قصة مجهولة البداية ومجهولة النهاية

أسألك يا أخي الكريم أكرمك الله تعالى، هل سبق أن شاهدت مسرحية أو قرأت قصة مجهولة البداية والنهاية في عالمك، تتحول بعد النهاية إلى قصة معلومة البداية بلا نهاية؟

أظنك ستقول لي لقد شاهدت مسرحيات، وقرأت قصصًا إما معروفة البداية ومجهولة النهاية، أو مجهولة البداية ومعروفة النهاية، لكني لم أشاهد في حياتي ما هو مجهول البداية ومجهول النهاية.

سأجيبك عن السؤال بشرط أن نقدم لك برهانًا عقليًّا دالاً على قدرة الله تعالى، وهو أن الإنسان ارتبطت بدايته ببداية شيء قبله وهو الكون، الذي لا يمكن عقلاً أن لا تكون له بداية، فإن لم تكن له بداية، دل ذلك على أنه هو الصانع، لأن الصانع من أهم لوازمه أن لا تكون له بداية ولا نهاية. قال ابن أبي زيد القيرواني: “ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء لا يبلغ كنه صفته الواصفون ولا يحيط بأمره المتفكرون، يعتبر المتفكرون بآياته ولا يتفكرون في مائية ذاته”.

ويترتب عن هذا سؤال آخر وهو هل يمكن للكون أن يكون هو الصانع؟

العقل لا يتصور ذلك، لأن الكون لا أثر له في إرادتي وحريتي وهدايتي، فهو عنصر يتعايش معي، ولايستطيع أن يحيني أو يميتني، قال تعالى:(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(الشعراء:78- 82).

إن  الإنسان ارتبطت بدايته ببداية شيء قبله وهو الكون، الذي لا يمكن عقلاً أن لا تكون له بداية، فإن لم تكن له بداية، دل ذلك على أنه هو الصانع، لأن الصانع من أهم لوازمه أن لا تكون له بداية ولا نهاية.

أي لا يمتلك القدرة على أن يتحاور معي ويقنعني بكل ما يريد، فدل ذلك أنه ليس هو الخالق، لأننا نرى الإنسان يمتلك القدرة على أن يستثمر ويسخر الكون بكل موجوداته، ويتمتع بكل ما فيه، وكأنه هو المالك، بل إن الخالق ركب فيه الإحساس بأن هذا الكون له، قال تعالى:(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(البقرة:29، يأمر الله الإنسان ليسخره وينتفع به، بل إنه يصرح بأنه جعل الكون كله للإنسان، قال تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة:22).

فلو كان الكون هو الصانع، لا ستحال على الإنسان أن يحس بقدرته على امتلاكه، والرغبة في تسخيره، فاقتضى الأمر أن الكون نفسه خاضع لما يخضع له الإنسان وهو أن له بداية، لا يستطيع هو أن يدركها.

وهنا يثار سؤال عميق وهو متى كانت بداية الإنسان؟ لا أحد يستطيع أن يجيب على هذا السؤال، لأن الجواب يتطلب مشاهدة الحدث، والحضور فيه، وهذا ما لم يحصل لأحد من الناس، ولم يدعيه أحد من الناس، ولا يمكن أن يقع لأحد من الناس، لأنه غير ممكن عقلاً، وهو ما يجعل الإنسان في حيز المخلوقية، يحتاج في أعماقه إلى خالقه، ويبق لهفًا متشوقًا لمعرفته حتى ولو أخطأ التقدير.

قال تعالى: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا)(الكهف:51).

ما يمكن أن يستعان به لمعرفة ذلك، هو الوحي الذي قص الحدث باعتبار أنه كلام الخالق تعالى، وهو ما ورد ذلك في قوله تعالى :(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)(البقرة:30- 34).

فبقي أن الإنسان يجهل بدايته الأولى، وهذا الأمر يستلزم عقلاً أن يجهل الإنسان نهايته، ولهذا لا يستطيع أي إنسان أن يتنبأ بنهايته بنفسه، بله نهاية هذا الكون الذي يعيش فيه، وبما أن الإنسان يجهل نهايته فهو من المخلوقات التي تعيش في نظام وضعه الخالق، ويسيره بقدرته الخارقة ولا يستطيع الإنسان، أن يحيط خبرًا بهذا الخالق الذي أوجده في هذا الوجود وأخضعه لقوانين لا يستطيع الإنسان أن ينفلت منها ويتخلص من أسرها، ومن أعظم هذه القوانين أن لكل شيء بداية ونهاية، وهذا القانون يثبت بما لا يدع مجالاً للاعتراض أن الإنسان مخلوق، وأنه هناك خالقًا لا يستطيع الإنسان أن يحيط به، كما لا يستطيع أن يتعرف هو بنفسه على بدايته الأولى ونهايته، فإن أمكن ذلك فليعطي الإنسان البرهان على ذلك من بداية خلقه، وهو غير ممكن، فهب لو أنه أعطاه، فيسأل هل هو قادر أن ينتهي به هذا الوجود، ويبقى لوحده هذا المدعي دون سائر البرية، فهذا مما يستحيل ولو ولج الجمل في سم الخياط.

فتحصل مما سبق أن جهل الإنسان لبدايته حسًا وعقلاً، وجهله لنهايته إدراكًا وعلمًا، أمر مقطوع به، لولا ألطاف علم الوحي الذي كشف الغطاء وأزال الحجاب عن الإنسان، فعرفه بدايته الأولى، ونال الإحساس بأنه مهما طال زمانه فلابد له من نهاية، فعلمه الوحي أنه معلوم البداية ومعلوم النهاية، وهو ما جعله يستثمر هذا القانون، لكي لا يكون لوجوده بداية أو نهاية، وذلك ما يتحقق له بالعبودية التامة لله تعالى، التي تجعله حيًّا لا يموت، لا تعتريه النهاية المطلقة مادام منخرطًا في عبادته وتوحيده، ومعاشرة القرآن الذي هو صفة من صفات الله تعالى الذي وصفه الله تعالى بقوله:” (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)(الكهف:109).

وكل هذا ليتنبه لنور هذا الوحي الذي أنار طريق البشرية لتعرف بدايتها، فلا تحس بنهايتها ما دامت عاملة بهدي القرآن الكريم، داخلة في سلك العبودية، وخادمة للمملكة الربانية.