لمسات الجمال في شواهد القبور العثمانية

إن لم تكن تفهم لغة شواهد القبور العثمانية عند دخولك إلى المقبرة، فلن ترى سوى أعمدة من الرخام متشابهة. ولكن ما إن تتفحص هذه الشواهد بدقة حتى ترى أن لكل منها سمة تميزها عن الأخرى. فإن لكل شاهد غطاء أو قلنسوة مختلفة. فهناك إشارات عديدة كل منها تدل على صفة من صفات الشخص المتوفى. وهذه القبور وشواهدها -بالنسبة لمن يفهم لسانها- مراقد لأشخاص من مهن ومشارب مختلفة. لأنك حيثما التفت رأيت سمات أشخاص مألوفين عندك، فتجد أشخاصاً من جميع المهن والمشارب والطبقات الاجتماعية يرقدون هناك.

الشاهد وجنس الراقد

يدل الشكل الخارجي لشاهد القبر وأنواع الزينة الموجودة عليه على جنس الراقد؛ فبينما يكون على شاهد الرجل ما يشبه القبعة أو العمامة، فإنّ شاهد قبر المرأة مزين بإكليل من الزهر. وهذه الزينات محفورة على شكل “مزهرية” أو على شكل زهور مختلفة كزهور السوسن وزهرة النجمة أو النرجس أو القرنفل أو الشقائق أو الفوشية أو الزنبق أو أزهار الخوخ أو اللوز أو مع شكل أغصان لشجيرات هذه الزهور (الصورة 1).
وعلى أشكال هذه الزهور نرى فناً رفيعاً يهتم بالعديد من التفاصيل، فكأن كل زهرة على هذه النصب والشواهد الحجرية تريد أن تقول شيئاً بلسان حالها لزائر المقبرة؛ فمثلا نرى في كثير من هذه الأماكن نقش زوج من الزنبق بخمس أوراق وكأنها يد ضارعة ممتدة للدعاء. وفي عهد “لَاله” (الزنبق)(1) تحولت هذه الزنابق إلى أشكال مجسمة، فأصبحت تحفر بثلاثة أبعاد. وبمرور الوقت بدأت هذه الزهور ترسم ضمن زهرية أو أصيص الزهور. ونرى زينة الزهور موجودة إلى حد مّا على شواهد قبور الرجال. إذ كان شيخ الإسلام يضع زهرة أو وردة على طرف عمامته الكبيرة، وكان الكاتب يضع ريشة على عمامته. وبعد انتشار الطربوش استمر تزيين أطراف غطاء الرأس فكان أسفل الطربوش يزين بصور الزهور. فانعكس هذا الاهتمام بالجمال وامتد حتى إلى القبور وإلى شواهدها فنتجت ألوان من الجمال المثير للإعجاب.

الشاهد ومهنة الراحل

وكما أن الأشكال والرموز المنقوشة على القبور تشير إلى جنس الراقد، فإنها تشير إلى مهنته أيضاً. فإن كان بحاراً فلا بد من وجود إشارة أو رمز أو شكل حول مهنته هذه على شاهد قبره. فقد يكون الرمز صورة ساريةٍ أو شراع أو مرساة أو شارة البحرية العثمانية (الصورة 2)… وهناك لحود بحارين تشبه السفن وتحاط جوانبها بحبال غليظة أو بسلاسل حديدية تستعمل في السفن.
وأما إن كان المتوفى كاتباً ويعيش على قلمه فلا بد أن تجد إشارة ترمز إلى هذا، مثل شكل لفائف الورق أو ريش كتابة أو قلم من القصب. وإن كان رساماً فتجد شارة الريشة أو المَلْوَن(الصورة 3). وإن كان عسكرياً فسترى على شاهد قبره إشارة إلى مهنته إما سيفاً أو مدفعاً أو خنجراً أو قذيفة مدفع أو منظاراً مقرباً. وأما الضباط الذين وصلوا إلى رتب عالية في الجيش فهناك تفاصيل كثيرة على شواهد قبورهم، من صور لأسلحة، إذ يمكن القول، إنها تشكل مخزن ذخيرة حربية. ولا توضع هذه الصور والأشكال بشكل عشوائي، بل حول شارة الدولة العثمانية وحول طبل الحرب، حيث تنزاص حول الشارة صور المدفع والسيف والكنانة وصَوْلجان الحرب والبوق… والأسلحة المختارة في هذا الطراز من التزيين تكون مما كان المتوفى يستعمله عندما كان حيًّا. كما تتم الإشارة إلى رتبته العسكرية على جانبي شاهد القبر.
كثيراً ما كان العسكري يختار شارة الدولة العثمانية لتزيين شاهد قبره (الصورة 4). وقد وضعت شارة الدولة العثمانية لأول مرة في عهد السلطان سليم الثالث. ونظراً لكون هذه الشارة تَحمل -إلى جانب الرموز العسكرية- رموزاً دينية ووطنية، فقد أحبها الشعب وتبناها.. لذا استعملت هذه الشارة بشكل كبير في تزيين شواهد القبور وبخاصة في العهود التي تلت عهد السلطان سليم الثالث. ووضعت تحت شارة الدولة العثمانية الأوسمة والميداليات التي حصل عليها المتوفى. فالعديد من شواهد باشوات الدولة العثمانية مزينة بوسام المجيدي أو الحميدي (الصورة 5).

الشاهد ومشرب المتوفى

وهناك بعض الأشكال والرموز في شاهد القبر تشير إلى مشرب المتوفى. فإن كان مولوياً يعمل في الزاوية حفرعلى شاهد قبره شكل عمامة مولوية، أما المنتسب الاعتيادي فيكتفى بحفر سكة مولوية على شاهد قبره. وإن كان من مريدي الطريقة القادرية فنجد على الشاهد زخرفة تسمى “زهرة القادرية”. وتتغير الزخارف المحيطة بالشكل الرئيسي حسب فروع هذه الطرق الصوفية. فمثلا يُرمز للفرع الرومي للقادرية بشكل تاج ذي ثمانية رؤوس في وسطه زهرة الطريقة القادرية (الصورة 6). وفي شاهد مريد لفرع آخر من هذه الطريقة نجد نجمة ذات ثماني عشرة زاوية. وقد تحفر هذه النجمة عند شواهد بعضهم ضمن تاج حوله عمامة. أما على شواهد أتباع الطريقة “البَيرامية” الذين كانوا يلبسون قلنسوة سداسية فنجد شكل هذه القلنسوة. بينما نجد على شواهد أتباع الطريقة النقشبندية تاجاً ذا أهداب. وأما أتباع الطريقة السنبلية التي أسسها الشيخ “سنبل سنان” فتحفر على شواهد قبورهم شكل السنبلة كرمز لطريقتهم الصوفية. ولا يقتصر التعريف بمشرب الراقد برموز طريقته الصوفية، بل أيضاً بالأشياء التي كان أتباع تلك الطريقة يكثرون من استعمالها. فنجد مثلاً في شواهد قبور أتباع الطريقة البكتاشية أشكال الكشكول(2) والفأس وحجر التسليم(3) ذي اثنتي عشرة زاوية.

غربيون تأثروا بالشواهد

عند الولوج إلى مقبرة عثمانية لا يداخل الإنسان أي ضيق أو اكتئاب، لأن الرموز المختلفة والزخارف المتنوعة على كل شاهد من شواهدها، تُطْلع الإنسان على معان عميقة وتبين له الوجه الجميل للموت. وهذا الجمال المثير جلب انتباه الأجانب مثلما جلب انتباهنا. فنرى أن العديد من السياح الأجانب الذين زاروا الدولة العثمانية تأثروا بمنظر قبورها حيث نرى السائح “أدموندو أميك” الذي زار هذه البلاد قبل مئات السنين يقول:
“حول الجامع، تحت ظلال الأشجار الباسقة، بين الأزهار المتنوعة المتلونة، ارتفعت أضرحة السلاطين والوزراء وكبار رجال القصر. ارتفعت الأضرحة الرخامية التي زُينت بالنقوش البديعة المجسمة. إنها مدينة أضرحة أخاذة، ساد الهدوء فيها واحتضن البياض تربتها وأورف شجرها وأظل.. أو إنها حي أرستقراطي قد لفه جمال أخروي حزين وألقى في قلب الزائر أحاسيس التوقير والاحترام والمهابة. هنا في حديقة المقبرة ترى الأكاليل الخضراء المتدلية بشكل باقات، والجدران البيضاء التي ترتفع عليها أغصان أشجار الخرنوب والبلوط والرياحين، وتدخل من مشبّكات الضريح الحديدية المزخرفة ومن نوافذها القوسية الشكل ضمن حُزَم ناعمة من نور الشمس حيث تتلون هذه القبور الرخامية بالظلال الخضراء للأشجار. لا تجد في أي مكان آخر في إسطنبول مثل هذه الأناقة والرقة للفن الإسلامي الذي يُجمّل صورة الموت ويجعلك تتأمله دون خوف. لذا فهذا الضريح الجميل الأنيق هو في الوقت نفسه حديقة وقصر ومعبد يجعلك تردد الأدعية من جهة، وتبتسم ابتسامة حزن وأسى من جهة أخرى”.
ويقول أحد الغربيين المشهورين المختصين بالمقابر العثمانية إن التجول في هذه المقابر يعد من أكثر الأمور إثارة ويضيف: “عندما أتسلق الطريق نحو مقبرة أبي أيوب الأنصاري أحس وكأنني قد اكتشفت قمة لم يكتشفها أحد قبلي في جبال هملايا” .ولم يقتصر هذا الإعجاب على هذين الباحثين، فهناك العديد من الكتاب والسياح الأجانب منهم “بارلت” و”سباتير” و”لوتي” و”باردو” و”نرفال” وغيرهم تأثروا بعمق من هذه المقابر وذكروها بإعجاب في كتبهم.
والحقيقة أن شواهد القبور العثمانية لم تكن أبداً مجرد أحجار تعطي معلومات عن هوية الشخص المتوفى، بل كانت تشير إلى مستوى الرسم البديع والفن الرفيع اللذين أنجزهما العثمانيون منذ قرون، ولم يكن الغرب هو وحده الذي أوجد هذا الفن كما يدعي.

الشاهد وأشكال معبرة

ولم يتم الاكتفاء هنا برسم العناصر والمواد فقط، بل تم تحميلها بمعانٍ عميقة. فمثلاً إن أهم شيء يمكن عمله للميت هو الدعاء له. وهذا الدعاء نجده قد تحول إلى شيء مادي ملموس معروض لأنظار جميع زوار المقبرة. وإن أهم دعاء للميت وأكثره شيوعاً هو “جعل الله قبره روضة من رياض الجنة”. وإذا ما أمعنا النظر في شواهد القبور العثمانية رأينا أن الدعاء قد انقلب إلى رسوم وأشكال. فأصحاب هذا الفن قد نجحوا في ترجمة الدعاء برسمهم فواكه الجنة على الشاهد. فلسان حالهم يقول: “لقد نحتنا هذه الفواكه على شاهد قبر المتوفى داعين الله أن يهبها إياه في الجنة”. ومن ثم نرى أن الفواكه التي ذكرت في القرآن الكريم نحتت على هذه الشواهد، لاسيما التمر، والنخيل المثقلة بهذا التمر (الصورة 7). وعادة ما تغطي أشكال ونقوش سعف النخل سطح الشاهد وتنتشر فيه بأكمله. وفي القسم الأسفل من الشاهد تتدلى عذوق النخل وسعفها. فنرى في العديد من الشواهد، الأشكال والنقوش لعناقيد العنب والنخل والتمر والرمان وأشجار الزيتون (الصور 8-9). فأمام هذا الفن وهذه الزخارف لا نملك إلا سؤال الله تعالى أن يرزق صاحب هذا القبر هذه الثمار ويطعمه منها.
ومن أكثرما نحت على الشواهد شجرة السرو (الصورة 10). وذلك لحكَم دقيقة مثل كونها شجرة دائمة الخضرة في الصيف والشتاء، ولها عطر خاص بها. وبسبب هذا العطر لا تقربها الحشرات ولا تتكاثر فيها. كما أنها بقامتها المستقيمة أصبحت في نظر البعض رمزاً لحرف الألف الذي هو الحرف الأول من كلمة الجلالة “الله”، كما أنها ترمز إلى التوحيد، وبقامتها المديدة والمستقيمة ترمز إلى الاستقامة والحقيقة أيضاً.
ومن أكثر الأشكال التي تلفت أنظارنا على الشواهد هو القنديل. وقد نحت بأشكال متعددة بلغت الأربعين. وكل هذه القناديل تبدو معلقة بسلسلة حديدية. تُربط هذه السلسلة بفم القنديل تارة، وبالحلقات الثلاث الموجودة في جانبه تارة أخرى. والمقصود من رسم القنديل على شاهد القبر هو التنوير، أي التنوير الإلهي لقبر المتوفى. وأحياناً ينقش اسمالجلالة على القنديل.
ومن الأشكال الأخرى التي تجلب النظر في شواهد القبور هي نقش الخنجر (الصورة 11). فالخنجر هو السلاح المستعمل في القتال القريب، وله نصل مقوس أو مستقيم، وهو سلاح حاد الطرف يوضع في قراب محمول على جانب الإنسان. وفي شواهد القبور العثمانية المفتوحة يرسم الخنجر على جانب اللحد. وفي القبور المغلقة يرسم فوق اللحد. وصور الخنجر وأشكالها واحدة، فرأس قبضة الخنجر يكون مروحي الشكل، أما القبضة نفسها فمنتظمة قليلاً. وترسم الخناجر وهي في جرابها، مما يعني أن صاحب الخنجر قد مات. وينتهي الخنجر بنهاية منحنية، ويتجه الجزء الحاد منه نحو قدم صاحب القبر.
أكثر الرسوم والنقوش والزينات التي تأخذ محلها في شواهد القبور العثمانية، هي القبور التي لها لحود. ففيها نرى أن أوجه اللحد تكون كلها مغطاة بهذه النقوش وكأنها حديقة من الأزهار والورود (الصورة 12).
وأحياناً نجد في القسم الأمامي أو الوسطي من لحد القبر زخرفةَ وردة على جانبيها مزهريتان فيهما الورود وأزهارالنجمية أو الزنابق والقرنفل. وفي بعض اللحود نشاهد نقوش حراشف السمك في إطار يلتف حول الجزء العلوي من اللحد أو نقوش زهرة اللوتس (النيلوفر). وفي اللحود الحجرية نرى في قسم الرأس والقدم نقوشاً لشموس نصفية مقسمة إلى شرائح تقترن بشاهد القبر. وتوجد عادة في داخل نقش الشمس في القسم العلوي بعض الكتابات. ويتصل القسم العلوي للّحد على صورة سقف مثلث الشكل. وعادة ما يتزين القسم العلوي من اللحد بنقوش وأنواع من الزينات، بحيث يبدو وكأنه قماش مزين.
وقد شيدت القبور اللحدية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولكن يمكن مشاهدة قبر قديم ذي لحد في مقبرة أبي أيوب الأنصاري في قبر بنت السلطان أحمد الثالث الأميرة “صالحة”، حيث نرى النقوش على جميع أوجه اللحد بشكل أعمدة صغيرة متصلة بعضها ببعض بالأقواس. وفي وسط كل قوس نرى وجود صدَفة مَحار. وفي بعض لحود القبور نرى نقوشاً لأعمدة على شكل الساعة الرملية. وتغطى الرموز الموجودة على وجوه بعض اللحود بنقوش لأوراق الحرشف البري. كما تغطي أشكال هذه الأوراق جهة القدم وجهة الرأس في بعض اللحود. وتوجد أحياناً مشكاة في الأوجه الضيقة من اللحد. أما نقوش القمر والنجمة المجسمة والموجودة فوق كل مشكاة وبين الأعمدة المنقوشة فيها (الصورة 13)، فتعود في معظمها إلى ما بعد عهد المشروطية الثانية.
ولما كان الغرض من شواهد القبور هو تعريف صاحب القبر إلى الأحياء، وطلب قراءة الفاتحة على روحه، فإن أوجه اللحود المتوجهة إلى الطريق تكون أكثر زينة لجلب الأنظار إليها. لذا فإن الرموز الخاصة توضع عادة على الجانب المطل على الطريق.
لا يمكن إيفاء حق وصف الزينات والنقوش لهذه المقابر التاريخية التي هي بمثابة متاحف مفتوحة عامة لفن الرخام والتي جلبت أنظار العالم بأكمله. ومن يفهم لغة هذه النقوش والرموز فسيجد في كل شكل وفي كل نقشة معلومة حول صاحب القبر. إن كل شاهد قبر يقول بلسان حاله “إن الموت ليس عدماً، وهو يحمل معاني دقيقة وعميقة”، ثم يعرض هذه المعاني بفن رفيع ونقش بديع تتمتع به الأنظار وتستروح القلوب.
____________________
* الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي
الهوامش
(1) عهد لاله (1718-1730م): وهو عهد اهتم فيه الخاصة والعامة في الدولة العثمانية بزرع زهرة الزنبق التي تدعى في التركية لاله. (المترجم)
(2) الكشكول: وعاء من قشرة جوز الهند كان الدراويش يستعملونه كوعاء أكل وكان يدعى آنذاك “وعاء الفقير”. (المترجم)
(3) حجر التسليم: حجر على شكل نجمة ذات اثنتي عشرة زاوية كان دراويش البكتاشية يحملونه في أعناقهم. (المترجم)