غشيتنا غاشية الذنوب، وأحدقت بنا الخطوب، حتى أكلت منا القلوب، وأسقمتْ منَّا النفوس، فجَفَّ الينبوع على الوارد العطشان، فاصفرَّ غصنه الأخضر الريَّان، وغدتْ الأفنان الميَّادة حطبًا للنيران.. مما جعل طير الأشواق يفرش جناحيه ويغادر المكان، أما بلبل الوجد الصدَّاح فقد غاب هو كذلك وراء الآفاق.

وتراكمت الذنوب وعلاَ بعضها فوق بعض، فَسَدَّت المنافذ على الغيوب وأوصدت الأبواب دون عوالم الملكوت.

فغدونا للأرض خدَّامًا، وبالهابطات منها والسفليات متعلقين، نعجن بشريتنا بطينها الآسن، ونطعم عقولنا بكل سفساف وتافه وعقيم.

وقلب الكون الخفَّاق لم يعد يستقبل لوعات قلوبنا وأشواق أرواحنا كما كان يستقبلها من قبل وهي في طريقها إلى عوالم الملأ الأعلى.. وحتى عيون الليل زاغتْ دَهِشَةً وهي تفتش عنَّا لعلَّها تلقانا رُكَّعًا سُجَّدًا كما اعتادت أن تلقانا في سالف الأزمان.

وأسماع الليل لم تعد توقر بأنَّات أرواحنا الباكيات الشاجيات، وَهُنَّ يتسلقن أسوار العَتَمَات في الليالي الداجيات، مُحَمَّلاتٍ بالمواجيد والأشواق وقد أَضْنَاهُنَّ البعاد، وأسقمهنَّ الصدود والهجران.

قلوبنا -يا صاحبي- ليستْ ملكًا لنا، فلا ينبغي أن ندعها ملعبًا لعواصف الذنوب والآثام، تتلاعب بها ثُمَّ تخطفها وتهوي بها إلى أي مكان سحيق من الإثم والفسوق والعصيان.. إنها ملك الله، هو الذي سبحانه وضعها في صدورنا لتكون موضع نظره ومأوى تجلياته ومخاطباته ومركز إلهاماته.. ومن هنا كان دم المؤمن أشدّ حرمة من حرمة الكعبة المشرَّفة عند الله تعالى، وكما ورد في الأثر “ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن”، ليس من أجل وجوده المادي والطيني، بل من أجل القلب الذي يحمله في صدره، لأنه كما الكعبة هي بيت الله، فكذلك قلب المؤمن هو بيت الله، بل عرشه في عالم الإنسان، والمنزل الذي ينزله متى شاء وبالكيفية التي يشاء، فوجب أن يكون طاهرًا نظيفًا مبرءًا من الآثام والشرور، لكي يكون جديرًا باستقبال تجليات ملك الملوك، أو إذا تلطف على عبده بنظرة أو لمحة.

لا تكن للقلب معطِّلاً وبه مستهينًا، فصلاح بشريّتك بصلاحه، بل صلاح العالم بصلاحه، منه تتفجر ينابيع الرحمة وتتدفق سيول الحب والإشفاق، وبه تقوم كوابح الضمير، وتشتعل منائر الهدى، وتضيء سبل الرشاد، وتعلو هامات البطولات، وتنشأ العبقريات، وعليه تتنزَّل النبوات والرسالات.. فنحن نكافح بالكلمة والقلم لإنشاء أمثال هذه القلوب في الصدور، قلوب عصية على الذنوب، تتعشق الطهر والنقاء وتتسامى إلى العلاء.. قلوبٌ نيران أشواقها لا تنطفئ، فهي سرمدية اللوعات والأنات، يموت صاحبها ويقبر بينما يظلُّ قلبه يردد في قبره: الله، الله، الله، إلى يوم البعث العظيم.

فنبضات قلبك -يا مؤمن- تتصادى في نبضات قلب الوجود، لا بل هو يستمد من قلبك نبضاته. فلولاك ما قام للوجود مقام، ولا وجد له مكانًا. فالقلب البشري أسبق في الخلق من قلب الوجود، فمنذ سأل الله تعالى البشرية وهي في عالم الذر “ألست بربكم” فأجابت القلوب “بلى”، لذلك فهو مسخر لك، وقائم في خدمتك، وما معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا مظهرًا من مظاهر هذه الخدمة، واستجابة لإرادات القلوب النبوية الشريفة والطاهرة. ومن هنا يمكن أن نفهم الحديث -إذا صَحَّ- “لولاك لولاك لما خلقتُ الأفلاك”؛ فالأفلاك -حسب منطوق الحديث- خلقت من أجل أكرم المرسلين على الله سبحانه وتعالى، ومن أجل قلبه الطاهر المشرف بالنبوة والرسالة.

فقلب “النبي” عليه أفضل الصلاة والتسليم وقلب الوجود يتساقيان فيما بينهما المعارف والمعاني والأفكار، ومن تساقيهما تنشأ حضارات الإيمان وتقوم صروح الروح، وتتعالى المثل والقيم، ويصبح لكل شيء معنى ومغزى، وغاية وهدف، وتتلاشى العبثية، وتختفي “اللاأدرية”، وينزل “النبي”  إلى حومة إشكالات العالم ويسهم في حلّها ولا يبقى يتفرج عليها من بعيد كما لو كانت لا تعنيه وهي من صميم عمله وشريعته ورسالته.

مُنَادٍ من بعيد ينادي:

يا أصحاب القلوب الطاهرة المتطهرة، الضارعة المتضرعة، الحَوَّامة الهوَّامة، الصوَّامة القوَّامة، السابحة في الملك والملكوت، الشاخصة بعيونها إلى خالق الوجود، والرب المعبود، عالم الغيب والشهود.

أنتِ أيتها القلوب مادة حياة الإنسان، وجوهرة خُلُقِه وخليقته، والحياة السارية في موات الأرض، والروح المحرك لسواكن الأفئدة، ونفخة القيام من أجداث الغفلة والجهل، البانية لصروح المعرفة والعرفان، الضاربة في أرض الإنسان، تُعَلِّمين وتثقفين، وتأتينه من باب عقله وقلبه، ونوافذ روحه.. ملعون ملعون مَنْ يرد بك سوءًا، أو يضمر لك شرًّا، ويهدم لك صرحًا ابتنيته من حبَّات مهجك وعجنتِ لبناتِه بدموعك، ووضعت فيه أمل أمة، ومستقبل دين، وأصول حضارة، وأرحام ولادات جديدة مبرأة من الأدران، نقية من الأقذار.. عارفة بربها، شاكرة لخالقها، تبني ولا تهدم، تجمع ولا تفرّق.. نقية القلب، عفيفة اللسان، كريمة الأخلاق، تحب ولا تبغض، تنفع ولا تَضُرّ.

لا تُراعوا.. اقتربوا من هذه القلوب بصمت وهدوء، ثم غوصوا في عمق أعماقها لتجدوا أقوات نفوسكم الجوعى، وسلسبيل أرواحكم العطشى.. فإذا فعلتم خرجتم سالمين من “اللاهدفية” المنغمرين بها، “واللاأدرية” التي أضنت عقولكم.. ووجدتم المبررات التي تدعم خليقتكم ووجودكم الإنساني فوق هذه الأرض.. وبات لُغْزُ الحياة المقمَّط بالآف القُمط والحجب ظاهرًا مكشوفًا.

خذوا بحجز أفكاركم المغامرة في لجج الشكوك، وأنقذوا غرقاها من بحر الظلمات، فإذا بقواكم الروحية المعطّلة الطاقات تبدأ الحراك، وتخرق الآفاق، مسبحة باسم “الواحد الخلاَّق”.

 

(*) كاتب وأديب عراقي.