لغة الإنسان والتواصل عند الحيوان

نالت ظاهرة اللغة لفظًا ومعني شكلاً ومضمونًا أهمية كبرى لدي الإنسان، ففي إكتسابها تكريم وتمييز تفضيل له عن سائر المخلوقات، فبها بيانه وتبيانه عن أفكاره، وخبراته ومشاعره، وتواصله مع بني جنسه. ولدى الحيوانات سُبل تواصل، وأدوات اتصال وتفاهم متعددة لكنها تختلف عن لغة الإنسان.

الاتصال عند الحيوان

برز مصطلح الإتصال “Communication” وغزت علومه مجالات عدة: الإعلام، والتربية، والتعليم، والاقتصاد، والاجتماع، مجالات هامة للبشر، إلا أننا لسنا وحدنا فوق الأرض. فمعنا شركاء وأمم يفوقوننا عددًا وتنوعًا، وأحيانًا عُدة وقوة. ولهم أيضا سُبل اتصال وتواصل فيما بينهم. وليس من قبيل المبالغة القول: إنه عبر التاريخ الطويل من العلاقة بين الإنسان والحيوان لم يحظ موضوع بفضول الأول قدر فهم “اللغة” التي يتواصل بها الثاني، وفك رموزها، واستبيان شفرتها، مع ما قد تشكله من خلفيةٍ جيدةٍ لفهم وتفسير بعض خفايا اللغة، والسلوك البشرى الغامض.

أظهرت الدراسات أن بعض أنواع الحيوان تستخدم أنظمة اتصالية متطورة نسبيًّا. فلديها عدد من “الرسائل التعبيرية” الخاصة بموضوعات معينة، فعند قرب المسافات تتواصل كائنات بلغة سريعة وبسيطة، يسهل إيجاد مرسلها حتى في الظلام، ويفهمها مُستقبلها.

وأظهرت الدراسات أن بعض أنواع الحيوان تستخدم أنظمة اتصالية متطورة نسبيًّا. فلديها عدد من “الرسائل التعبيرية” الخاصة بموضوعات معينة، فعند قرب المسافات تتواصل كائنات بلغة سريعة وبسيطة، يسهل إيجاد مرسلها حتى في الظلام، ويفهمها مُستقبلها، وهي وسيلة الإتصال الجسدي، فملامسة الجلد بين بعض الرئيسيات كالغوريلا والقرود يعبر عن الاهتمام، والرعاية، والمسئولية، بينما يوجد بعض أنواع الكلاب ذات المكانة المرموقة تضع أقدامها فوق ظهر من دونها مكانة، تعبيرًا عن السيادة، والتفاوت الطبقي!.

ومن طريف الاتصال اللمسي ولغته التي لا تخطئ: التجربة المشهورة على نوعين من الإسفنج الأبيض والأحمر، تم تفكيك خلاياهما ولوحظت مجهريًا، فوُجد أن كل خلية قد تعرفت على هوية أختها، وماركتها المسجلة والتحمت معها لتكون قطعة كاملة من الإسفنج، دونما خطأ بين النوعين الأحمر والأبيض.

الاتصال الصوتي

وسيلة سريعة لإيصال الرسائل بين الفرقاء، وهى لغة “مفيدة” عند عدم رؤية مصدرها (كما في الظلام، وفى الماء، وفي المراعي الكثيفة)، ويتم هذا التخاطب عبر أصواتِ تصدر من الجهاز التنفسي (فللثدييات حنجرة، وللطيور ما يشابهها)، أو بإحداث ضجة عبر الضرب بالحوافر على الأرض، أو عبر إحداث احتكاك مسموع بين أجزاء الهيكل الخارجي في الحشرات بين الزوائد. ولا يُذكر هذا النوع من الاتصال إلا وتتبادر إلى الذهن صورة طيور الزينة الجميلة وغنائها الشجي، طلبًا للتزاوج وتنشيطاً لجهازها التناسلي، فلقد وُجد أن حجم المبايض ونشاطهما أصغر وأقل إذا ما وضعت أنواع من الحمام المُعنق في حجرات منعزلة لا تتخاطب صوتيًّا فيما بينها وبين ذكورها.

وخلال ستين عامًا من العمل أحصى العالم الألماني “ايريخ بوينر” ثلاثين نوعًا من الأصوات في الطيور، ووجد أنها قد تتشابه ولكن تختلف في طبقتها، وعند الطيور التي لا تتواصل صوتيًّا تلعب المثيرات البصرية دورها القوى في التناسل، حتى أن لذكر الفئران “غزل صوتي” يتم تبادله مع أنثاه، كما يلعب هذا التواصل الصوتي دورًا مؤثرًا في نمو الأجنة، فأجنة الطيور تستجيب للمثيرات الصوتية الخارجية (كصوت الآباء) منذ اليوم الثاني عشر من تطور نموهم داخل البي، وتبدأ صغار الدجاج والبط في إصدار أصوات هادئة ومتواصلة قبل أيام قليلة من خروجها من قشرة البيض، لتهيئتها للفقس، والذي قد يتزامن في آن معًا، وفي بعض منازلنا لا يزال الببغاء “وبخاصة الزنجباري منه” هو”مَـلك” التقليد لما يتم تلقينه من مفردات لغتنا البشرية. وعلى قدر حيازته منها، وإجادته لها يُقوم ثمنه ارتفاعًا وهبوطًا، ويبقي أنه لا يستطيع توليد كلمات أو تأليف جملة لم يتعلمها من مُلقنه.

لغة الكيمياء

تبقى “لغة” الكيمياء، ورسائلها (تحديدًا للأثر، أو إنذارًا أو جذبًا للجنس) صاحبة اليد الطولي في هذا المضمار، فهي تنتقل مباشرة عبر الاحتكاك المباشر أو عبر الهواء (حركة الرياح) أو السوائل، وتتفوق على باقي الأدوات في بقائها مدة من الزمن بعد غياب مرسلها، ويتم تبادلها بين مرسل يجيد صياغتها والتعبير عنها، ومستقبل لها من حاستي الشم والتذوق، ما يجعله يتقن التعرف عليها، وفك شفرتها، ومعرفة مدلولاتها، دونما خطأ في الترجمة أو الفهم.

الاتصال الشمي لدى الحيوانات المفترسة (غالباً الذكور) في جعبتها “مهارة لغوية” فائقة تمكنها من تتبع روائح (فرمونات) فرائسها، بينما تقوم إناث أخريات ببث (رسائل إعلامية مضللة) تضلل بها مفترسيها.

ومن ثم الاستجابة السلوكية أو الفسيولوجية لها. وهذه اللغة لها صورها وأغراضها ومنها: الرسائل الكيمائية الصادرة عبر إفرازات الغدد المختلفة كالغدد الجنسية الثانوية في العديد من الثدييات، وتؤثر الهرمونات على حالة الغدد والدوائر العصبية ومن ثم على وظيفتي إنتاج وإطلاق تلك الشفرة الكيمائية. كذلك تسهم في العلاقة الترابطية بين الأمهات وصغارهن، وفقاً لظهور هرمون البرولاكتين (المسئول عن إدرار اللبن في المرضعات) كما تفرز أمهات الفئران فرمونات في فضلاتها تجذب بها صغارهن. ولها هدف رسم الخرائط ووضع الحدود لمناطق النفوذ والهيمنة وللتعارف: فذكور الحيوانات ـ وأحيانا إناثها ـ تفرز “فرمونات” وفق مستوى هرمونات الذكورة التي يحتويها دم الناضجين منهم، كما تسهم غدد الفم، ورائحة الفضلات كالبول والبراز في هذا الشأن.

والاتصال الشمي لدى الحيوانات المفترسة (غالباً الذكور) في جعبتها “مهارة لغوية” فائقة تمكنها من تتبع روائح (فرمونات) فرائسها، بينما تقوم إناث أخريات ببث (رسائل إعلامية مضللة) تضلل بها مفترسيها، أما رشاشات السم في الثعابين، ولسعات النحل، وتلك الإفرازات الطاردة للحشرات فتضيف سلاحاً إعلامياً لأصحابها.. دفاعاً وهجوماً. وتبقي غدد العين لها دورها في التصارع الاجتماعي، وإنشاء أو إحباط استجابات مشتركة.

وكان يُعتقد أن تواصل الحشرات فائقة التنظيم كالنمل والنحل هو عبر قرون استشعارها، وعبر الحركات والإشارات الراقصة، لكن ثبت أن لدى النمل نظام متطور من الغدد الموزعة على جميع أجزاء جسمها وهى تقوم بفرز رسائل كيمائية يتم التعرف علي معناها بدقة، حيث لكل بخار طيار تجويفه الخاص به، حيث يتم فهم الرسالة” جاذبة للجنس أم تحديداً لـ”الأثر” باتجاه الغذاء أو العش الجديد أم هي لـ”الإنذار” و الدفاع عن الخلية، كما تم قتل بعض النمل ووضعت تلك المواد إلى حيث تؤدي إلى مستعمرته هو، فتتبعها في آلية. ومن الملاحظ إن وفرة الصيد أو الغذاء يرادف تركيزًا عالياً لهذه الرسائل لما تضيفه كل نملة، ذهاباً وإياباً، عبر هذه الخطوط، كما أن مادة الجرانيول (Geraniol) وهي ضمن الزيوت الطيارة لكثير من الزهور وتطلقها أيضا شغالات النحل قائلة: “هذه عينة مما حصلت عليه من رحيق جميل”.

اللغة ميزة إنسانية، و”هوية” بشرية. وقد يُنظر إلى “تمايزنا اللغوي” عن الحيوان بقدرة المخ البشرى، والتهيئة البيولوجية لإكتسابها، ومعالجة المنطوق منها بعد رسوخ المنظور. فالإنسان هو الوحيد الذي يفسر الرموز الصوتية التي تصل إلى مخه، ويتفق باحثون على أن أداءات الشمبانزي “نشاط” يتم بغياب الكلام، وهو ما يميز الإنسان الذي لا ينفصل عنده التفكير عن اللغة. لكن “هل الفكر يسبق اللغة أم اللغة تسبق الفكر؟”. إشكالية أحتار العلماء فيها. فعندما نفكر نستعمل اللغة حتى دون النطق بكلمة واحدة. كذلك لا تتضح أي فكرة ـ مادية أو معنويةـ إلا بالتعبير عنها لغويًّا، ونحن “نتكلم لنكتشف ما نفكر فيه”، حتي عندما يكبر الأطفال يكتشفون أن لديهم مخزونًا من المشاعر والأفكار والخبرات التي تشكلت قبل قدرتهم على التعبير عنها بكلمات، فتبقى داخلهم وبامكانهم أكتشافها وكشفها بالكتابة الإبداعية.

ورغم ذلك يبقي الإنسان كائنًا لغويًّا له منظومته اللغوية الخاصة، عكس التواصل عند الحيوان التي تظل مجرد وظائف بيولوجية وغريزية محددة.