إن أول ما يخلص إليه من يقرأ كتب الأستاذ محمد فتح الله كولن، هو أن هذا الرجل من أصحاب الهمم العالية الذين آثروا الاشتغال بهموم الناس، والتفكير في أحوال أمته وأحوال العالم من حوله. لقد طرح اليأس من قلبه فراح يبذل وسعه في الدعوة إلى الخير وبذر الفضائل، فقدم المثال من نفسه على التضحية، وتحمل المشاق في سبيل الدعوة إلى الخير، والتواصل مع جميع العقلاء من أمم العالم، والتعاون مع كل ذي همة شريفة، ثم راح يدعو غيره ويستحث همم أهل الخير والفضيلة من حوله.

ولعلي أوفق إذا قلت إن خلاصة المشروع الفكري والعلمي والتربوي للأستاذ محمد فتح الله كولن يجتمع في أصلين اثنين؛ هما أصل وجوب الوعي بموطن الداء ورصد العلل لأن معرفة الداء وسببه وموضعه نصف الدواء، وأصل العمل بناء على هذه العلل ومداواة هذه الأسقام. وهذا كما عبر أصحاب الزهد والسلوك بقولهم “التخْلية ثم التحْلية”، أي معرفة الانحراف والمجاهدة في التخلي عنه، ومعرفة مقابله والمجاهدة في الاستقامة عليه. وهذا المسلك في كل عصر بحسبه ووفق ظروفه وأحواله. ومن هنا كانت الحاجة إلى معرفة المسلم أحوال عصره وظروف زمانه وحوادث إبانه. وعلى هذا المسلك راح الأستاذ كولن يرصد بدقة عالية علل الأمة ومعوقات سؤددها وموانع نهضتها، فاجتمعت عنده في الأمية والجهل، والفقر والحاجة، والاختلاف والتنازع. ثم توجه بالجدِّ والمجاهدة من أجل تحلية أمته بالعلم الذي هو جمال العقل، وفضاؤه المدارس والمعاهد والجامعات، والاستجابة لحاجات الناس عن طريق العمل الاجتماعي والإحسان والتضامن وبذل المال كل واحد بحسبه، والتربية على الحس الاجتماعي عن طريق التربية الروحية والتزكية النفسية؛ لاتقاء أمراض القلوب من العجب والكبر والشهرة حتى تذوب “الأنا” في “نحن”، وتتحلل النوازع الفردية في الشخصية المعنوية للجماعة.

الإيمان الذي يستقر في القلب، لا معنى له حتى يثمر عملاً، والمعارف المستقرة في العقول، لا اعتبار لها حتى تتحول إلى قوة محرِّكة.

وجماع كل ذلك هو الإصغاء لمنطق العقل وتحكيم قانون العلم ومعرفة الطبيعة والإصغاء لسنن الكون والحياة، والتحليق في عوالم الروح وممارسة التفاعل الذوقي القلبي مع العالم من حولنا، والتأليف بين القلب والعقل، والغيب والشهادة، والجمع بين الحياة الدنيا حياة العمل والتكليف والحياة الآخرة حياة الحساب والجزاء، والتجمل بلباس حسن الخلق والحب والاهتمام والتسامح إزاء المخلوقات.

ولا ينسى الأستاذ كولن أن هذا المشروع عظيم، لا يناسبه إلا علو الهمة وصدق النية، ولن يستقل به جهد الفرد الواحد، وإنما هو عمل جماعة متساندة متكاملة الخبرات، بالغة أقصى الغايات في الحذر من هوى النفس. هؤلاء هم أصحاب المشروع، وهم “مجانين” في نظر أهل الهمم الفاترة التي تنهزم أمام هوى النفس كما هو حال الكثير من أهل هذا الزمان. فلمن أراد حمل هذا المشروع يقول: “تشبَّع بحب الله إلى حد الجنون..لا يغرنك عنه حسن ولا يفتننك عنه جمال.. ارق على كل المعدلات وتسام على كل المقاييس.. ارفع شعار الثورة ضد كل مألوف واهتف كما هتف الرومي “هلمّ إليّ يا إنسان”، ثم ادفن نفسك في غياهب النسيان.. ناد كما نادى بديع الزمان “وا إنسانيتاه”، ثم امض ولا تفكر بسعادتك الشخصية.. أجل انس رغد الحياة، انس البيت والولد، واسلك درب أهل السمو الواصلين لتكون من الناجين.

“مجانين أريد، حفنة من المجانين… يثورون على كل المعايير المألوفة، يتجاوزون كل المقاييس المعروفة. وبينما الناس إلى المغريات يتهفاتون، هؤلاء منها يفرون وإليها لا يلتفتون… أريد حفنة ممن نسبوا إلى خفة العقل لشدة حرصهم على دينهم وتعلقهم بنشر إيمانهم. هؤلاء هم “المجانين” الذين مدحهم سيد المرسلين، إذ لا يفكرون بملذات أنفسهم، ولا يتطلعون إلى منصب أو شهرة أوجاه، ولا يرومون متعة الدنيا ومالها، ولا يفتنون بالأهل والبنين”.

فهذا هو مشروع إعادة البعث الحضاري، وهؤلاء هم رجاله الذين لا يجوز أن يبتعدوا كثيرًا عن الجيل الذهبي جيل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.

وكتاب “ونحن نبني حضارتنا” لا يخرج عن هذه القاعدة، فهو على وجازته خلاصة جامعة للأسس الفكرية والشروط العملية لإعادة بناء الحضارة، فهو عبارة عن قواعد كلية وأصول عامة.

وهذه القواعد منها ما ينتزع من كلامه وتعبيره، مثل قوله: “التعرف على صوت العصر مع الحفاظ على الأصل والذات”، ومنها ما ينتزع من خلال معنى يتكرر في الكتاب في أكثر من مناسبة مما يعطيه قوة في الحجة. إن البناء الحضاري كما وضعه الأستاذ فتح الله كولن وكما تصوره، يقوم على اثنتي عشرة قاعدة، على عدد العيون التي فجرها الله تعالى لموسى عليه السلام، فلعل هذه القواعد تتفجر في دنيا المسلمين اليوم فتروي ظمأ العالم وتشبع “الجوع القلبي والروحي” بتعبير الأستاذ فتح الله كولن.

1- امتزاج العقل والقلب وتلازم العلم والإيمان: ومنطلق هذه القاعدة هو الغلط العظيم والانحراف الكبير الذي طبع الحياة المعاصرة، وهو “الانصراف إلى إشباع الرغبات الجسمانية، في حين أن لهف الإنسانية أو حاجتها ترجع إلى الجوع القلبي والروحي”. فالشرط الأول للنهضة المعاصرة، هو حصول اليقين بأن الجوع القلبي والروحي أعظم خطرًا من الجوع الجسمي، فتتوقف الحضارة والنهضة على التوحيد الفكري والنفسي بين الطبيعة والروح، ثم التنزيل العملي وممارسة الحياة اليومية، بالتفاعل والتمازج بين جمال الوجدان ورقة الروح وبين ضوابط العقل وصرامة أحكامه. فلا بد من التأليف بين رغبات الجسد وحاجات الروح، بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بين الوحي والعقل، بين علوم الكون وعلوم الوحي وإزالة هذا الفصام المتوهم والتمزق الموضوع زورًا وبهتانًا.

فهذا هو الميلاد الجديد المرتقب “تزاوج جديد بين القلب والعقل.. هذا الميلاد هو ميلاد ربط الوجود بمالكه الحقيقي حسب وعي العصر وإدراكه مرة أخرى بتفسير الوجود من جديد، وميلاد خلاص الإنسان من التناقضات الداخلية”. فبهذه القاعدة تنسجم جميع جوانب الوجود وتتآزر قوى الإنسان الروحية والمعنوية والعقلية والمادية، وتتوحد العلوم فتكون بمنزلة لغات مختلفة، لكنها تترجم عن معنى واحد هو معرفة الله تعالى ومعرفة جلاله وكماله وجماله ومحبته، وما يلازم ذلك من محبة الخلق والسعي في مصالحهم.

لا ينبغي الجمود عند العلم المجرد، وإنما مزج العلم بالعمل وتحويل المعلومات والمعارف إلى قوة محركة

2- التعرف على صوت العصر مع الحفاظ على الأصل والذات: فالمسلم يكون ابن عصره وشاهد زمانه، يعرف لغته العلمية كما يعرف لغته البيانية، مع معرفة الذات والحفاظ على الماضي المكتسب، أي “جعل القديم أساسًا متينًا يقام عليه الجديد وتطوير القديم بمعطيات الجديد” حسب تعبير الأستاذ كولن.

3- الاستجابة لمطالب البشر مع رضا الله تعالى: وهما أمران متلازمان تقتضيهما حقيقة الإسلام، لأن “القلب الذي يتوطد فيه الإسلام، يمتلئ بالحب والاهتمام والتسامح إزاء المخلوقات إجلالاً للخالق، والمصنوعات إجلالاً للصانع”. فالإسلام يتطلع إلى “القيم العالمية في نقطة الالتقاء بين سعادة الناس ورضا الحق تعالى، لتتحقق إرادة الله تعالى الشرعية، وتتحقق مطالب البشر في آن واحد”.

4- اتقاء جميع أنواع العبودية: ومنها الهوى، والقوة، والشهرة، وغيرها، لأنها رعونات ومحبطات للأعمال. ولا يتحقق ذلك إلا بالعبودية للحق والمجاهدة فيها وما أعظمها من مجاهدة.

5- العمل الجماعي والتكامل المعرفي: وهو اتقاء الأنانية والفردية، وتلاقح الأفكار وتكامل المعارف، واستنفار كل من له خبرة وقول في الموضوع. ومن جميل ما يلاحظ أن الأستاذ فتح الله كولن كان شديدًا في مراعاة هذا الأصل حتى صار ملكة له يجري على لسانه، ولا يفارق الحس الجماعي ما يسطره بقلمه. فتجده حاضرًا في عناوين كتبه عندما يصوغها بضمير الجماعة الذي يفيد الانتماء والاجتماع على العمل، فمن كتبه مثلاً “ونحن نقيم صرح الروح”، و”ونحن نبني حضارتنا”. وأثناء صياغة العناوين الفرعية، نجد -مثلاً- في كتاب “ونحن نقيم صرح الروح”: “أثناء استكشافنا خط السير”، و”نحو عالمنا الذاتي”، و”فلسفة الحياة عندنا”، و”نحن نولي وجوهنا شطر أنفسنا”. وفي تحريره لأفكاره وتفصيله لجزئيات كتبه، تجد الكلام بضمير الجماعة غالبًا، وبهذه النفس صاغ كتابه “ونحن نبني حضارتنا”، وهو ظاهر فيه بما لا يحتاج معه إلى التمثيل، بل ليس في الكتاب كلام بضمير المتكلم.

6- الحذر من هوى النفس وميل العواطف: وذلك بملازمة قواعد التربية الروحية والتزكية النفسية واتقاء أمراض النفوس. فالتربية هي التي تحمل على الحذر دائمًا من أيّ انزلاق أو انحراف بملاحظة احتمال الضعف البشري، وفي حال التعثر، المبادرة بالاعتراف والتوبة والإنابة.

7- العمل بالهدف والمقصد: لأن المقصد والحكمة مطلب عقلي وخلق إيماني. وذلك من مقتضى التخلق بالحظ البشري من اسم “الحكيم”. فكما تتجلى الحكمة في أوامر الله تعالى وتصرفاته وأفعاله، فليحرص العبد على العمل بالحكمة، والتدبير والتنظيم، وتحديد الغايات، واعتبار المآلات. فالمسلمون في هذا الزمان ملزمون بفتح مراكز التخطيط، وضبط الدراسات المستقبلية، وغيرها مما يفتحه العصر الحاضر من وسائل الإدارة وتدبير الأعمال، حتى تؤتي الوسائل المتوفرة أهدافها، وتحقق غاياتها.

8- عشق العلم وشوق البحث: بأن يكون العلم جهادًا، وفضاءاته أماكن للعبادة، ومختبراته محاريب للطاعة والقربى، والبيئة مشاتل للعبقرية، والعالِم من أهل الحظوة، والمتفوق من أهل المكافأة والتشريف. ومن لوازم ذلك أن تتوجه الأمة كلها إلى التعليم والبحث، مع اليقين بأن بناء مدرسة، أو تأسيس جامعة، أو فتح مركز للبحث والدراسة في مجالات العلم المختلفة التي تحتاجها الأمة، لا يقل في الأجر عن تجهيز جيش لمعركة حاسمة يرفع بها الظلم وتسترد بها الحقوق. فالعلم والبحث وجه من وجوه الجهاد، ومن ظن أن الخروج في طلب العلم، وأن ملازمة مراكز البحث ومختبرات المعرفة ليس بجهاد، فقد ناقض أمر الله تعالى في كتابه، وتنكب عن الهدي النبوي الذي رفع العلم والعلماء إلى المقام الأعلى والمكان الأسمى.

9- ضبط الفضاء العام وغربلة البيئة: فالفضاء العام موطن للتربية لا بد أن ينسجم مع المدرسة. ثم إن الوسط المناسب شرط للعبقرية والنبوغ. فهناك قدر كبير من التعلم لا يكون في الأسرة ولا في المدرسة، وإنما يتم في الوسط الاجتماعي. و”التعلم الاجتماعي” هذا مرحلة من مراحل التعليم، والوسط الاجتماعي فضاء للتربية تستعمل فيه تلقائيًّا قوانين الملاحظة والمعاينة المتكررة، وعن طريقها يكتسب الإنسان -خاصة في مرحلة الطفولة- كثيرًا من قواعد السلوك والقيم. فلا بد من العناية البالغة بالفضاء العام حتى يكون صالحًا للتعلم الاجتماعي.

10- النية الحسنة مع الضبط والخبرة: فهذان ركنان يقوم عليهما الإتقان والإحسان، وتتم بهما جودة العمل واستقامة سير الحياة. فأي “نشاط أوحركة معينة مهما تمثلت بمشاعر مخلصة، قد لا تكون بنّاءة دائمًا. إن النية الخالصة جديرة بالتقدير باعتبارها بُعدًا معنويًّا في الأعمال الصائبة، لكن لا تحمل المعنى نفسه البتة إذا كانت وصفًا من أوصاف العمل الخاطئ”. فكل عمل أو مهمة أو وظيفة، لابد فيها من هذين الركنين، ولا يكفي أحدهما عن الآخر بحال، وبتخلف واحد منهما يختل العمل ولا تتحقق النتائج المرجوة. فالأمانة والنية الحسنة، هي التي تعصم من الخيانة وسوء القصد. ومعلوم أن الخيانة وسوء القصد أصل الخلل وسبب الفساد. وبالضبط والخبرة والتخصص، ينتظم سير العمل وتحترم قوانين العلم. وإذا تخلف الضبط والخبرة اختل العمل، حتى ولو كان القائم به ورعًا أمينًا حسن النية. وأصل هذا في القرآن الكريم قول الله تعالى في حكاية قول يوسف : قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(يوسف:55)، فجعل سبب استحقاقه الولاية على خزائن الأرض والإشراف على مهمة الاقتصاد والزراعة في مصر، جمعه بين هذين الركنين وهما الحفظ والعلم. أما الحفظ فهو الأمانة التي تجعله يحفظ عمله، وحسن النية والقصد إلى أداء مهمته بإحسان وإتقان، والحذر من الخيانة والغلول. وأما العلم فهو الخبرة بشؤون الزراعة والتخصص في أمورها.

11- رصد شروط النهضة التي مضت في تاريخ الأمة: فلا بد من الحذر من اصطناع التعارض بين الحاضر والماضي، وإنما المطلوب استحضار الصفحات المشرقة والإفادة منها في معرفة أسباب الرقي والنهضة. وهذا هو المعنى الحقيقي لمحبة السلف والاقتداء بهم، من نشر الخير ومحبتهم للخلق، والعلم والمعرفة والتفاني فيهما، والتواصل والتعارف، واستحضار نفس الجماعة، وتعهد النفس بالتربية والتزكية. وقد اجتهد الأستاذ فتح الله كولن في رصد ما تحلى به الصحابة الكرام -الذين وصفهم بالمهندسين العظام لتاريخ أمتنا- مما هو أعظم مجال للمنافسة بين المسلمين في التأسي والتحلي.

12- التحقق بحقيقة الإسلام والإيمان في الشمول والسعة والعمل والحركة: فالإسلام والإيمان لهما مفهوم عملي، وهما أحكام تجري في اليوم والليلة في كل فضاءات الحياة. فالإيمان الذي يستقر في القلب، لا معنى له حتى يثمر عملاً، والمعارف المستقرة في العقول، لا اعتبار لها حتى تتحول إلى قوة محرِّكة. فلا ينبغي الجمود عند العلم المجرد، وإنما مزج العلم بالعمل وتحويل المعلومات والمعارف إلى قوة محركة. وبتعبير آخر للأستاذ فتح الله كولن، أن يكون المسلم والإسلام “صرحًا للإيمان والحركية” كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المعنى الحقيقي للاقتداء والتأسي بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فالإسلام “إيمان، وعبادة، وأخلاق، ونظام يرفع القيم الإنسانية إلى الأعلى، وفكر، وعلم، وفن. وهو يتناول الحياة كلاًّ متكاملاً.. الإسلام موجود وحركي في الحياة بكل مساحاتها، من القضايا العقدية إلى الأنشطة الفنية والثقافية.. وذلك هو أهم الأمارات والأسس لحيويته وعالميته الأبدية”.

(*) كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير / المغرب.