“كوفيد19” صور وعبر

بعيدا عن تلك الأسئلة التي حركت العالم، وأثقلت عقول الناس العلماء منهم وغيرهم؛ من أين جاءت كورونا؟ ومن نشرها في العالم؟ وما الهدف من ذلك؟ هناك أسئلة أهم وأكبر: ماذا استفدنا من هذه التجربة المصاب منا والذي مازال ينتظر؟ ماهي نظرتنا إلى الحياة بعد هذا الوباء وعمق ما حمل من هدايا ربانية وحكم وإشارات يجب علينا تدبرها؟ 

أيها القارئ الكريم، كورونا جاءت وانتهى الأمر، لا يجب أن يبحث إنسان عادي غير متخصص في أمر جلل حيَّر كبار العلماء والأطباء وأَعجزَهم عن إيجاد مَصلٍ يُنقذُ البشرية منه بشكل نهائي، ولا يجب أن يطرح أسئلة يصل في الأخير منها إلى الحسرة والألم والقلق النفسي. بالمختصر المفيد؛ دعوا النقاش في هذا الوباء -الأسباب والنتائج واللقاحات- للمتخصصين من أهل العلم، فمهما اجتهدتم في البحث لن تصلوا إلى لقاح، لكن لو تدبّرتم البعد الرِّسالي  للمرض لفهمتموه بكل تأكيد.

الابتلاء طريق إلى المعرفة الصادقة والإيمان القوي

يمكن أن ينظر غير المتخصص إلى الوباء من زاوية إيمانية؛ زاوية تفسر الأمر على أنه ابتلاء لتزكية النفوس وتطهيرها من كل ما فيها من كبر ورياء، وعناد وتجبر، وتعظيم للذات وغرور بقوتها. لقد جاء الوباء لتطهير النفوس من الزيف والنفاق، وخُلُق التأجيل والتَّسْويفِ، كما جاء لرفع تلك الغشاوة التي تَحجِب رُؤيةَ حقيقةِ بعض البشر، وكَسْر بعض الأصنام الوهمية التي مازال الإنسان لها عاكفا، أن يبين لنا بصورة جلية حقيقة من حولنا، ففي الشدائد فقط تعرف الخلان وفي الليالي المظلمة تعرف نجومك المضيئة.

إن الذي عاش تجربة الإصابة بالفيروس وخرج منها حيا، مُنِح فرصة ثانية في الحياة، منح فرصة عظيمة حين تَدبَّرَ حقارة الفيروس ومجهرية حجمه، أمام عظيم أثره وجلل نتائجه، هذا كله أمام قدرة الله تعالى الذي انتشل هذا المريض من بين الأموات ليحيا حياة ثانية. ولو علم هذه القيمة لزَهدَ في كل هذه الدنيا زُهدَ مؤمنٍ عارفٍ تخلَّى ورعًا لا خوفًا وكرها. 

فالمؤمن القوي، لن يخرج من هذه التجربة العويصة إلا بقدر جديد من الإيمان، وبكثير من النقاء والصفاء الروحي، حين يتقبل الابتلاء برضى ويصبر على ما فيه من آلام وصلت ببعضنا إلى غرغرة الموت ثم عاد ثابتا. إنه امتحان رباني طهَّره من كل مغريات الدنيا وملذاتها، ولا أظن أن من عاد من موت محقق سيغريه بريق الدنيا الفانية مرة أخرى. لا يعني هذا أن الإقبال على الحياة بعد المرض انتكاسة بعد استقامة، لا، بل إن طريقة الإقبال مرة ثانية على الحياة هي المحدد، فشتَّانَ من رأى في المرض رسالة واعظٍ، ومن رآه خللا أو اضطرابا عَرَضيا يصيب الجسد.

أما الفريق الأول فقد علم أنه حق من الله، وأما الفريق الثاني فقال: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ فترى أن أكثرهم اعتقده زكاما عابرا عاديا، لكنه أكبر من ذلك وقد أثبت الواقع بشاعته.

وقد كان حال بعض الناس مع الوباء القاتل “كوفيد 19” كمن قال: {رَبِّ ارْجِعُونِ  لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} بعد أن حُرم من الهواء الرباني، وأصبح يتنفَّسُه في عبوات طبِّيَّة بعد أن أخذَ منه الداء قوةَ استنشاق الهواء بشكل طبيعي، فاستجاب الله له ووَهَبَه فرصةً أخرى في الحياة. فلما حظيَ بهذه الفرصة انقلبَ على عقِبِه، وأَنكَرَ عهدَه مع الله، وعاد إلى سابق عملِه كأنَّ شيئا لم يكن. 

لكن الحال يقول: هذه فرصة ثانية لم تعط لغيرك فاغتنمها، اجعلها فرصة للتوبة، فرصة لمراجعة علاقاتك مع الآخرين، فرصة لرسم خطة جديدة إيجابية للحياة… اغتنمها بأي شكل إلا أن تعود إلى ضلالك القديم.

لا تتباهى بكثرة من هم حولك في ساعات اليسر

في فترة المرض العادي قد يَلْتفُّ حولك الأهل والأحبة، يملأون الفضاء حولك لتشعر أنك لست وحدك في هذه الحياة، لكن هذا الوباء الجديد لا يترك فرصة لا لقريب ولا لحبيب في عيادتك فتجبر على الوحدة، ويجبر الأهل على البعد حتى لا ينتشر المرض أكثر. لكن الابتعاد لا يعني القطيعة، فإذا كان المرض معديا بالتواصل الجسدي فالمرض لا يعدي عبر الهاتف !. فلا تغتَرَّ في ساعات اليُسرِ بمن حولك.

لقد كسَر الوباء تلك العدسةَ التي كانت تُزيِّن العلاقات وتُظهرها في أحسن صورة، فبدَأت تَظهر حقيقة الناس دون تعديلات ولا فِلْترات، وما أبشع تلك اللحظة التي عرَّت الواقع وأظهرته في منتهى قباحته ! كم كنا مخدوعين بصور من حولنا وكل ما كان حولنا؟

كم تصبح الحياة صورة سوداء، كل الألوان أمامك لكن، لا تستطيع إليها سبيلا، كل ما كان يشكل السعادة حولك، لكن لا تريد من ذلك شيئا سوى أن تقف بكامل قوتك. تلك الأشياء التي لم تكن تُعيرُ لها بَالًا أصبحت ذات أهمية كبيرة جدا؛ كأن تشرب كأس ماء وتهنأ به، أن تستنشق بعض الهواء فيطيب معبره في رئتيك، أن تضع يدك على قلبك فتشعر بدقاته لحنا هادئا، أن تتلذذ بطعامك، أن تمشي منتصبا لدقائق لا أكثر، أن تَسْبَح بعينيك في ملكوت الله من نافذة غرفتك، أن تضع جبهتك على سجادتك دون أن يخِرَّ جسدك كاملا إلى الأرض.. لكن، لا تقوى على شيء من هذا أمام قوة المرض الذي يلزمك فراشا أتعبك ولا خلاص لك منه، فلم تتطهر نفسك بعد، والناس من حولك في نفور. في مثل هذه اللحظات الصعبة، تشتهي من الناس رنة هاتف، رسالة صغيرة يتمنون لك فيها الشفاء، عبارة صباح الخير أو مساء الخير عبر الواتساب، كل هذا يرتفع فجأة كأنك معد حتى عبر الهاتف.

حين تصبح في غرفة منعزلة بعيدا عن الناس، تصغر أمانيك مع البشر وتكبر  أمانيك مع الله الذي لا يتخلى عنك أبدا. يبقى الله وحده معك يخاطبك في كل حين: عبدي إني قريب، اسجد واقترب، ادعني أستجب لك… في الأخير تصل إلى قناعة واحدة هي أن لا تتباهى بعدد من حولك، فبقاؤهم مؤقت ورحيلهم مؤكد ولا يدوم إلا وجه الحي الذي لا يموت.

العلماء يشتغلون بجد والله من فوقهم قدير على كل شيء.

لا يُنكر ما يقوم به العلماء في كل بقاع العالم من محاولات وجهود جبارة في إيجاد حلول لهذا الوباء العالمي إلا جاحد، لكنهم مازالوا عاجزين أمام حقارته المجهرية، وقوة إماتته للعباد، وسرعة انتشاره.

 وقد زاد من قلقهم الواضح، أنهم حين احتفلوا بالوصول إلى لقاحات في أكثر من بلد، وتباهى كل مختبر بمُنجَزِه، ظهر من سلالة الوباء ما هو أسرع منه وأثبت لياقته الرهيبة في التحول والتطور إلى نوع جديد، فأصبحوا كمن سلبهم الذباب شيئا فلم يستطيعوا استنقاذه منه، ليقفوا شاخصين أمام ما يقع، فقد ضعف الطالب والمطلوب.

إن الله سبحان وتعالى إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، فلو أراد إنهاء هذا الكابوس الوبائي العالمي لسخَّر له من بني جلدتنا من يقدِّم للعالم الحل في طبق من ذهب، وهذا أمر لا يعجزه  سبحانه. ولكنه يمهلنا إلى أجلٍّ تتطهر فيه النفوس وتخرج من ضلالها، أجلّ تعتقد فيه النفوس اعتقادا تاما أن لا رادَّ لقضاء الله إلا الله، وأن الأمر كلّه بيده، فلا حل يُرتجى من العباد إلا إذا شاء رب العباد. 

فلا يظنن ظان أنهم توصلوا إلى هذه اللقاحات بعلمهم وبقوتهم فقط، بل بالاعتقاد الجازم في أن الله سبحانه وتعالى سخَّر هؤلاء القوم لهذا الأمر. فإذا كانت هناك قِبلة تقصد بالدعاء والرجاء في مثل هذه الأوقات الصعبة فهي قبلة الله تعالى وحده، لا أن تشرئبَّ الأعناق إلى المختبرات تنتظر الفرج دون الرجاء في الله، ولا ينبغي أن ننسى أن {فوق كل ذي علم عليم} فالله العليم وهو فوق كل عالم.

أخيرًا

يخبِّئ التاريخ حقائق كثيرة، ويطمس جاهدا أخرى خصوصا تلك المتعلقة بإبادة الشعوب، وقد تظهر في زمن لاحق بوصفها جريمة إنسانية. ولعل الأيام القادمة كفيلة بكشف لغز”كوفيد19″.

لكن الذي يهمنا، الاعتقاد بأن الوباء ابتلاء كغيره من الابتلاءات التي مرَّت بالإنسانية، جاء ليطهِّرَك من الذنوب والخطايا، جاء من أجلك لتراجع نفسك وتُحدد من جديد هدفك في الحياة، جاء ليضع الناس حولك في ميزان القرب والبعد، فيبين الزائف منهم من الحقيقي. باختصار أن يغربلك أنت من السلبية والسلبيين، أن يشحنك بالإيجابية، ولا يُبقيَ حولك إلا الصادق الصدوق، وما أندرهم في زمن اختلت فيه كل الموازين.

فإذا كان الموت واعظا، فكفى بالمرض مصلحا وواعظا أيضا، فالمرض مدرسة للتفكر ومراجعة الذات، مدرسة تمنحك فرصة استدراك ما فاتك في الماضي ومراجعة قرارات متعلقة بالقادم من أيامك.

والوباء على قساوته، جاء ليربيك من جديد، تربية إيمانية روحية، فلا تخجل من ذلك، ولا تخجل من الجلوس والتربع لتعلم الدين والأخلاق والمعاملات من جديد، فالتربية الإيمانية والأخلاقية مدرسة إصلاحية تقبل جميع الأعمار. فطوبي لمن دخل هذه المدرسة وخرج منها ربانيا، مؤمنا.

يبدو أن الوباء ابتلاء لابد منه، وسيصيب الجميع إلا من رحم الله طال الزمن أم قصر، فاستعدوا له بالقوة والثبات وكثيــــــر من الإيمان.