك عندما تشعر الأمم بخواء روحي، فتبادر إلى جبر ذلك النقص عن طريق الاستزادة من الجانب المادي أكثر فأكثر، وهي بهذه الحالة لا تزيد إلا من حظِّ سقوطها المدوّي.. وفي هذا الصدد قال الله سبحانه وتعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)(القصص:٧٧).

إن هذا الكون محكوم بسنن كونية جبرية؛ فإذا وضعتَ يدك على النار فستحترق، وإذا ألقيتَ بنفسك في البحر دون معرفة بالسباحة فستغرق، ولن ترحمك الطبيعة، وكذلك فإن أسبابًا للنجاح والنهضة المجتمعية لا بد من مراعاتها حتى يتسنى للمجتمع النجاح والانبعاث من جديد. فإن أخذ بها نجح كما نجحت أمم من قبله، وإن لم يفعل فهو يأخذ بأسباب الهلاك والسقوط والاضمحلال. فإذا ما أردنا تنشئة جيل ناضج، فعلينا أن نأخذ بأسباب ذلك ونتعامل مع السنن الكونية وفقًا لمنظومة السبب والنتيجة، مع العمل الدؤوب دون تعويل على الحظ أو الصدفة أو الاستثناءات القدرية.

٣-الحذر من تقليد الأمم الأخرى

عندما تبتعد الأمة عن جذورها وتنسلخ منها القيم والمبادئ، تشعرُ بخواء روحي ومعنوي، وبالتالي تقوم بالبحث عن ملءٍ لهذا الخواء باتباع الأمم الأخرى، وهذا ما حذّرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: “لَتتَّبعُنَّ سنَنَ مَنْ قبلكم شِبْرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو سلكوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتموه” (متفق عليه)، وهو عندما يقصّ علينا ما سيحدث في آخر الزمان، لا يحثّنا على فعل ذلك، بل ينهانا ويحذّرنا، فإذا انسلخنا عن قيمنا وأخلاقياتنا العالية، وانقطعنا عن جذورنا التاريخية والنموذجية، وحاولنا تعويض أنفسنا عن ذلك باتباع الأمم الأخرى، فإننا بذلك نلقي بأنفسنا إلى التهلكة؛ لأن مبادئهم وأخلاقياتهم تتوافق مع جذورهم هم، ولا تتوافق مع جذورنا نحن، فإذا ما أخذنا ما عندهم ونزّلناه على ما عندنا من تراكمات أخلاقية، فسنضيع الماضي ولن نحظى بالمستقبل، وسيصدق بنا المثل العامي القائل: “ما طال بلح الشام ولا عنب اليمن”.

إن السعادة والنهضة والصحوة تبدأ من عودة الأمة إلى جذورها أولاً، ثم مواكبتها للتطور العلمي والحداثة والعولمة انطلاقًا من جذورها هي، واعتمادًا على مبادئها هي، وليس استعارة من مبادئ الآخرين وتقليدًا أعمى لهم.

٤- الانطلاق من أن الإنسان مخلوق مكرم

لقد سخّر الله سبحانه وتعالى الكون للإنسان، فكان لا بد أن تدور الأحداث الكونية عليه، وترتبط الحضارة به، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)(الأسراء:٧٠)؛ فالإنسان مخلوق مكرم، وعند بناء الشخصية لا بد من استحضار هذا المعنى في كل صغيرة وكبيرة، فكل الحضارات والأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية على الأرض، ليست إلا فعاليات للاعتراف بقدره وقيمته، ولا قيمة لشتى الأنظمة إذا خلت من الإنسان أو لم تخدمه أو لم تنشد سعادته.

٥- التخطيط السليم

لا بد من تخطيط دقيق لجميع الخطوات، بدءًا بفكرة الزواج، واختيار الشريك المناسب الذي يتشاطر مع شريكه هذه القناعات، ومرورًا بما يجب أن يكون عليه حال الرضيع وكيفية مراعاته في طفولته وتربيته في مراهقته. يجب أن توضع الخطط المحكمة، للتعامل مع هذا المخلوق المكرم من قبل الله، والذي هو محور الحضارات وفيه انطوى العالم الأكبر.

٦- الأولاد زينة الحياة الدنيا

قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(الكهف:٤٦)؛ ويُفهَم من الآية أن المال والولد هما زينة الحياة الدنيا بوجهها القبيح الدنيء، وأن المال والولد إذا جُردا عن الارتباط بالله وانحرفا عن سبيل مرضاته، فلا يمكن لأيٍّ منهما أن يكون مدعاةً للفخر.. فلا يكون المال أو الولد مدعاة للفخر إلا إذا تم توجيهه في سبيل الله، وهذا ما سيحوّلهما إلى الباقيات الصالحات.

٧- الرحمة والإنسانية

يجب أن نتعامل مع شخصية الإنسان منذ ولادتها، بل نجهز أنفسنا لذلك حتى قبل الولادة، وأن نتعامل معها بخلق الرحمة والإنسانية. ولنقف على هذين الخلقين بشيء من الشرح الموجز.

الرحمة هي التي تفتح القلوب المقفلة، وتثبت القناعة في قاع الشخصية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الراحمون يَرْحمهمُ الرحمنُ، اِرْحموا مَنْ في الأرض يرحمْكمْ مَنْ في السماء” (رواه البخاري)، فعلى المربين أن يتمتعوا بصفة الرحمة النابعة من الذات الإلهية، فهو الرحمن الرحيم سبحانه، وهو أرحم الراحمين.. وقد أمرنا النبي أن نتخلق بأخلاق الله، وكلما كانت الرحمة متجذرة في قلوب المربين كانت استجابة الشخصية للتوجيهات أسرع، ومن هنا قيلت الحكمة العربية: “إذا أردتَ أن تُطاع فأْمر بالمستطاع”، أي كن رحيمًا.

والخلق الثاني هو الإنسانية، فالإنسانية عبرت عنها الآية الكريمة قائلة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)(التين:٤)، وهذا يدعونا إلى أن نضع في أذهاننا عندما نتعامل مع الإنسان أنه مخلوقٌ على أحسن هيئة وبأتم القابليات والصفات والشمائل الخلقية، فقد أبدع الله فيه أحسن تقويم وأكمل خِلقة.. فهو أحسن خلق الله باطنًا وظاهرًا، وجمالَ هيئة، وبديعَ تركيب: الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدين وما بطشتاه، والرجْلين وما احتملتاه.. ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر؛ إذ كل ما في المخلوقات جُمع فيه.

وإذا تابعنا الآية نجدها على النحو التالي: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)(التين:٥)، وهذا قد يعني أن الإنسان خُلِقَ أصلاً في أحسن تقويم، ثم سيرد إلى أسفل سافلين إن لم يحصن نفسه بالإيمان والعمل الصاح والمبادئ والأخلاقيات العالية، فإن فعل ذلك حافظ على صفة الإنسانية والـ”أحسن تقويم”، وإلا فلا.

(*) كاتب وباحث سوري.