لست وحيدًا

في سؤال مفاجئ من ابن العاشرة لصاحب المرسم الذي يذهب إليه كل صباح ليلمّع حذاءه: أتعرف كيف جئت للحياة؟ ولماذا؟ ارتبكت الأحرف في فم الرسام، وقرر أن يجيب عن سؤاله بما يحبه الفتى، رفع الستار من على لوحة تبدو لأول وهلة لشاب يعانق فتاة، أومأ الفتى ثم اقترب من الصورة، اقترب أكثر وردد صرخته المكتومة، أزاح الغطاء من على أخرى، حروف تتطاير في الهواء، وجوه متجهمة، أطفال نصف عراة، طرق خالية، قلوب نصفها أحمر والآخر يميل إلى السواد، في جانب منها يبدو قطيع صغير من الأسود مشرئب الرؤوس، في الجانب الآخر تقف امرأة تمد يدها لتمسح دمع صغير، في أعلى الصورة على الجانب الأيسر قمر في طريقه للاختفاء، وعلى الجانب الأيمن يتهادى نور الشمس في الظهور.
يتلمس الفتى حروفًا بارزة على لوحة “من رحم اليأس تولد الحياة” سمع صوت الرسام يلامس روحه: كنت مثلك، أشبهك، يتيمًا، لطيمًا، لقيطًا، لا أعرف مَنْ أكون، لمَّعتُ أحذية، نمتُ على أرصفة الطرقات، سرقتُ نظرات سعادة لطفل تحمله أمه، لم يحطني مكانٌ، صارعني الزمن فهزمته، أدخر من المال لأشتري ساعة تنبهني تشغلني، لا أعرف وقتها لماذا انتبهت للزمن. كانت أيامي تشبه بعضها، تعهدني صاحب هذا البيت، كنت أرى في الرسم متنفسًا لأحلامي الضائعة على محطات الفقر.. علمني كيف أخط خطوطًا، كل لوحة رسمتها كانت نقطة، خطًّا، كوَّنت من نقاط كثيرة قمرًا سطع في قلبي. أخبرني أنه وحيد أراد أن يستبقيني في المكان، يخاف أن تأتيه الأزمة وتتعفن جثته، قتلته الوحدة، وقتلني ضجيج الشوارع التي أسكنها.. أخذني وقبل أن يعلمني الرسم كما وعدني، علمني كيف أقرأ، كيف أعيش، كيف أكون إنسانًا.. أصبحت أرتاد كل دول العالم، في الصباح أشرب قهوتي على موسيقى بيتهوفن.. قالوا إنه أصم، في سيمفونيته التاسعة لم يسمع صوت أنامله، بدقات قلبه وازن الإيقاع.. وقتها أيقنت أن الأشياء عندما نتعودها، نحبها، تصبح كعضو من أعضاء الجسد يقوم بوظيفته دون إرادة منّا، حين نحاول إيقافها لا نستطيع، بيتهوفن فَقَدَ أدق الحواس، يُسمع الناس ما حُرِمَ من سماعه، كبائع ورد فقد بصره، كعروس تنتظر شهيدها بفستانها الأبيض.. علمني كيف أعيش، دربني كيف أرسم بلون ألف حياة.
حين انتهى من حديثه، لاحظ أن ملامح وجه الفتى تغيرت؛ يتصبب العرق من جبينه، يعلو صوت نفسه، تأرجح يمنة ويسرة ثم عاد إلى اتزانه، وقال للرسام: أخاف أن تتعفن جثتي في الطرقات، ثم انحنى على حذائه يلمّعه، انتفض جسد الرسام وسحب قدمه إلى الخلف في سرعة فكاد يفقد توازنه، اتكأ على كتف الفتى وظل دقائق والفتى لم يبد ضجرًا من ثقله، ثم رفع الرجل ذراعه وقال: تستطيع؟ نظر إليه مستفهمًا فقال: تستطيع أن تحملني وحدك في شيخوختي، تحملني حين تستيقظ ذات صباح وتفتح نوافذ هذا البيت فتكتشف أن روحي فارقت هذا العالم.

(*) كاتبة وأديبة مصرية.