لغتي هي عالمي وحدود لغتي هي حدود عالمي

إذا كان الإنسان المسلم هو مشروع حضاري لم يكتمل بعدُ، فإن الطفل المسلم هو مشروع ذلك المشروع. إن مكانة الطفل في تراثنا الإسلامي مرموقة، وقد كتب الكثيرون من الفلاسفة والتربويين أمثال: الفارابي وابن سينا والغزالي وإخوان الصفا… عن أهمية الطفل ومكانته في المجتمع ونادوا بضرورة رعايته منذ الولادة، بل قبل أن يولد عندما يكون جنيناً في بطن أمه، بل قبل أن يصبح مشروع حياة، وذلك باختيار شريكة الحياة أو أم المستقبل، وذلك امتثالاً لقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: “تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس” (رواه ابن ماجه).

وتُجمِع كتب علم النفس على أن الطفولة هي المرحلة التي يقضيها الكائن الحي في رعايةِ وتربية الآخرين حتى ينضج ويكتمل ويستقل بنفسه ويعتمد عليها في تدبير شؤونه وتأمين حاجاته البيولوجية والنفسية والاجتماعية.(1)

وتعتبر مرحلة الطفولة من أهم مراحل النمو وأكثرها أثراً في حياة الإنسان، كما يعتبر الاهتمام بدراسة الطفولة اهتماماً بالمجتمع ذاته وبتقدمه. فأطفال اليوم هم شباب الغد ورجاله، وبقدر إعدادهم الإعداد السليم للحياة يتوفر للأمة المستقبل والتقدم والحضارة، ذلك أن الحكم على المجتمع ليس بما يتوفر لديه من إمكانيات مادية، وإنما بقدر ما يتوفر لديه من ثروة بشرية.

اللغة هي قدر الإنسان

اللغة هي قدر الإنسان الاجتماعي، فكما تكشف عن طبقته وجذور نشأته، تكشف أيضاً عن عقليته وقدراته وميوله الفكرية. وأبعد من ذلك، فإن اللغة وعاء لحفظ التراث الإنساني وإنماء الثقافة ونقلها إلى الأجيال. وعن أهمية اللغة يقول أهل النسبية اللغوية: “لغتي هي عالمي، وحدود لغتي هي حدود عالمي”. فـ”اللغة هي الذات وهي الهوية، وهي أداتنا لكي نصنع من المجتمع واقعاً” كما يقول “بتر برجر”.

وثقافة كل أمة كامنة في لغتها، كامنة في معجمها ونحوها ونصوصها. واللغة -بلا منازع- أبرز السمات الثقافية. وما من حضارة إنسانية إلا وصاحبتها نهضة لغوية، وما من صراع بشري إلا ويبطن في جوفه صراعاً لغوياً، حتى قيل: إنه يمكن صياغة تاريخ البشرية على أساس من صراعاتها اللغوية.(2)

مفهوم الهوية

في كتابه “تلخيص ما بعد الطبيعة” يقول الفيلسوف الكبير ابن رشد: “إن الهوية تقال بالترادف للمعنى الذي يطلق على اسم الموجود، وهي مشتقة من “الهو”، كما تشتق الإنسانية من الإنسان”. وهو بهذا يعود بنا إلى مفهوم الهوية أو الذاتية في منطق أرسطو باعتبارها “تماثل الشيء مع ذاته”، فـ”ألف” هي “ألف” وليست “لا ألف”. ولهذا نرى في “التعريفات” للجرجاني، أن الهوية هو الأمر المتعقّل من حيث امتيازه عن الأغيار، والامتياز هنا بمعنى “الخصوصية” و”الاختلاف” لا بمعنى “التفاضل”. ولعل ابن خلدون قد استطاع أن يبرز هذا المعنى أكثر وضوحا بقوله في “المقدمة”: “لكل شيء طبيعة تخصه”. وعلى هذا فانتفاء خصوصية الشيء هو انتفاء لوجوده ونفيه.(3)

الطفل واللغة

يؤكد الموجهون التربويون على أن: “التربية اللغوية لها مكانة بارزة، لأن لغة الكلام تسود وتساند جميع نشاطات الطفل الأخرى”.(4) ولهذا السبب يرى “مالينوفسكي” أن المفردات اللغوية في أي مجتمع من المجتمعات تعتبر المرآة الصادقة التي تعكس صورة واضحة لما عليه أفراد هذا المجتمع؛ من ثقافة ونظم وعادات وتقاليد واتجاهات. وكما هو معلوم، فإن نمو الذكاء يتم على قدر المساواة مع النضج اللغوي؛ فبدون اللغة اللفظية التي تصبغ التفكير بالصبغة الاجتماعية، من المستحيل نضج ذكاء الطفل بصورة كاملة وهذا ما أكده “جان بياجيه”.

ونظرا لأهمية مرحلة الطفولة في مجال البحث السيكولوجي والتربوي، لما لهذه الفترة من تأثير مباشر على حياة الفرد فيما بعد، فإننا نجد مدرسة التحليل النفسي بزعامة “فرويد”، تؤكد على أن السنوات الخمس الأولى من عمر الطفل، هي التي تكون نواة شخصيته. وتؤكد أيضاً على أهمية معاملة الطفل في هذه المرحلة بكثير من الحب العطف؛ بمعنى أن سلوك الفرد الراشد ما هو إلا امتداد لخبرات الطفولة المبكرة. وإذا نظرنا إلى اللغة نجد أنها أحد جوانب هذا السلوك، حيث تتأثر بعوامل تكوينية وبيئية.(5)

مصادر التربية اللغوية عند الطفل

المنـزل: أثبتت الأبحاث العلمية أن الأسرة هي المكان الأمثل لتربية الطفل ولتكوينه عاطفياً ولغوياً، حيث تلعب الرعاية والعواطف الأبوية دوراً بارزاً في اكتساب الطفل للغة، ولذلك يقول اللغوي الفرنسي “مارسيل كوهين”: “يتمتع الأطفال بأفضل ظروف للنمو، واكتساب اللغة خاصة عندما يتم رعايتهم بدأب وتفان منقطع النظير وبهدوء تام، من جانب الوالدين أو من يقوم مقامهما”.(6)

وللوالدين في تربية الطفل دور ذو خطر وبال، فهما اللذان “يهودانه أو ينصرانه”. وللأم بالذات الدور الأكبر والأعمق والأكثر تأثيراً؛ إنها تداعب صغيرها وتراقصه وتغني له وترضعه من لسانها كما ترضعه من صدرها… فإن كان المنطوق عربياً صحيحاً فصيحاً أو عامياً مخلوطاً أو مغلوطاً، جاء استخلاص الطفل على وفاقه.

دور التعليم: ينتقل الصغير بعدُ إلى دور التعليم، وقد يكون لديه محصول لغوي صحيح أو مغلوط أو مخلوط بلهجات، والمفروض أن تعي المدرسة -بدءاً بالحضانة والكتاب- احتمال وقوع هذا الوضع اللغوي المحروم من التكامل والتناسق، فتعمل على مواجهة هذا الاحتمال، وذلك بإشاعة جو لغوي سليم من شأنه تقريب ألسن الصغار بعضها من بعض وصولا إلى لسان مشترك، ومن أجل هذا كانت الأنظمة التربوية الوطنية. فهي باستعمالها اللغات الوطنية كوسيلة للتربية، تصنع في الميدان أقوى وسيلة لبناء تفكير الأجيال القادمة.(7)

وسائل الإعلام: إن الإعلام هو تزويد الناس بالأخبار الصحيحة التي تساعدهم على تكوين رأي صائب في مشكلة من المشكلات.(8) ولا شك أن البرامج التلفزية والإذاعية تمتاز بتنوع كبير؛ بحيث توفر للطفل غداء عقلياً ووجدانياً متكاملاً إلى جانب كونها مصدراً من مصادر المعرفة والثقافة. ومعلوم أن كل تنوع في المعرفة يعكس تنوعاً في اللغة. وإننا اليوم إن ولينا وجوهنا شطر لغة الإعلام بأنواعه، نلحظ أن استعمال اللغة فيه أصبح عشوائياً بحيث أضر بها ضرراً بليغاً، حيث أصبح استعمال اللهجات العامية فيها من الشائع المعروف.

 

اللغة والشخصية

يرى “فيخته” صاحب فلسفة “الإنية” أو “الذاتية” -وكلمة الإنية هذه لابن سينا- أن وجود أمة من الأمم بوجود إنيتها التي هي شخصيتها، وأن هذه الشخصية تتكون من عناصر ثلاثة: الدين، واللغة، وحب الوطن.

ويقول عن العنصر الديني: “إن تربية الشعب على التمسك بالدين والأخلاق هي أساس كل حكومة، وعلى الحكومة أن تؤسس معهداً دائماً لهذه التربية الدينية”.

أما اللغة الأصيلة في نظر “فيخته” فهي: “رمز وجود الأمة، وبقدر أصالة اللغة والمحافظة على اللغة الأصيلة أو فقدانها تكون المجموعة البشرية أمة وشعباً أصيلاً أو مجرد أشتات فحسب”.

والعنصر الثالث للشخصية وحياة الأمة، هو حب الوطن، يقول “فيخته”: “فكما أن الدين هو العنصر الدائم لحياتنا الروحية… فإن حب الوطن هو العنصر الدائم والأساسي لحياتنا المدنية كمواطنين”.(9) وجاء في الأثر: “حب الوطن من الإيمان”.

ومن هنا كانت اللغة الوطنية هي تلك اللغة التي تقبل من طرف الجميع كوسيلة للتبادل والاتصال الاجتماعي وكشعار خارجي لجنسيتهم. إن الأنظمة التربوية الوطنية باستعمالها اللغات الوطنية كوسيلة للتربية، تصنع في الميدان أقوى وسيلة لبناء تفكير الأجيال القادمة.

 

اللغة، حاملة للثقافة

أصبح الاهتمام بالطفل في الدول المتقدمة يحتل مركز الأولوية من الخطط والبرامج والاهتمامات على كل المستويات الوطنية والقومية، وأخذت تعنى عناية فائقة بتعليم الأطفال وتثقيفهم وتربيتهم من النواحي الصحية والنفسية والثقافية والاجتماعية والعقلية… وخطط الإنماء المبرمجة اقتصادياً واجتماعياً، تَعتبر برامج تنمية الأطفال جزءاً لا يتجزأ منها. وقد جاء هذا الاهتمام من قبل المجتمعات المتقدمة نتيجة إيمانهم بأن العناية بطفلٍ هي عناية بالإنسان والمستقبل، ويلعب الجانب الثقافي الدور الطبيعي في تحقيق الطموح نحو الغد المشرق.

وإذا كانت الثقافة هي الحصيلة المشتركة من الدين واللغة والمعرفة والعمل والفن والأدب والتراث والقيم والتقاليد والأخلاق والتاريخ والوجدان ومعايير العقل والسلوك وغيرها من مقومات، فإن اللغة هي أخص خصائص الثقافة؛ فهي من جهة تعتبر حاملا للثقافة، ومن جهة أخرى وسيلة للتفاهم بين الأفراد والجماعات. وهذا ما دفع بـ”إدوارد سابير” إلى اعتبار اللغة ظاهرة ثقافية، بل إن الثقافة نفسها هي في النهاية لغة.

ومن هذا المنطلق سيكون للعولمة دور في طمس التراث الثقافي الأصيل للأمة ومحاولة تشويهه، ولكي نواجه ذلك بفاعلية وجدوى، فلابد أن نبتدئ على مستوى الطفل بتنشئته تنشئة أصيلة تنمي فيه الاعتداد بالنفس والمقدرة على الإبداع والخلق والإشعاع، حتى يستطيع أن يقف من ذلك الغزو الثقافي المكثف بعد اجتيازه مرحلة الطفولة موقف المغربل الواعي، لا موقف المستهلك السلبي لما يرد عليه باستمرار من الخارج.

ويشكل الاهتمام بأدب الأطفال (شعراً وقصة…) اهتماماً بالجانب الثقافي للطفل. وأول اتصال للطفل بالأدب، يكون عن طريق الرواية الشفوية من لدن الأم والجدة لأغنيات المهد والقصص الشعبية وصولا إلى القراءة الذاتية في الكتاب.

ــــــــــــ

الهوامش

(1) اكتساب اللغة العربية عند الطفل الجزائري، لحفيظة تازروتي، دار القصبة للنشر، ص:7، الجزائر 2003.

(2) ثقافة اللغة، للدكتور نيبل علي، عالم المعرفة، العدد: 265/2001، ص:227-228.

(3) حول مفهوم الهوية، للدكتور محمود أمين العالم، مجلة العربي، العدد: 437/1995، ص:26.

(4) التربية اللغوية للطفل، لسرجيو سيبيني، ترجمة: فزي عيسى وأخر، دار الفكر العربي، القاهرة 1991، ص:7.

(5) أثر تربية الملجأ وتربية الأسرة على النمو اللغوي، لنادية بعيبع، مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية، العدد: 3/1995، ص:109.

(6) مرجع سابق، لحفيظة تازروتي، ص:9.

(7) التربية والطابع الوطني، لزردومي امحمد، حوليات جامعة الجزائر، عدد خاص، 1995-1996، ص:88.

(8) أثر وسائل الإعلام على الطفل، للدكتور صالح ذياب هندي، جمعية المطابع، ص:17، ط1، الأردن 1990.

(9) المرجع السابع، مجلة الأصالة، ص:54.