يحدث يومًا أن نكتب رأيًا، أن ندون فكرة، أن نؤرخ لحظة، أن نوثّق خاطرة.. يحدث يومًا أن نتبنى مشروعًا أو أن نتحمس لموقف.. يحدث يومًا أن ننشئ قناعة أو أن نستخلص عبرة.. ويحدث يومًا أن نتخلى عن فكرة أو أن نراجع تصورًا.
تُروِّدنا الأيام فنتخلى عن كثير مما ظنناه شيئًا يستحق التأريخ.. ويومًا إثر يوم يظهر عقم ما كتبنا وخطأ ما سطّرنا ورَوينا، فيعاجلنا شعور ممزوج بالحزن والهمّ، وتعترينا -لأجل ذلك- حسرة في النفس وضيق في الصدر ندمًا على ما كتبنا، لدرجة نتمنى معها أننا ما كتبنا، وأن لو صار ما كتبنا إلى الفناء.
وحتى لا نغترف من مرارة هذا الشعور، يستحسن أن نكتب بقلم من رصاص. أجل، فلقلم الرصاص خصائص استثنائية عن باقي الأقلام، جعلته محبوبًا ومفضلاً لدى كثير من الفنانين والتشكيليين والرسامين والخطاطين وغيرهم الذين ما أخطأوا في اختياره، لأن كل شيء في هذا القلم جميل؛ جميل هو في لونه، ريحه، روعة وقوعه على الأسطر والصفحات، أخاذ في انسيابيته وصياغته للكلمات والحروف والجمل والتعبيرات وكثيرة هي مزاياه.
بيد أنه وبالرغم من كل ما ذُكر من مزاياه، فإن له صفة أخرى ذهل عنها كثير ممن انتخبوه واتخذوه مرافقًا، وألِفوه أنيسًا ومصاحبًا رفيقًا في ليالي السهر؛ لأجل التعبير والإنشاء وبث الشجون والأفراح والأتراح.. إنها خصلة المحو وذاتية المسح.

إن معنى ثقافة المحو يقتضي أول ما يقتضي، التعالي عن الأهواء الشخصية والمصالح الضيقة، والنظر إلى مصالح الأمة والمجتمع برمته، كما تفرض التحلي بالتواضع والصبر واللين والتزام الحلم والأناة، بدل السعي وراء الشهرة والمناصب والأهواء والنزوات

إن أرقى ما يتميز ويتصف به قلم الرصاص، تلك القدرة الهائلة على التراجع والتناسي، وإمكانية النسيان مع قابلية التجاوز ومراجعة المكتوب، وهي قدرة لا ينازعه فيها قلم آخر نُسوِّد به عشرات الصفحات، ومئات الأسطر والكلمات والتعبيرات.. وعندما نريد التخلي عنها، يأذن ودون أدنى عناد، وبجرّة ممحاة فوق المكتوب، ندخل ما كتبنا حيز اللاوجود، ليصير ما سودنا أثرًا بعد عين، وعدمًا بعد وجود، نبثه الأفراح والأتراح، الأحزان والمسرات، الأسرار والأخبار، الحروف والكلمات، الأحاسيس والآهات.. نشحنه بالمواقف والاتجاهات، الآراء والقناعات، وحين نريد التخلي عن ذلك كله ونصطبغ بأفكار وسلوكات أُخر، ونتبنى مواقف وقناعات جديدة، لا يتردد في مد يد المساعدة، ولا يتأخر عن إسعافنا فيما نريد؛ فيمنح مكانه لما جدَّ لنا من تصورات بكل طيبة وسخاء، بل يحرص على أن لا يترك وراءه أثرًا استحسانًا للجديد، وفرحًا بميلاد فكرة كان هو سببًا فيها، ووفاء بالأمانة.. وما من شك أن الكل يلمح في قلم الرصاص التواضع والانمحاء ونكران الذات، وقليلة هي هذه الصفات في بني البشر.
وبعكس قلم الرصاص هذا، لا ينقضي عجبي من حال وتصرفات بعض الدعاة والمصلحين، ممن نُصّبوا أمناء على العمل الإسلامي، أو عنوا بالعمل الجمعوي الخيري أو التنموي. لا ينقضي عجبي من ركوبهم موج العناد، وامتطاء صهوة الأنفة الجوفاء، والانتصار للنفس، والجمود على ما اعتادوه من أفكار، لا يرحبون بأي جديد ولو كان نافعًا، ولا يحبون أي مناقشة ولو كانت بناءة.. همهم الاكتفاء بالموجود، واعتياد المألوف، ومسايرة الماضي وتركه على ما هو عليه، وأيّ محاولة للتغيير أو الإنكار، مغامرة تعود على صاحبها بالويل والنكال.
هكذا أو أكثر.. هو حال عالمنا العربي والإسلامي اليوم في كل المجالات وعلى جميع المستويات، السياسي لا يرى غير رأيه حلاًّ، والجمعوي لا يعرف سوى اقتراحه بديلاً، والفقيه لا يعلم سوى مذهبه ترجيحًا، والعامّي لا يتصور غير فكرته مخرجًا.. وما هذا إلا حصاد الوساطة المذمومة التي حلّت محل اتباع النص وإحقاق الحق، وتقديس الأفكار التي تؤدي بصاحبها إلى الخروج عن حدود المألوف وحِمى المعقول.. وما من مستند لهؤلاء إلا أن الشيخ الفلاني قالها، أو العالم العلاني قد تبنّاها أو اختارها، ولا يهم حجم إيغالها في الغرابة وخروجها عن الحق، فذاك أمر مستساغ.
ليت بعض الإخوان يكونون مثل قلم الرصاص، يَستحسن الجديد، ويسمح بالتغير، ويرحب بالإضافة والتنوع، ويتسع أُفقه للحوار، لا تُوغر صدره الأفكار الجديدة، ولا يضيق فكره بالاختلاف، يرحب على الدوام بكل جديد نافع، وينفتح على كل قديم صالح ما دام فيه خير وصلاح.. ليت شعري أين بعض البشر من قلم الرصاص، ما بالهم لا يتراجعون ولا يصححون، ولا يجتهدون ولا يريدون لأفكارهم تلقيحًا!
إن من استعد ألّا يتخلى عن أفكاره وألّا يصححها كمن يحارب بسلاح قديم؛ سلاح القرون الغابرة، وبدقة أكثر كأنما يود مواجهة دبّابة برشاش مهترئ، والأكثر فداحة في هذا الموضوع، والأعظم رزْءًا والأفجع منقلبًا، أن يختزل المرء الحقيقة التامة والصواب المطلق فيما يذهب إليه ويختاره وتطمئن إليه نفسه، ويدّعي امتلاكه وإحاطته لكل جوانب الصواب والتوفيق، زاعمًا أن قريحته ما أخطأت قط، ولا عرفت في تخطيطها وتدبيرها انكسارًا أو تراجعًا، بعقلية “الجحيم هو الآخرون”.. وما من شك أن هذا الزعم أمر ممقوت حسًّا وشرعًا، وهو أمر مستهجن ومرفوض وإن كان ما يقوله صاحبه فعلاً صوابًا في ذات الأمر.
ولو لم تكن هذه العقلية العقيمة مُودية بأصحابها إلى الجحيم، لما رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يحاربها وينزل عند رأي الصحابة الكرام في مواطن كثيرة، وسيرته العملية صلى الله عليه وسلم مليئة بالحوادث التي تدل على ذلك؛ وقد رأيناه صلى الله عليه وسلم كيف نزل يوم موقعة “بدر” عند رأي الحباب بن المنذر كما يحكي ابن هشام في سيرته.
إن الأمم لا تغادر قافلة التخلف ولا تتجه نحو سلم التقدم والتحضر، إلا بوحدة الصف واتحاد الكلمة، وتكامل الرؤى، وترتيب سلم الأولويات مع إيجاد مخرجات ومسوغات للخلاف عبر اعتباره أمرًا طبيعيًّا، والسعي إلى جعله مدبرًا لا مدمرًا، هذا إذا كنا نعتزم حقيقة إخراج جيل جديد، ونروم صناعة مجد تليد لهذه الأمة. وهذا لا يتأتى إلا من خلال التحلي بالصبر والتؤدة، وتجميع الجهود لا السعي وراء تقسيم المقسّم وتجزيء المجزئ، بل ينبغي أن نتحلى بروح التشارك والتداول السلمي للأفكار، على قاعدة “رأيي خطأ يحتمل الصواب، ورأي غيري صواب يحتمل الخطأ”، ولا مندوحة بعد ذلك كله من إشاعة ثقافة غفران الخطأ والتجاوز عن التقصير والزلل، وبعبارة الدكتور حسن الأمراني: “إجادة استخدام مبدأ ثقافة المحو”.
وحتى نجيد إيجاد هذه المساحة، وتقريب المسافة بين آرائنا وتصوراتنا وحل اختلافاتنا، ينبغي -حتمًا وضرورة- أن نتقن ممارسة هذه الثقافة، لأنه من شأن هذه الممارسة أن تجردنا مما علق بعقولنا من أوهام، وأن تخلصنا مما ترسب في نفوسنا من وغر الصدر وشح العلاقة، وحقد النفوس وكراهية الرأي الآخر، آنذاك نكون قد حققنا جانبًا من معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تَحابّوا، أَوَلا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تَحابَبتم؟ أَفْشوا السلام بينكم” (رواه مسلم). ومن شأن هذا الحب أن يدير عجلة العمل، ويطرد غيوم الظلام، ويبدد أحزان الماضي، وينشر الخير بين عموم الأمم.
وليس بخفي أن ممارسة ثقافة المحو يعني أيضًا؛ الاستعداد القبْلي للتخلي عما نختزنه ونكتنزه من ترسبات ماضي الخلافات، وموروثات قديم الصراعات، والتعامل معها على حد قوله سبحانه: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(البقرة:134).
ولعله من نافلة القول ومكرر الكلام أن نقول: إن معنى ثقافة المحو يقتضي أول ما يقتضي، التعالي عن الأهواء الشخصية والمصالح الضيقة، والنظر إلى مصالح الأمة والمجتمع برمته، كما تفرض التحلي بالتواضع والصبر واللين والتزام الحلم والأناة، بدل السعي وراء الشهرة والمناصب والأهواء والنزوات التي ما لها من قرار، بل هي متغيرة بتغير المواقع والأحوال.
ولأجل أن نعتاد تقبّل أفكار الآخرين وتكوين ملكة تقبّل الآخر فينا، وكي لا يعتصرنا الحزن والأسى جراء ما قد نلاقيه من الآخرين بشأن أفكارنا أو قناعاتنا، يستحسن أن نعوّد أنفسنا الكتابة وتسطير الحوادث والتجارب والمشاهدات بقلم من رصاص، وقبل ذلك إجادة اختيار نوع قلم الرصاص الذي نشتريه، فلنحرص على أن يكون مصحوبًا في أعلى رأسه بممحاة ذاتية المسح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) باحث في الدراسات الإسلامية / المغرب.