قصة إنسان في رحلة الحياة

 على هامش إحدى الاستحقاقات الفكرية التي يزخر بها الفضاء الجامعي، دار بيني وبين أحد الباحثين حوار سأحاول سرده كأنه حكاية تُروى من واقع هذا الزمان، حيث بادرني صاحبي بالسؤال:

– كيف حالك؟

– الحمد لله.

– ومن هو الله؟

فكان جوابي ما جاء على لسان موسى عليه السلام مخاطبًا فرعون:

– هو ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(طه:50).

– هل تقصد بـ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ كل ما هو موجود؟

– بالتأكيد… كل المخلوقات من صنع الله الذي أتقن كل شيء.

– دعنا مع الإنسان محور كل المنظومات والأنساق، والذي استطاع أن يُخضع كل ما حوله لإرادته، وصاغ أنماطًا في الحياة إلى درجة مكنته من استنساخ الخلايا والأعضاء، أهو في اعتقادك خالق أم مخلوق؟

– إنه مخلوق بالتأكيد، وفي خلقه عبرة واعتبار.

– إذا سلّمنا بما تقول، فما الغاية من خلقه؟

– إن الله تعالى أنعم على الإنسان بنعمتين، نعمة الإيجاد حيث أوجده من عدم: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾(الإنسان:1)، ونعمة الإمداد حيث أمدّه بالقدرة والإرادة على تحقيق الأهداف المنشودة من وراء وجوده، وذلك في دائرة ما يُرضي الله لتبقى الغاية السامية من خلقه هي تحقيق العبادة بمفهومها الشامل، تلك العبادة التي تُفضي إلى الشعور بالسعادة.

– تجاوزًا، يُمكن أن أفهم نعمة الإيجاد، فما علاقتها بنعمة الإمداد وبسؤال القدرات والإرادات؟

– إن أجمل ما أمدّ الله به الإنسان هو الإرادة والقدرة على الفعل وممارسة القراءة والفهم، وذلك بتوظيف العقل والقلب كمصدرين لتحصيل المعرفة… فوظيفة العقل، التمييز بين مسارات الخير والشر، والحق والباطل، والظلم والعدل، وعمومًا بين ما هو صالح وطالح… فالإنسان مسؤول عن توظيف ذكاء عقله واستثمار قدراته الفكرية، لتحقيق الغاية من وجوده حيث مُنح نعمة الإيجاد.

هنا قاطعني صاحبي…

– إن الذكاء ليس حكرًا على الإنسان، بل يتعداه ليطال الكائنات الأخرى وهذا بشهادة العلم… فما رأيك؟

– حقيقة ما تُسمّيه ذكاء لدى الكائنات الأخرى نُسمّيه هداية… فلو كانت الأسماك ذكية لما استطاع الصياد النيل منها بطرق تقليدية، ولاستدعى ذلك توظيف تقنيات جدّ متطورة تتناسب وقوة ذكائها في عملية الصيد… ونفس المنطق يسري على أمثلة عديدة ومتنوعة بقوة السُّنن الطبيعية.

– وماذا تقول عن ظاهرة هجرة الطيور والأسماك بدافع الغريزة بحثًا عن أماكن أكثر سخاء وأمنًا؟

– ومن سمّى الدافعية لهذا السلوك الحيواني بـ”الغريزة”؟

– إنهم علماء الطبيعة الذين استطاعوا استقراء واستنباط قوانينها.

– جيد جدًّا… لكن خالق الطبيعة وواضع قوانينها سمّى هذه الدافعية “هداية”. وحتى أكون أكثر توضيحًا، فإن مصطلح “الهداية” يكتسي أشكالاً عديدة… فهناك هداية الكتاب والرّسل، وهداية التأمل والاعتبار، وهداية التوفيق والخلق وهذا بيت القصيد، يقول تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾(الأعلى:1-3).

– إنه توظيف لمصطلح الهداية في كل شيء… فلم يبق لك سوى إدراجه في منظومتي الزمان والمكان.

– نحن نُساق إلى الله بالزمان، ذاك الوعاء الذي نسعى جاهدين لملئه بما هو مفيد. فتلك صحائفنا نملؤها بما نشاء. ولقد أبدع الحسن البصري حين قال: “يا ابن آدم إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك… ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وقد علمتَ فاعمل”. هكذا أضحى لزامًا أن نملأ وعاءنا الزمني في إطار الحيّز المكاني الذي نتحرك فيه بغية الحفاظ على الميزان، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾(الرحمن:8-9). ولقد أتى على لسان السلف الصالح أن الصلوات الخمس تُسمّى بـ”ميزان اليوم”، والجمعة بـ”ميزان الأسبوع”، ورمضان بـ”ميزان العام”، والحج بـ”ميزان العمر”. حيث كان حرصُهم على سلامة اليوم، فالأسبوع، ثم العام، لينتهي بهم الأمر إلى سلامة العُمر فيما يرضي الله وهذا مسك الختام.

فعامل الزمان، هو الذي يتحكّم في وجودك ومظهرك وقدراتك… فلقد خُلقت من ضعفـ ثم وُهبت قوّة ليشتعل بعد ذلك رأسك شيبًا حتى لا تعلم بعد علم شيئًا… إنها سنّة الله في خلقه؛ حيث جعل الزمان عنصر ردع وقهر للإنسان، كي لا يزيغ وينحدر إلى مسلكيات ومُنعرجات الفساد… إنها…

قاطعني صاحبي سائلاً:

– لقد أسهبت في الكلام عن الزمان، أرجوك لا تسترسل كثيرًا في الحديث عن المكان.

– المكان هو المجال الذي سخره الله للإنسان لكي يحيا ويتحرك فيه: ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾(البقرة:36)… فقبل خلق الإنسان أوجد الله المكان وأودع فيه نظامًا تكوينيًّا بميزانٍ وبقدرٍ معلوم: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾(الرعد:8)، ونهى عن الفساد والعبث فيه: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾(الأعراف:56)… هذا النظام التكويني لا يستقيم إلا بإقامة نظام آخر هو النظام التشريعي، إذ يُمكن اعتبار هذا الأخير، لوحة قيادة، ودليلاً يُحدد للإنسان الوجهة التي عليه أن يسلكها في الحياة، كما يُحدد له هذا النظام طبيعة العلاقة مع الخالق وباقي المخلوقات. فإذا كان تعاملُ الإنسان مع ما هو موجود، وفق التعليمات القرآنية “الدليل”، حصل التناسق والتناغم المُفضيان إلى التوازن، وإلا ظهر الفساد بما كسبت أيدي الإنسان وعمّ أرجاء المعمورة وما حولها.

– ماذا تقصد بالفساد؟

– الفساد منظومة أصبح لها آلياتها وأدواتها ومن يخطط لها ويدبّر شأنها… كما أن هناك أنماطًا عديدة من الفساد نذكر منها؛ الفساد الأخلاقي والتلوّث البيئي والإعلامي وبصفة عامة، مُحاولة تغيير اتجاه البوصلة والعبث بمضمون الدليل.

– هذا أمر طبيعي وتجل عادي للممارسات الإنسانية في الحياة قد يُفرزهما المجتمع في حركيته… ليبقى سؤالي لك عن كيفية معالجة هذه الظواهر الإنسانية.

– ما تقوله صحيح، إلا أن الأمر يرتبط بمدى إدراك الإنسان لما يسمّى بـ”الميزان” في منظومة الحياة وممارسته لعملية الفهم والقراءة الصحيحة والإحسان في التعامل مع كل ما هو موجو.

– هل من توضيح أكثر؟

– أولاً، فيما يخص الميزان، فإننا نعني به إقامة النظام التشريعي من أجل استقامة النظام التكويني، لأن تعطيل النظام الأول قد يُخلُّ بالثاني، وهذا يتطلب من إنسان هذا العصر، امتلاك مهارات وتقنيات القراءة والإتقان في الأداء والممارسة بما يحافظ على الميزان الناتج عن التفاعل بين النظامين المذكورين أعلاه.

ثانيًا، أما بالنسبة للقراءة، فإن لكل نظام كتابًا خاصًّا به، كتابًا مقروءًا ومسطورًا (القرآن الكريم) لمقاربة النظام التشريعي، وكتابًا منشورًا ومنظورًا (الكون) لمقاربة النظام التكويني… ولكل كتاب قراءة خاصة به: التدبر في كتاب الله: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾(محمد:24)، والتفكّر في خلق الله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ﴾(آل عمران:191). ومُمارسة القراءتين معًا، لابد أن تفضي إلى استخلاص العبر والنماذج من روعة الخلق وعظمة الخالق، ولك في مختلف أوجه الإعجاز (العلمي، الطبّي، العددي..) خير دليل وأحسن القراءات وأجملها: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾(الملك:3).

ثالثًا، إن عملية القراءة التي يقوم بها الإنسان لها مُخرجات، والتي يستطيع من خلالها القيام بعملية التقييم (قراءة ما تمّ فعله) والتخطيط (قراءة ما ينبغي فعله) بما يفضي من جهة إلى الحفاظ على الميزان الخارجي (بين النظام التشريعي والنظام التكويني)، ومن جهة أخرى إلى تفعيل الميزان الداخلي في الكيان الإنساني (بين القلب والعقل كمصدرين أساسين لتحصيل المعرفة الضرورية لممارسة القراءة الصحيحة في الحياة). فسلامة الوجود الإنساني تبقى مرتبطة باستراتيجية تأهيل وتمكين هذا الإنسان.

– مهلاً، عن أيّ تأهيل تتحدث، أرجو تبسيط الأمور والمفاهيم من فضلك.

– إن حركة الإنسان، تقتضي تأهيله وتمكينه من أجل بناء شخصية مُتّزنة ومتوازنة تُجيد فقهَ التّعامل مع الناس، وتحافظ على الموازين في أيّ مكان وزمان، وتحظى بعلاقة عبادة متميزة مع الخالق. وهذا يفترض في إنسان هذا الزمان الذي ظهر فيه الفساد بشتى تجلّياته، أن يمتلك المعرفة العلمية بجانب القيم الأخلاقية.

فكل التوقعات المستقبلية تُنبّئُ بظهور مجتمع الأخلاق على غرار مجتمع المعرفة الذي برز بدوره على حساب مجتمع المادة.

– جميلٌ تصنيفك هذا للمجتمعات الإنسانية، فما هو تصوُّرك لمجتمع الأخلاق الذي تنشده؟

– إن أُولى مُدخلاته تبدأ بقوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾(الإسراء:80)؛ إنها قيمة الصدق كمفتاح، ثانيها: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾(هود:112)؛ إنها قيمة الاستقامة كخط، ثالثها: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ﴾(القصص:77)؛ إنها قيمة الإحسان كعطاء، رابعها: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾(الحجر:85)؛ إنها قيمة الصّفح كجمالية، وخامسها: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(الأنفال:46)؛ إنها قيمة الصبر كمنحة. هذا التصور القيَمي يَستوجب وضع الفعل الإنساني في الإطار الاستراتيجي للدعوة بُغية تكريس وظيفة العبادة والاستخلاف، وهذا لا يتحقق إلا من خلال تحقيق ثلاثية “التمكين-التأييد-التسديد” لمجابهة تحديات هذا العصر: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي اْلأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾(الأعراف:10)، ﴿وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾(آل عمران:13)، ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾(الأنفال:17).

– هل بمقدور مجتمع الأخلاق إنجاز ما فشل في تحقيقه مجتمع المادة والمعرفة؟

– نحن نقول بوجوب الحفاظ على الموازين تحقيقًا للغاية من الوجود: 1- ميزان النظام التشريعي والنظام التكويني، 2- ميزان القلب والعقل، 3- ميزان المعرفة والأخلاق… فلا طغيان ولا استعلاء لعنصر في المعادلة على حساب عنصر آخر. إنها رحلة الحياة، والحياة توشك أن تبلغ منتهاها، رحلةمسارها طويل وشاق، يتطلب إعداد الزاد: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾(البقرة:197).

وإذا كان لكل رحلة نهاية ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾(الرحمن:26)، فنهاية هذه الرحلة تبدأ بقصة أخرى في عالم أسمى، خال من ظواهر الفساد والممارسات الأرضية، حيث يبدأ مسلسل جديد في إطار ملحمة رهيبة، تتشكل عناصرها من عملية حساب وعرض كتاب وعدل ميزان ليس كموازين الدنيا، في دار أخرى تدعى الآخرة.

هنا ارتجف صاحبي عندما انتقلت بفكره من عالم الدنيا الفاني، حيث هدف الإنسان هو البناء المعماري وامتلاك الأدوات والانسياق وراء الشهوات، إلى عالم الخلود، ثم استدرك قائلا:

– ما الهدف من الانتقال لعالم آخر والحديث عن قصة أخرى؟

– إنها انتقال حتمي من عالم مشهود إلى عالم غيبي، يُسأل فيه الإنسان عن عمره فيما أفناه، حيث صاغ قصته في الحياة وحان الأوان لعرضها بكل تفاصيلها وفصولها أمام ملك الناس، بشهادة الملائكة والناس في مشهد رهيب اسمه يوم الحساب، ليقرأ كتابه بنفسه ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾(الإسراء:14).

– مصطلح القراءة من جديد، اقرأ؟

– أجل اقرأ، لكنها قراءة ما قَدّمتَ لحياتك من غير زيادة ولا نقصان. فإذا كانت قراءة الدنيا قراءتين، فقراءة الآخرة قراءة واحدة أمام الواحد الأحد، وهذا إثبات آخر لوحدانية الله، حيث لا يزيغ العقل ولا القلب أمام عظمة الخالق، وأنت في ضيافته وقد انتقلت من عالم العمل بدون حساب إلى عالم الحساب بدون عمل، فإما جنة ونعيم أو نار وجحيم. وهكذا يُسدل الستار عن تجربة الإنسان ورحلته في الحياة. إنها روعة الخلق وحكمة الخالق أمام جهل المخلوق وعظم الأمانة، ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾(الأحزاب:72).

ودّعني صاحبي وهو ينزف عرقًا مما سمع، وأنا أدعو له بالهداية، هداية التوفيق، مستحضرًا قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾(الأعلى:1-3).

– حياك الله.

بعد مغادرة صديقي، حاولت إعادة شريط الحوار بتفاصيله مسائلاً نفسي عن سبب التقصير في التواصل بين الناس، إذ غمرني إحساس غريب بأن شيئًا قد تغير في نفسية صديقي الذي كنت ألمس السخرية والاستعلاء في أسلوبه، حيث كان سؤاله الأول “من هو الله” ليودّعني باسم الله. فسبحان الله… ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(فصلت:34).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) تمت كتابة هذه القصة بالمشاركة بين الأستاذ الدكتور الحسين زايد والأستاذ الدكتور عبد الكبير بلاوشو من كلية العلوم، جامعة محمد الخامس في المغرب، والكاتب العام للهيئة المغربية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة ورئيسها.